رسالة دامسطيوس في السياسة
كتاب تدبير المنزل
رسالة تدبير المنزل لأرسطو
الأحاديث المطربة لابن العبري
رسالة قديمة منسوبة إلى أفلاطون
رسالة دامسطيوس في السياسة
كتاب تدبير المنزل
رسالة تدبير المنزل لأرسطو
الأحاديث المطربة لابن العبري
رسالة قديمة منسوبة إلى أفلاطون
أربع رسائل لقدماء فلاسفة اليونان وابن العبري
أربع رسائل لقدماء فلاسفة اليونان وابن العبري
جمع
لويس شيخو
رسالة دامسطيوس في السياسة
توطئة
أتحفت مجلة المشرق سابقا قراءها بمقالتين فريدتين في السياسة لأعظم فلاسفة العرب، الواحدة لأبي نصر الفارابي نقلناها عن أحد مخطوطات مكتبتنا الشرقية، والأخرى لابن سينا استنسخها حضرة الأب لويس معلوف من بعض مخطوطات مكتبة ليدن الشهيرة في هولندة، ثم طبعناهما في المجموعة الفريدة التي ظهرت في مطبعتنا تحت عنوان «مقالات فلسفية لبعض مشاهير فلاسفة العرب»، وهناك مقالة ثالثة في السياسة (ص40-49) تنسب إلى أرسطاطاليس. وكنا وقفنا على مقالة رابعة في السياسة لأحد قدماء فلاسفة اليونان منقولة إلى العربية في نسخة قديمة وصفناها غير مرة (اطلب المشرق 16 [1913]: 173)، كانت في ملك جناب الأديب جرجس بك صفا، وهي اليوم في عهدة الوجيه أحمد باشا تيمور. وهذه المقالة هي الثالثة من المجموع المذكور تنسب «لدامسطيوس وزير اليان، وهو يوليانوس الملك نقلها ابن زرعة من اللغة السريانية»، كان دامسطيوس
Themistius
خطيبا يونانيا شهيرا، نال في القرن الرابع للمسيح مقاما رفيعا عند ملوك الرومان فاتخذه يوليانوس المعروف بالجاحد كنديمه وأنيسه، ثم خدم خلفه يوفيانوس وجعله ثاودوسيوس الكبير معلما لابنه أركاديوس. توفي دامسطيوس سنة 395م، وخلف عدة آثار فلسفية، ولكننا لم نجد ذكرا لرسالته هذه في السياسة ولعلها ضاعت في اليونانية. وقد عربها أحد مشاهير أرباب النقل من السريانية إسحاق بن زرعة اليعقوبي المتوفى سنة 448ه/1056م. وكان أحد المتقدمين في علم المنطق وعلوم الفلسفة والنقلة المجيدين من اليونانية والسريانية، والظاهر أنه وجد هذه الرسالة منقولة قبله من اليونانية إلى السريانية فحاول تعريبها. فها نحن ننشرها قبل أن تأخذها يد الضياع. هي في الأصل سبعة أوراق من الصفحة 97 إلى 110. أما الملك الذي كتب له دامسطيوس هذه الرسالة فنظنه ثاودوسيوس؛ لأن ما ورد في مطاوي الرسالة من الثناء على الملك ووصف الأحوال لا ينطبق على يوليانوس بل على ثاودوسيوس، والله أعلم. (1) رسالة دامسطيوس وزير اليان وهو يوليانوس الملك في السياسة (نقل ابن زرعة من اللغة السريانية) (97)
فأقول إن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان أكمل الحيوان، وأتمه وجعل فيه قوى ثلاثا: القوة الغاذية ويسميها قوم الشهوانية، ويسميها آخرون النباتية، والقوة الحيوانية، والقوة الناطقة المميزة؛ لأن الإنسان يشارك بالقوة الغاذية النبات إذ كان في النبات قوة جاذبة يجذب بها غذاءه بعروقه من الأرض، وقوة ماسكة يمسك بها الغذاء ويمنعه من أن يجري منه ويسيل، وقوة مغيرة تغيره وتشتبه به، وقوة دافعة تدفع عنه ما فضل عن غذائه. ويشارك البهائم في القوة الحيوانية أعني في الحركة الإرادية والغضب والحس والتنفس، فإن هذه المعاني مشتركة للإنسان ولسائر الحيوان، وإن كانت كلها ليست موجودة في كل حي. وهو له القوة الناطقة التي بها يكون الفكر والفهم وتمييز الأشياء والتماس الفضائل والتقى، فينفصل سائر ما في العالم من (98) الحيوان.
وإذا مال الإنسان إلى الشهوات الجسمية واللذات وانهمك فيها؛ صار مؤثرا في سيرته كسيرة البهائم، وغلب أخس جزئيه على أفضلهما وأشرفهما أعني البدن على النفس، وإذا ارفص (رفض) اللذات الجسمانية كان متألها سالكا السبيل التي يرتضيها الله جل وعز، وهي اللائقة بالإنسان من طريق ما هو إنسان، وكان قد غلب جزءه الأشرف على الأدنى أعني النفس على البدن. ومن أجل أن الإنسان مصنوع من الاستقصات الأربعة
1
وجب اضطرارا أن تلحقه بالأعراض التي تلحق الاستقصات أعني التغير والسيلان. وهذه الأشياء إنما تلحق الجسم وحده، فإن التغير يناله في كيفياته أعني في الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وسائر الكيفيات. والسيلان يناله فيما يتحلل منه؛ وذلك أن جسم الحيوان يتحلل دائما بالحركة وبالحرارة الطبيعية وبالهواء، فيحتاج لذلك إلى أن يحلف (يخلف) عليه مكان ما يتحلل منه وإلا انحل وفسد. والذي يتحلل منه أشياء صلبة وأشياء رطبة وروح، ولذلك احتاج إلى ما يخلف عليه مكان ما يتحلل منه، ويكون من أشياء يابسة وأشياء رطبة وروح وهي الطعام والشراب والنفس، وهذه الثلثة هي الاستقصات الأربعة؛ لأن كل شيء (99) من الأشياء يغتذي ويزيد بما يشاكله، ويعالج ويصلح ما فسد منه بما يضادده (يضاده). فإن الإفراط في الحرارة يرد إلى الاعتدال بالبرودة وإلى البرودة بالحرارة وإلى الرطوبة باليبوسة وإلى اليبوسة بالرطوبة وبالجملة كل ضد بضده.
ولأن الله تبارك وتعالى خلق حس اللمس في الإنسان قويا، جعله به يفضل على سائر الحيوان، وجعل الحلد (الجلد) منه الذي به يحس ملتقاه من خارج رقيقا لطيفا معرى من الشعر المتكاثف، ومن الصوف والريش ومن الوبر والقشور والأصداف التي توجد في الحيوان، فلعدم هذه الأشياء يحتاج الإنسان مع الغذاء إلى اللباس ولهذه الأشياء بأعيانها التي لها احتياج إلى اللباس والغذاء، وبسبب الصيانة أيضا والتحصين احتاج إلى المساكن، فالإنسان مضطر إلى الغذاء لما يستفرغ من بدنه ومضطر إلى اللباس؛ لأن بدنه معرى من جنة توقيه ومن كل ما يدفع المضار الواردة عليه، فهو يحتاج إلى المنزل ليصونه من الحر والبرد ويحوطه من الآفات. ويحتاج إلى العلاج ليغير الكيفيات التي به ولما يناله من تفرق الاتصال.
وكذلك احتاج إلى الصنائع والعلوم التي بها يعلم هذه الأشياء، ولأن الإنسان الواحد ليس يمكنه أن يعمل الأشياء (100) كلها احتاج بعض الناس إلى بعض، ولحاجة بعضهم إلى بعض اجتمع الكثير منهم في موضوع واحد، وعاون بعضهم بعضا في المعاملات والأخذ والعطاء، واتخذوا المدن لينال بعضهم من بعض المنافع من قرب؛ لأن الله جل وعز خلق الإنسان بالطبع يميل إلى الاجتماع والأنس، إذ ليس يكتفي الواحد من الناس بنفسه في الأشياء كلها. ولما اجتمع الناس في المدن وتعاملوا وكانت مذاهبهم في التناصف والتظالم مختلفة، وضع الله جل وعز سننا وفرائض يرجعون إليها ويقفون عندها ونصب لهم حكاما يحفظون السنن، ويأخذونهم باستعمالها لتنتظم أمورهم ويجتمع شملهم، ويزول عنهم التظالم والبعد عما يبدد شملهم ويفسد أحوالهم. •••
ولما كان الشر يدخل على الإنسان؛ إما في نفسه وإما في أهل مدينته وإما من أهل مدينة أخرى، جعل الله جل وعز له ما ينحفظ به من وقوع الشر، وما ينفعه ويداويه إذا وقع في شر. فلما كان الإنسان محتاجا إلى الغذاء للسبب الذي قدمنا ذكره، وإلى التناسل خلق الله عز وجل فيه شهوة هذين، وقرن بهما لذة قوية عجيبة ليضطره إلى استعمالها. وخلق فيه القوة المميزة ليفدد (ليفرز) بها ما يحتاج إليه من هذين، فيستعمله (101) ولا يتبع شهوته في طلب اللذات فيخرج عن حد الإنسانية ويصير في عداد البهائم.
وخلق فيه قوة ثالثة وهي قوة الغضب؛ لتستعين بها القوة المميزة على ضبط الشهوة وقهرها. فبين أن (في) الإنسان شيئا هو بمنزلة الرئيس، وهذه القوة المميزة التي تضع الأمور مواضعها، وبها وحدها يستحق الإنسان أن يسمى عاقلا مميزا، وصار يفضل سائر ما في العالم من الحيوان. وفيه أيضا شيء ما من صبط (ضبط) وهو القوة الغضبية والشهوانية، فإن الإنسان إذا كان على الحال المحمودة، فإنه يضبط نفسه بعقله عن اتباع لذاته، ويمتنع من أن يغضب إلا في وقت يوجب الغضب، ولا يستعمل منه إلا بمقدار ما تدعو الحاجة.
فالشر يدخل على الإنسان من نفسه إذا قهرت القوة الشهوانية منه القوة المميزة، ولم تقدر المميزة على ضبطها، ومن صار إلى هذه الحال لم يكن بينه وبين البهائم فرق وكان إنسانا بالاسم فقط لا بالحقيقة، ووجب تجنبه والحذر منه أو تقويمه وإصلاحه، ويتهيأ للإنسان أن ينحفظ من وقوعه في الشر متى تأمل نفسه فضل تأمل، وعلم أنه مركب من شيئين: من نفس ناطقة عاقلة مميزة مؤثرة للخير، محبة للفضائل، مائلة إلى التقى والنسك، مشتهية للنظر في العلوم (102) واستنباط الصنائع، ومن بدن أرضي متحلل فاسد شديد التغير والاستحالة، مطالب بالانهماك في الشهوات والتلذذ للأسباب التي وصفنا. وعلم أن البدن آلة للنفس، وإنه إنما هو إنسان من جهة النفس لا من جهة البدن، فمال إلى أشرف جزأيه وغلبه على أبخسهما وجعله المدبر له والآمر والناهي عليه، كما خلقه الله عز وجل ولم يطلق لبدنه من اللذات التي يطالب بها إلا ما يحتاج إليه لقوامه فقط، فإنه متى فكر في هذه الأشياء وعرف فضلها منعه ذلك من الوقوع فيما يؤثمه ويجعله شريرا. فإما طريق إصلاح الإنسان لنفسه ومداراتها واستنقاذها مما وقعت فيه من الشرور، فيكون بمفارقة الأفعال الرديئة ومجانبتها والتوبة، واستعمال ضد الحال التي كان عليها.
فأما الشرور التي تدخل على بعض أهل المدينة من بعض، فتحفظ بالتمسك بالشرائع والسنن التي وضعت لهم وترك محالفه (مخالفة) شيء منها وإصلاحها ومداواتها، وتكون بالتأديب والعقوبة التي توجبها الشرائع على من خالفها وتعداها.
وأما الشرور التي تنال أهل المدينة من أهل مدينة غيرها، فإن التحفظ منها بالتحصين بالأسوار والخنادق والحراس، ودفعها إذا وقعت (103) يكون بالمحاربة والقتال. فقد تبين فضل الملوك وأن الناس يضطرون إلى تدبير وسياسة وأمر ونهي، وأن المتوليين (المتولين) لذلك منهم ينبغي أن يكونوا أفضلهم. فإن من نهى عن شيء وأمر بشيء، فالواجب لن يظهر استعمال ذلك في نفسه أولا ثم في غيره.
ولأن كثرة الرؤساء تفسد السياسة وتوقع التشتت، فلذلك احتاجت المدينة أو المدن الكبيرة أو البلدان أو أكبر العمارة إلى أن يكون رئيسا واحدا كما تهيأ لك أيها الملك،
2
وأن يكون سائر من ينصب لتمام التدبير والسياسة والحفظ أعوانا له سامعين مطيعين منفذين لما يصدر عن أمره حتى يكونوا كالأعضاء له يستعملهم كيف أحب، ويكونوا كالحاضر لجميع عمله بحضورهم وإنفاذهم لأمره ونهيه، يتناول بهم الأمر البعيد كتناوله بيده الشيء القريب ويدرك بهم ما نأى كإدراكه برجليه ما قرب منه.
ويبين أيضا مع ذلك أنه لا يكمل لسياسة أهل مدينته إلا من كمل لسياسة أهل بيته ولسياسة نفسه، وإن كان المستحق للانفراد بالرئاسة والسياسة ينبغي أن يكون أفضل أهل زمانه، وأن يكون لمن يرأسه ويسوسه بمنزلة الوالد الشفيق، متفقدا لما صغر وكبر من (104) أمور رعيته غير متشاغل بشيء عن ما حصنها وجمع شملها وتب (ورتب؟) العدل والإنصاف فيها، ودفع الضرر عنها بكل ما يجد إليه السبيل. ولم نر يكمل لذلك إلا من اجتمعت فيه الفضائل، وإنما تجتمع الفضائل في من كان مطبوعا على قبلوها ، فإنه ليس كل طبع مؤاتيا لقبول الفضائل ولا كل نفس بصيرة بالجميل. وذلك أن الناس على ثلاث طبقات؛ فمنهم من يتنبه على فعل الجميل، وإتيان الحق من تلقاء نفسه وهذا أفضلهم، ومنهم من لا يتنبه على ذلك من تلقاء نفسه إلا إذا نبه عليه سمعه وأسرع إلى قبوله. ومنهم من لا يتنبه عليه ولا يقبله متى سمعه من غيره وهذا شر الناس. ومن كان كذلك فلا يجب أن يقلد تدبيرا ولا سياسة، ولا يكون إلا في عداد من يقمع ويكف شره عن غيره بالتخويف والترهيب وتغليظ العقوبة.
ومن سعادة أهل الزمان أن رأسهم ومتقلد سياستهم وتدبير أمورهم الملك الجليل الذي قد اجتمعت فيه الخصال الموجبة للملك، من مؤاتاة الطبع لقبول الفضائل واستعمالها في مواضعها وإظهارها في نفسه أولا، ثم في سائر أهل مملكته شريفها ودنيئها، عالمها وجاهلها، غنيها وفقيرها، بعيدها (105) وقريبها، كل واحد منهم على حسب ما توجبه طبقته حتى قد خضعت له الأمم، وانقادت له الممالك، وبخع له الأعداء، وذلت له السادة ورضي برئاسته الملوك. فقد سكنت الحروب وائتلفت القلوب، وانطفت بسطوته وإفراط هيبته نار الشرور وكسد الجهل، وقامت سوق العلم واتضحت السبل، وانبسطت التجارات وكثر الخصب ورخصت الأسعار وانتشر العدل واستقامت الأمور، وزال الخوف واتفقت الآراء وبطل الاختلاف. فليس يوجد محارب ولا معتد ولا متخط طوره، كل قد لزم طبقته ووقف في ظله، وعرف مقداره. فالرئيس يأمر وينهي والمرءوس يسمع ويطيع، وإنما التام (التأم) ذلك كله بتيقظ الملك واستفراغه وسعه، واستعمال همته في اسساب (استتباب) سياسته، وتدبير رعيته، ومراعاته أسبابها فهو بذلك منصف لها من نفسه ومنتصف لبعضها من بعض ودافع الشرور عنها.
وإذ قد انتهيت إلى هذا من القول، فأنا ممتثل ما أمر به الملك من وصف ما ينبغي أن يكون في الملك من الخصال التي يستحق بها أن يكون ملكا (106) ويزول عنه بها اسم التغلب والقهر. فقد تبين بما وصفنا آنفا أن الناس إنما احتاجوا إلى رئيس ومدبر وملك ليدفع عنهم الأذى الواقع على بعضهم من بعض؛ حتى يقصد كل واحد منهم الصناعة التي انتحلها لمصلحة نفسه ومصلحة غيره، ممن يحتاج إليها فلا يعوقه عنها عائق؛ فيتم بذلك تعامرهم وترازقهم وتعاضدهم وترافدهم وتعاونهم على مصلحة عيشتهم واستقامة أمورهم، ويصيرون كالأعضاء الكثيرة المختلفة التي تخدم بعضها بعضا لتمام بدن واحد صحيح سليم. فواجب من ذلك أن يكون المتقلد لسياستهم معرى من الشره قاهرا للذاته لا يطلق لنفسه منها إلا ما كان به قوام بدنه، فإن من قهرته لذاته فهو عبد لها ومن كان عبدا فليس له بالحقيقة ملك.
وأن يكون غير محب لجمع المال إلا من الوجوه التي تعود بالنفع على الرعية. ويكون حاذقا بجمعه من وجوهه وإنفاقه في وجوهه، غير مفرط ولا مقتر ولا متجاوز حدود ما هذه سبيله، غير باسط ليده إلى شيء من مال العامة. وأما ماله فينبغي أن يكون مبذولا يتقدم سائر الناس السماحة (بالسماحة) والسخاء، ويمنع نفسه أولا ثم (107) رعيته من استعمال الآلات والأواني المتخذة من الجواهر التي جعلت قيمة الأشياء أعني الفضة والذهب اللذين يتعامل بهما الناس، ويقومان لمن يكونان عنده مقام كل ما يحتاج إليه؛ لأن ذلك يؤدي إلى غلاء الأشياء وعوزها.
وأن يكون خبيرا بأخلاق الناس كثير التفتيش عن مذاهبهم؛ ليختار كل واحد لما يصلح له، ويجعل الشجاع النجد محاربا والثقة الأمين خازنا وحافظا، والعلم السديد قاضيا حاكما، والمحنك المجرب الصحيح الرأي مستشارا، ولا ينبغي أن يستخدم في مطعمه ومشربه وملبسه وبالجملة فيما يقرب منه إلا أحد ثلاثة؛ إما من تربى معه وألفه، وإما من رباه الملك على أخلاقه، وإما من ربى الملك في حجره، فإنما هؤلاء يخدمونه بمحبة، ولذلك يجب أن يكون إحسانه وأفضاله وتفقده لأمورهم أكثر منه لجميع الناس، ولا يتكل في مراعاة أسبابهم على غيره.
فأما حاجبه فينبغي أن يكون فهما يعرف مقادير من يصل إلى الملك؛ ليكون معاملته إياهم بحسب ذلك، ولا يكون شرها نطفا ولا كسلان بطيء الحركة، وأن يكون بين الشرس في الأخلاق ولينها (108) مقتدرا على التعب والنصب، حسن الحدس والتخمين معرى من الهزل قليل الضحك.
وأما الجند والمحاربون وبالجملة من يحمل السلاح، فلا يستعمل منهم من قد اعتاد الترفه والراحة والتنعم بالمطعم والمشرب والسماع ولين الملبس، فإن هذه السيرة تعريهم من جميع ما يحتاج إليه منهم من الشجاعة وشدة البدن والإقدام على الموت، والصبر على الشقاء في البعوث من البرد والجوع والحر والعطش، وما لا يكاد ينفك منه المسافر، ويمنع الجند من انتحال الصنائع، ويؤخذون دائما بالرياضة كل فريق منهم بما يصلح من السلاح، ويتفقد أحوالهم بالعرض في كل شهر مرة، ويقام لهم جميع ما يحتاجون إليه لئلا يشغلهم الطلب عما يحتاجون منهم، ويمنعون عن أن يسئوا آدابهم في الطلب فيكون في ذلك عضا (غض) على المملكة إذ كان أعظم قوامها فيهم.
ويميز منهم الشيخ الفاني ومن نالته آفة فأضعفت قواه، إلا أن يكون يصلح للمشورة والرأي والتدبير في الحروب.
وما يحتاج إليه الملك حاجة ماسة علم أخبار الممالك التي تتاخمه حتى لا يذهب عنه منها شيء، وأن يشحن تعوره (ثغوره) بالرجال، ويجعل في وجه كل أمة من الأمم التي تزاحمه من الرجال من يفي بمحاربتهم. فإن الأمم (109) تتفاضل في الشجاعة والجبن، فمن قصد بلدة أمة من الأمم استعد له معها ما يدفع به مثلها وبادرها بذلك قبل أن يتوسط بلده، ويجهد ألا يخرج له خبر إلى أعدائه، وأن يكون تدبيره مستورا عنهم، ويتحذر ممن يأتيه من خدم أعدائه مستأمنا، فإنه لا يؤمن أن يكون دسيسا يصرف عنه أصحابه أو يتعرف أخباره وينهيها إلى أعدائه أو يغتاله بضرب من الاغتيال.
ومما ينبغي أن تكون به عنايته ليس بدون عنايته بمهماته أمر الصنائع؛ ليجري أمرها على سداد الصناعات ثلاثة أصناف؛ علمية وعملية ومركبة؛ فالعملية مثل الفلسفة والخطاب والنحو والبلاغة. والعملية مثل النجارة والصفارة وما أشبههما. والمركبة من العلم والعمل مثل الطب والموسيقى، فينبغي أن يختار لتعلم الصنائع العلمية، بل لا يطلق تعلمها إلا لمن كان ذكيا فطنا، سريع الحفظ والتمييز لما يقرؤه عارفا بمقدار العلم قائلا بفضله، محبا لأهله سليما من الآراء المفسدة للعقول.
ويختار لعمل الصنائع العملية قوما أشداء أقوياء أصحاء الأبدان، ويكون حظهم من ذلك بحسب ما تحتاج إليهم صنائعهم (110) ويختار للصنف الثالث من اجتمع فيه الخلتان ويرئس على أهل كل صناعة أبصرهم بها وأشدهم تقدما فيها، ويتقدم إليه في الأخذ على أيديهم ويفقدهم (ويتفقدهم)، ولا يستعمل الملك منهم إلا أحذقهم؛ ليرغب الباقون في التزيد في الصناعة؛ لينالوا بها الحظ، فإن أكثر ما يتعاطى الصنائع للحظوظ، فمتى نيلت الحظوظ باليسير من الصناعة لم ترغب الناس في الازدياد فيها، ومتى تمادى ذلك بطلت الصناعة أو ضعفت فإن قل من يستعمل الصناعة لنفسها وتفقد مثل هذه الأشياء تعمر به المملكة. فأما عمارات الأرضين وابتناء المدن والمعابر وشق الأنهار واستخراج المياه، وعقد الجسور وإصلاح السبل وتنظيفها من الدعار، فيجب أن يصرف الملك إليه أكثر عنايته.
وبالجملة فيجب أن يكون ولده
3
أن يخلف المملكة لمن يأتي بعده أعمر مما تسلمها ممن كان قبله، فإن الله جل ثناؤه يجزل ثناوه (ثوابه) على قيامه بما نصبه له دون غيره، والذكر الجميل يبقى له على غابر الدهر. وليس ينبغي أن يظن بنا أنا أغفلنا وصف وزير الملك كيف ينبغي أن يكون، فإن ذلك قد دخل فيما وصفنا؛ إذ كان (111) الوزير ينبغي أن يكون متخلقا بأخلاق الملك ينوب منابه في كل شيء، ولا يكون الفرق بينهما إلا في المرتبة فقط. فمعلوم أن جميع ما وصفنا به الملك ينبغي أن يكون في وزيره موجودا والسلام. (تمت والحمد لله على نعمه كثيرا.)
كتاب تدبير المنزل
وهو أثر قديم لأحد فلاسفة اليونان نشره الأب لويس شيخو اليسوعي
توطئة
في جملة المقالات البديعة التي يحتويها المجموع الفلسفي الذي مر لنا وصفه في المشرق (16 [1913]: 173-178)، ونقلنا عنه في العام السابق (ص881-889) رسالة دامسطيوس في السياسة «كتاب في تدبير المنزل» هو الثاني بين مضامين ذلك المجموع النفيس
1
لا يقل هناك عن 35 صفحة، والكتاب المذكور فريد في بابه، وهو كما يظهر لأحد فلاسفة اليونان يستدل إلى ذلك من طريقه كتابته ومعانيه.
أما المؤلف فقد ذكر في أول المقالة على هذه الصورة «كتاب برسيس في تدبير الرجل لمنزله» فمن هو «برسيس» هذا المروي اسمه بإهمال نقطه فيمكن قراءته «برسيس وترسيس ونرسيس»، وباللاتينية أو اليونانية
Barses, Brasius, Beresius, Bersius, Thrasius, Tarasius, Teresius, Nerses, Narcissus, Neresius . وليس ما بين هذه الأسماء ما ينطبق على اسم فيلسوف معروف، ويزيد المشكل إبهاما بما ورد في آخر المقالة «تم قول برولس» تتعدد قراءته على وجوه جديدة تخمينا لا تأكيدا، وإنما يصح القول بأنه اسم أعجمي.
فإن كان كاتبه من اليونان أنرى يعرف من عربه ... هذا أيضا لم يصرح به في أول المقالة ولا في آخرها، ومن المحتمل أن المعرب هو الكاتب النصراني أبو علي عيسى بن إسحاق الشهير بابن زرعة الذي عرب رسالة دامسطيوس التي نشرناها، وكان أحد نقلة كتب اليونان إلى العربية.
ومهما كان من مؤلف الكتاب ومن معربه، فلا شك أنه أثر قديم حري بالذكر، ونشره خدمة للعلوم الفلسفية ولا سيما أن هذا الموضوع أي تدبير المنزل قلما خاض في عبابه كتبة العرب، وهو من العلوم الجليلة. قال الحاج خليفة في وصفه (طبعة ليبسيك 2: 251): «علم تدبير المنزل قسم من ثلاثة أقسام: الحكمة العملية، وعرفوه بأنه علم يعرف منه اعتدال الأحوال المشتركة بين الإنسان وزوجته وأولاده وخدامه، وطريق علاج الأمور الخارجة عن الاعتدال. وموضوعه أحوال الأشخاص المذكورة من حيث الانتظام، ونفعه عظيم لا يخفى على أحد؛ لأن حاصله انتظام أحوال الإنسان في منزله ليتمكن بذلك من رعاية الحقوق الواجبة بينه وبينهم، ويتفرع على اعتدالها كسب السعادة العاجلة والآجلة ... واعلم أنه ليس المراد بالمنزل في هذا المقام البيت المتخذ من الأحجار والأشجار؛ بل المراد التآلف المخصوص الذي يكون بين الزوج والزوجة، والوالد والولد والخادم والمخدوم، والمتمول والمال سواء كانوا من أهل المدر أو أهل الوبر، وأما سبب الاحتياج إليه فكون الإنسان مدنيا بالطبع. وكتب علم الأخلاق متكفلة لتبيان مسائل هذا الفن وقواعده.»
ومما يعرف من ذلك كتابان الواحد لأرسطاطاليس شيخ فلاسفة اليونان، والثاني لثاوفرستوس الفيلسوف المتوفى في آثينة سنة 287ق.م. قد اتسع في وصفهما أحد علماء فرنسة المسيو إجر
M. Egger
في مجموعة أكاديمية الكتابات والفنون في المجلد الثلاثين
Académié des Inscriptions et des Belles-LettresXXX,1, 419-482
فهناك مقالة تحت عنوان اقتصاديات أرسطاطاليس وثاوفرستوس (
Mémoire sur les ŒCONOMICA d’Aristote et de Théophraste ) فمن المقابلة بين ما ورد فيهما ولا سيما مقالة أرسطاطاليس، وما جاء في مقالتنا هذه التي حاولنا نشرها اتفاقات عديدة سواء كان في المادة أو في الصورة، ففي كليهما قول في ما يجب على الإنسان تدبيره من الأموال والعبيد والأهل والأقارب كالزوجة والبنين. وبينهما شبه أيضا في الطريقة الكتابية، ثم إن في مكتبة الإسكوريال في مدريد كتاب موسوم بالعدد 883 (
CASIRI, I, P. 300, MS. DCCCLXXXIII ) اسمه كتاب تدبير المنزل لأرسطاطاليس لم يمكنا الوقوف عليه ولعل بينه وبين نسختنا بعض الشبه، فندع الحكم في ذلك لعلماء إسبانية.
وقد وقع في الأصل الذي أخذنا عنه بعض الأغلاط فأشرنا إليها بين هلالين، وجعلنا بين معقفين [] ما فقد أو نسخ من الأصل. وهناك أيضا عبارات ملتبسة تركناها على أصلها. (ل. ش) (1) كتاب برسيس (؟) في تدبير الرجل لمنزله (62) «قال» إن أمر المنزل يتم بأربع خصال: أولها المال، والثاني الخدم، والثالث المرأة، والرابع الولد. (1-1) المال وتدبيره
أما المال فلأن الخالق تبارك وتعالى وإن كان جعل في الإنسان القوى التي يحتاج إليها لقوام بدنه وصلاح أمره، فإنه قد جعله مع ذلك منتقضا مستحيلا متقضبا (كذا)؛ ولذلك صار الإنسان محتاجا إلى أن يستمد ويسترد مكان ما يتحلل منه؛ أعني بقولي القوى: أي القوة التي ينزع بها (كذا) كل واحد من أعضائه ما يشاكله من الغذاء بالمقدار الذي يحتاج إليه. والقوة التي تحيل ذلك الغذاء وتقلبه حتى يصير شبيها بالعظو (بالعضو) الذي يغتذي منه. فإن كان المغتذى به لحما صار لحما، وإن كان عظما صار عظما، وإن كان عصبا صار عصبا. والقوة التي تحفظ على العضو ما اجتذب إليه ما دام سيالا حتى يجمد ويتصل به، والقوة التي تنفي عن كل واحد من الأعضاء ما يبقى من ذلك الغذاء من الفضل، مما يبعد من طبعه، فلا يقوى على قلبه وإحالته إلى طبيعته (63). والقوة التي تنميه وتمدده حتى يريد [يزيد] في طوله وعرضه وعمقه على مقادير أجرايه (أجزائه).
فأقول إنه وإن كان قد جعل [الله] في الإنسان هذه القوى كلها ، وقوى أخرى كثيرة معها بها يكون تدبير بدنه، فإنه قد جعل فيه شيئين بهما قوامه وأحدهما يفني الآخر ويحلله. وذلك أن قوامه بالحرارة والرطوبة ومن شأن الحرارة أن تحلل الرطوبة وتفنيها؛ فلذلك لا يمكن أن يقف على حال واحدة، ولكنه يتحلل تحللا دائما متصلا؛ ولذلك يحتاج إلى أن يستمد مكان ما يتحلل منه، وهو العدي (الغذاء) الذي يعيد به (يغتذي به أو يغذيه).
ولو كان البدن مع هذا من جنس واحد لكان الذي يحتاج إليه إنما هو نوع واحد من الغذاء، لكنه لما كانت أجزاؤه مختلفة احتاج لذلك إلى أغذية مختلفة الأنواع والطعوم وجميعها من النبات والحيوان؛ لأن غذاء كل شيء من أقرب الأشياء إليه، وليس شيء أقرب إلى طبيعة بدن الإنسان من الحيوان والنبات. والنبات والحيوان محتاجان إلى أنواع من الصناعات حتى يكونا ثم حتى ينميا بعد كونهما. أما النبات فيحتاج إلى أن يزرع أو يغرس ثم يسقى ويربى إلى غير ذلك مما فيه تمام الانتفاع به. وأما الحيوان فإلى أن يغتذي ويحرك (ويتحرك) وىكىر (ويكبر) (64) ما (وما) أشبه ذلك مما فيه مصلحه (مصلحته).
ويحتاج أيضا لجمع الغذاء وإعداده وتهييه (وتهيئة) ما يكون به الإنسان والحيوان إلى صناعات أخر كثيرة مختلفة، والإنسان وإن كان قد جعلت فيه قوة الاستنباط لكل صناعة، وقوة التعلم لها، فليس يمكن الواحد من الناس لقصر عمره أن يستنبط ذلك، ولا أن يتعلمه لأن له في استنباط صناعة واحدة أو تعلمها شغلا عن استنباط سائر الصناعات أو تعلمها. وإن كان فيه احتمال لتعلم كثير منها فليس فيه احتمال لتعلمها كلها، والإنسان محتاج في تدبيره معاشه إلى الصناعات.
والصناعات أيضا مضمن بعضها ببعض كالبناء الذي يحتاج إلى النجار، والنجار يحتاج إلى صناعة الحدادين وصناعة الحدادين تحتاج إلى أصحاب المعادن، وتلك الصناعة إلى البناء. فكل واحدة من الصناعات، وإن كانت تامة في نفسها تحتاج إلى الأخرى كما تحتاج أجزاء السلسلة بعضها إلى بعض، وإن ارتفعت صناعة واحدة بطل بارتفاعها الباقي من الصناعات، فلما كان كل واحد من الناس يحتاج في تدبيره (65) أمره إلى أنواع مختلفة مما يغتذي به ويستتر به، وكان يحتاج لذلك إلى جميع الصناعات كان (وكان) لا يمكن أن يكون الواحد محكما لجميع الصناعات؛ صار الناس جميعها محتاجا بعضهم إلى بعض في تدبير معاشهم، ولهذه العلة احتاج الناس إلى اتخاذ المدن والاجتماع فيها؛ ليعين بعضهم بعضا بالصناعات.
في حاجة الناس للنقود في المعاملات
ولما كان الناس محتاجا بعضهم إلى بعض، ولم يك وقت حاجة كل واحد منهم وقت حاجة صاحبه في أكثر الأوقات ولا مقادير ما يحتاجون إليه متساوية، ولم يكن سهلا في الأمور أن يعلم ما قيمة كل شيء من كل شيء، وما مقدار ثمنه من ثمنه، وما مقدار أجرة كل شيء مما يعمل من أجرة كل شيء آخر، احتيج إلى شيء تميز به جميع الأشياء، وتعرف به قيمة بعضها من بعض، فمتى احتاج الإنسان إلى شيء مما يباع أو مما يستعمل دفع قيمة ذلك الشيء من هذا الجوهر الذي جعل ثمنا للأشياء واحدة (كذا).
ولو لم يجعل هذا هكذا لكان الذي عنده نوع من الأنواع التي يحتاج إليها صاحبه كالزيت والقمح وما أشبه ذلك، وعند صاحبه أنواع أخر لا يتفق إذا احتاج هذا إلى ما عند ذاك أن يحتاج ذاك إلى ما عند هذا فتقع المبايعة (66) بينهما، ولا يتفق أيضا إن وقع الاتفاق بينهما في حاجة كل واحد منهما إلى ما في يد صاحبه أن يقع الاتفاق بينهما في أن يكون يحتاج هذا مما في يد ذاك، إلى ما يكون قيمة ما يحتاج إليه ذاك مما في يد هذا، فيقع الاختلاف إذ ذاك بينهما، فإما أن ينصرف كل واحد منهما عن صاحبه إذ لم يجد عنده تمام حاجته وإما أن يتبايعا. ثم يحتاج أحدهما أن يطلب تمام حاجته من بائع آخر، وكان يحتاج مع هذا إلى أن يعلم كم قيمة الجزء من كل واحد من الأنواع التي فيها مصالح الناس مثل العسل والسمن والقمح، وغير ذلك من الأنواع الأخر على كثرة الأنواع واختلافها في القيمة.
وإذا عرف ذلك في وقت من الأوقات فقد يحتاج إلى أن يعرف في أوقات أخر كلما تغيرت حال نوع من تلك الأنواع بكثرة الجلب أو قلته، وبما يعرض من حاجة الناس إليه واستغنائهم عنه، وعن الاستكثار منه عند اختلاف الأزمنة، وما يستعمل الناس من كل نوع في كل زمان وكذلك الصناعات. فلذلك طبع الناس الذهب والفضة والنحاس وثمنوا بذلك جميع الأشياء واصطلحوا عليه؛ لينال به الإنسان حاجته في وقت حاجته، ويكون من يصير في يده شيء أراد أن يخلف به ما خرج (67) من يده إلى غير ذلك لم يتعذر ذلك عليه. فقد صار من حصل هذه الجواهر التي سمينا في يده كأن الأنواع التي يحتاج إليها كلها قد حصلت في يده؛ ولذلك احتيج في مصلحة المعاش إلى هذه الأمور، فنحن مبينون كيف يصلح التدبير في الأموال، فنقول:
اكتساب المال وحفظه وإنفاقه
إن الناظر في ذلك ينبغي أن ينظر في ثلاثة أشياء: اكتساب المال، ثم حفظه، ثم إنفاقه. (1)
فأما «اكتسابه»
2
فينبغي أن تحدر (تحذر) فيه ثلاثة أشياء الجور والعار والدناءة. أما الجور؛ فمثل البخس في الوزن والطفيف (والتطفيف) في الكيل، والمغالطة في الحساب، والجحود للحق، والدعوى بغير حق، وما أشبه ذلك مما يجتمع فيه مع الأنام الموثقة (كذا) إنه يزيل الاكتساب ويقطع المادة ويدعو إلى الحرمان. وذلك لما ينتشر فيه من سوء الثناء، فيصرف ذلك المعاملين عن صاحبه ويدعو من ابتلي به منه أن يخبر به غيره حتى ينقطع عنه من عامله ومن لم يعامله، حتى إنه لو أقلع عن ذلك لم ينتفع بإقلاعه للأمر الذي شاع له وشهر به.
وأما العار، فمثل الشتم والصفع، وما أشبه من الأمور التي يحتملها بعض الناس لشيء يناله (68) ممن يفعل ذلك.
وأما الدناءة فأن يدع الرجل الصناعة التي كان آباؤه وأهل بيته يعالجونها من غير عجز عنها إلى صناعة أخس منها، كالرجل يكون آباؤه وأهل بيته إما قادة جيوش، وإما ولاة ثغور، فيدع طلب ذلك وهو يقدر عليه ويقتصر على الغناء والزمر وما أشبه ذلك. ولسنا نقول فيمن كان آباؤه في صناعة خسيسة، فأقام عليها أنه قد أتى دناءة من الأمر أو فعل ما ينبغي أن يذم عليه، لكن نقول إنه محمود إذ رضي بحظه ولم يتعد طوره، ولو تطلب واجبا (كذا) أن يطلب إلى كل إنسان صناعة فوق الصناعة التي ورثه أبوه لوجب أن يقصد الناس كلهم إلى صناعة واحدة، وهي أعلى الصناعات فكان ذلك يبطل سائر الصناعات، وكانت تلك الصناعة أيضا التي يقصدون إليها تبطل؛ لأنها لا تتم إلا بالصناعات الأخر، إذا (إذ) كان الجميع مقرونا بعضه ببعض كما بينا قبل. فهذا ما ينبغي أن ينظر فيه من باب الاكتساب. (2)
وأما باب «الحفظ» فيحتاج فيه إلى خمسة أشياء: أولها: أن لا يكون ما ينفق الإنسان أكثر مما يكتسب، فإنه متى فعل ذلك لم يلبث المال أن يفنى، والثاني: (69) أن لا يكون ما ينفق مساويا لما يكتسب لكن يستفضل ما يكون غدة (عدة) له لحادث إن حدث، أو آفة إن نزلت، أو ضيقة إن كانت، وأيضا فإن من العدل أن يكون لرأس المال حصة من النفقة. ويشبه حال من فعل ذلك حال البدن الذي هو في النشوء والنماء، ويشبه حال من كانت نفقته مساوية لكسبه حال من قد انتهى نشوه وانقطع نموه. فأما حال من ينفق أكثر مما يكتسب فإنها تشبه حال الأبدان الهرمة الذي (التي) لزمها النقص ودب فيها الفناء، وذلك أن البدن الذي هو في النشوء والنماء يغتذي بأكثر مما يتحلل منه، والبدن الذي قد انتهى منتهاه يغتذي بمقدار التحلل، والبدن الذي قد صار إلى الهرم يغتذي بأقل مما ينحل منه. فكما أن البدن الذي قد صار إلى الهرم قريب من الموت، فكذلك المال الذي يؤخذ منه أكثر مما يزاد فيه سريع إلى النفاد، والثالث مما يحتاج إليه في حفظ الأموال أن لا يمد الرجل يده إلى ما يعجز عن القيام به، كالرجل يشغل ماله في ضيعة لا يقوى على عمارتها، أو في ضياع متفرقة لا يمكنه مباشرتها، وليس له من يعينه على القيام بها، أو يتخذ من الحيوان ما يتجاوز النفقة عليه مقدار (70) ما يبقى من ماله، وحال من فعل ذلك يشبه الشره الذي يأكل ما لم يستمرئه. فكما أن من أكل ما لم يستمرئه لم يغذه، بل ربما خرج منه وأخرج معه من بدنه ما يضر به خروجه، فكذلك من تعاطى من الاكتساب ما يتجاوز طاقته كان وشيكا أن لا يفوته الربح فقط دون أن يذهب رأس ماله، والرابع مما يحتاج إليه في حفظ المال أن لا يشغل الرجل ماله في الشيء الذي يبطئ خروجه من يده، وإنما يكون ذلك في الشيء الذي يقل طلابه، وتستغني عوام الناس عنه كالجوهر الذي لا يحتاج إليه إلا الملوك، وكتب العلم التي لا يطلبها إلا العلماء، والخامس مما يحتاج إليه في حفظ المال أن يكون الرجل سريعا إلى بيع تجارته بطيئا عن بيع عقاراته، وإن قل ربحه في ذلك وكثر ربحه في هذا. (3)
وأما «إنفاق» المال فينبغي أن يحذر فيه خمسة أشياء: وهي اللؤم، والتقتير، والسرف، والبذخ، وسوء التدبير، فأما اللؤم فهو الإمساك عن الإنفاق في أبواب الجميل مثل؛ مؤاساة القرابة، والإفضال على الصديق وذي الحرمة، والصدقة في المحاويج بقدر ما يمكنه ويتسع له، وأما التقتير فهو التضييق فيما لا بد منه مثل؛ أقوات العيال ومصالحهم، وأما السرف فهو الانهماك في الشهوات (71) واللذات، وأما البذخ فهو أن يتعدى الرجل ما يتخذه أهل طبقته طلبا للمباهاة، وأما سوء التدبير فهو أن يوزع الرجل نفقته على جميع ما يحتاج إليه بالسوء حتى يصرف إلى كل باب منها بقدر استحقاقه، فإنه إذا لم يفعل ذلك وأسرف في واحد ونقص من الآخر كانت أموره غير مشاكل بعضها بعضا، وأن لا يتخذ الشيء في وقت الحاجة إليه.
فاللئيم يؤتى من قبل أنه لا يعرف الجميل وما فيه من الفضيلة. والمقتر يؤتى من قبل أنه لا يعرف الواجب وما في تركه من النقص. والمسرف من قبل إيثاره اللذة على صواب الرأي. فاللئيم والمقتر ممقوتان عند الله ؛ لأنهما على طرق من الجور، والمقتر خاصة فإنه أجورهما، والمسرف مذموم ممقوت ومن مقته الناس أو ذموه لم يكن له في مجاورتهم خير، ومن لم يجاور الناس فقد صار في عدد الأموات إلا أن صاحب البذخ أسوأ حالا؛ وذلك لأن اللئيم والمقتر وإن كان الناس يمقتونهما فإنهما على حال يربحان حفظ أموالهما، والمسرف وإن كان مذموما فإنه يربح التمتع بلذاته، وأما صاحب البذخ فإنه لا مال له يحفظ ولا لذة يتمتع بها، وأسوأهم جميعا حالا من كان يسيء التدبير، وإنما يؤتى من قبل أنه لا يعرف (72) مقادير النفقة ولا أوقاتها. فمن عرف أبواب الحق اللازم وأوجبها على نفسه واقتصد في الإنفاق على لذاته ولم يتعد ما يفعله أهل طبقته، وعرف مقادير ما يستحق كل باب من الأبواب مما يحتاج إليه وأنفق فيه بقدر استحقاقه، ولم يرد (يزد) في باب فيضطر إلى تقصير في الآخر، وعرف أوقات الحاجة إليه فلا يفسد أو يضيع إلى أن يحتاج إليه، ولم يؤخر شيئا حتى يفوت وقت الحاجة إليه؛ فيصير اتخاذه له بعد ذلك باطلا أو يعز عليه فلا يجده إلا بالغلاء. فمتى لزم الإنسان ما ينبغي من فعل أو تركه حينئذ ينسب إلى الكرم والسخاء والاتساع والمؤاساة والقصد، والحرىة (والحرية؟) وحسن السيرة والعيش. ومن كان كذلك فإذا كانت غلته أو ربح ماله يقوم بنفقته على مصلحة بدنة ومئونة عياله، ويفضل له عن ذلك ما يصرف بعضه في مؤاساة قرائبه وأصدقائه وأهل الحرمة به، وبعضا في فقرائه ومساكينه، ويذخر بعضا ليستظهر به على دهره ونوائبه، فينبغي له أن لا يطلب أكثر من ذلك فإن المطلب لأكثر منه شره، وهذا هو الحد الذي لا ينبغي للحر أن يتعداه فإن تعداه نسب (73) إلى الشره. فهذه حال المال والتدبير في اكتسابه وحفظه وإنفاقه. (1-2) في تدبير العبيد والخدام
وأما العبيد والمماليك
3
فالحاجة إليهم في المنازل كالحاجة إلى جميع الناس في المدن، وقد بينا لأي شيء احتاج الناس إلى أن يتخذوا المدن ويجتمعوا فيها ، والعبيد ثلاثة: عبد الرق، وعبد الشهوة ، وعبد الطبع. فعبد الرق هو الذي أوجبت الشريعة عليه العبودية، وعبد الشهوة هو الذي لا يملك نفسه لغلبة شهواته وخواطره عليه، ومن كان كذلك فهو عبد سوء، وإنسان سوء لا يصلح لشيء. وأما عبد الطبع فهو الذي له بدن قوي صبور على الكد وليس له في نفسه تمييز ولا معه من العقل إلا مقدار ما ينقاد به لغيره، ولا يبلغ به إلى أن يقدر يدبر نفسه، وهو في طبيعته قريب من البهائم التي تصرفها الناس كيف شاءوا، ومن كان كذلك وإن كان حرا فهو عبد، والأصلح له أن يكون عليه رئيس يدبره.
والعبيد يحتاج إليهم لأشياء فمنهم من يراد لتدبير المنزل، ومنهم من يراد للخدمة والمعاطاة، ومنهم من يراد للأعمال الجافية. فينبغي للرجل إذا أراد شرى مملوك أن ينظر إليه فإن كان جمع مع عبودية الرق عبودية الشهوة، فينبغي أن لا يتعرض لشراه، ولا أن يوطن نفسه على قمعه وتقويمه إن طمع في (74) ذلك. ومن اشترى عبدا هذه حاله فقد اشترى عبدا له موال غيره. وإذا كان كذلك فليس هو عبده إلا بالاسم، وإذا كان الإنسان لا يملك نفسه فغيره أحرى بأن لا يملكه، وإن كان المملوك حرا بالطبع وكانت نفسه نفسا قوية وبدنه بدن لطيف (بدنا لطيفا)، فهو ممن يوكل بالتدبير والحفظ، وإن كان حرا بالطبع وكانت نفسه نفسا لينة دليلة (ذليلة) وبدنه بدنا صافيا، فهو ممن يوكل بالخدمة والمناولة، وإن كان عبدا بالطبع وكل بالأعمال التي يحتاج فيها إلى الشدة والصبر.
والعبيد يشبهون بأعضاء البدن الذي (التي) تملك الإنسان أفعالها، أما الموكلون بحفظ المنزل وتدبيره فهم بمنزلة الحواس؛ لأنه بالحواس يعرف ما يضر فيدفع وما ينفع فيجتلب، والموكلون بالخدمة يشبهون باليدين؛ لأن بهما يتوصل إلى إدخال المرفق إلى البدن، والموكلون بالأعمال يشبهون بالرجلين؛ لأن عليهما كل البدن وثقله. فينبغي للرجل أن يحفظ مماليكه كحفظه لأعضائه، وأن يفكر لهم في أمرين: أحدهما الجنس الذي يجمعه وإياهم، والآخر فيما ابتلوا به. فإنه إذا فكر في جنسهم علم أنهم أناس مثله ، ويمكنهم أن يفهموا ما يفهم ويفكروا فيما يفكر فيه، ويشتهوا ما يشتهي ويكرهوا ما يكره، وإنه متى عاملهم على حسب ذلك (75) اكتسب مع الفضيلة التي تصير له في نفسه المحبة ممن يررق (يرزق) الملك عليه، وإذا تفكر فيما ابتلوا به علم أنه لو ابتلي بمثله لأحب أن يرزق مولى يرق عليه ويترفق به.
وإذا جاءت من المملوك الزلات فينبغي للسيد أن يتغافل عنه مرة ويقومه أخرى. ويكون تقويمه إياه أولا بالعتاب والتحذير والإنذار، فإن عاد فبالغضب وإن عاد فبالضرب، ولا يعاقبه على ذنب أتاه من غير معرفة ولا تعمد، ولا يترك عقوبته على ذنب أتاه عن شرارة وخبث، ولا ينبغي إذا أساء المملوك أن يعاقب إلا بمثل ما يعاقب به الولد إذا اشي (أساء) مثل تلك الإساءة. ذلك أصلح للمملوك والولد جميعا.
ويجب أن يجعل للمماليك أوقات راحة فإن المملوك إذا أردف بعمل على عمل، وكلف نصبا بعد نصب ولم تكن له راحة فتر عن الخدمة وإن كان حريصا عليها، والراحة تجدد قوة البدن وتحبب إلى صاحبه العمل، ومثله في ذلك مثل القوس فإنها إن ىركت (تركت) موترة استرخت، وإن حطت (حفظت) إلى وقت الحاجة إليها دامت شدتها، وكان أجدر أن ينتفع بها، وإنا لنعجب من قوم نراهم يعنون بدوابهم ويحرصون على راحتها وعلى الإحسان إليها، ولا يعطون مماليكهم نصيبا من ذلك، والمملوك وإن لم يكن محتملا من الراحة ما تحتمله الدابة؛ (76) لأن كسر (كثر) الراحة ربما أبطره وفرغه لما يضره، والدابة ليست تشبهه في ذلك، فإنه غير مستعن (مستغن) من الراحة عما يسبد مر (يسند به) قوته ويستدعي نشاطه، ولا يبلغ المقدار الذي يخاف عليه ضرره. وبعد فهو من جنس المالك له فقد ينبغي لمالكه أن ينزع مع توحي (توخي) حسن التدبير فيه إلى الرحمة له لما يتذكر من ضعفه، فإن دابته أجمل للتصييع (للتضييع) منه.
ولا ينبغي لأحد أن يغتنم (يغتم؟) من مملوكه أن يكون يرى أنه لا بد له من قبول أمره شاء أو أبا (أبى) بل يلتمس أن تكون خدمته له بالمحبة منه لذلك والنشاط له والحرص عليه، وينبغي أن يحرص على أن يكون ابقاد (انقياد) مملوكه بالحياء أكثر منه بالخوف، وبالمحبة أكثر منه بإيجاب الطاعة.
وأفضل المماليك الصغار؛ لأنهم أحسن طاعة وأسرع قبولا لما يعلمون، وهم الذين يألفون الموالي ويلزمون ما يجرون عليه من الأخلاق، وخير المماليك للرجل من لم يكن من جنسه؛ لأن الناس مولعون باستصغار أقاربهم والحسد لهم. فللمجانسة من هذا نصيب، ومن حق المملوك أن يكفى كل ما يحتاج إليه، وأن لا يكلف ما لا يقدر عليه ولا يحل له، وعليه الطاعة فإن لم يطع بعد هذا وجبت عليه العقوبة على ما رتبنا من حال بعد حال، وينبغي أن يكون للماليك عند مواليهم مراتب من (77) الإحسان والتفضيل، وإذا أحسن أحدهم رفعه من مرتبة إلى مرتبة بقدر استحقاقه فإن ذلك حثا (حث) للباقين على أن يلحقوا به؛ فهذا ما قلنا بالمماليك بعد الذي قلنا في المال. (1-3) في تدبير المرأة
فأما المرأة
4
فأول ما ينبغي أن يبتدئ به من ذكرها الإخبار عن الغرض الذي تراد له فنقول: إن ذلك الغرض شيئان: أحدهما من طريق الرأي، والآخر من طريق الطبع. فأما الذي من طريق الرأي فهو أن أكثر أشغال الرجل خارج (خارجا) من منزله. فهو مضطر إلى إخلائه من نفسه والخروج عنه، ولا بد له إذا كان كذلك ممن يحفظه له ويدبر له ما فيه، وليس يمكن أن يبلغ أحد من العناية بشيء غيره ما يبلغه من العناية بنفسه، فلما كان الأمر على هذا كان أصلح الأشياء للرجل أن يكون له في منزله شريك يملكه كملكه هو له، ويعنى به كعنايته ويكون تدبيره فيه كتدبيره، فهذا هو الباب الذي دعا إليه الرأي ودل عليه الاختبار.
وأما الباب الآخر الذي يوجبه الطبع فإن الخالق تبارك وتعالى لما جعل الناس يموتون، وقدر بقاء الدنيا إلى وقت جعلهم يتناسلون، وجعل التناسل من شيء يجمع فيه الحرارة والرطوبة، فأما الحرارة فلأن النشوء والنماء والحركة لا تكون إلا بها، وأما الرطوبة فلأن الانطباع والتصوير على (78) اختلاف مقاديره وأشكاله لا يكون إلا فيها، وليس للرطوبة مع الحرارة ثبات ولا بقاء؛ لأن الحرارة تحللها وتفنيها منها فلا يوجد من كل واحد منهما في بدن واحد مقدار القوة التي يكون منها الولد، فلذلك صار الولد من ذكر وأنثى؛ لأن الحرارة في الذكر أقوى والرطوبة في الأنثى أكثر، فإذا ألقى الذكر في الأنثى من الحرارة ما قدر الخالق أن يكون من مثله الولد، استمدت تلك الحرارة من الأنثى من الرطوبة ما يكون فيه تمام الخلق ثم الولد.
ثم من تمام التدبير في ذلك أنه حيث جعل [الله] في الرجل الطبيعة التي يميل بها إلى الحركة والظهور والتصرف، وكانت به حاجة إلى من يقوم مقامه في منزله، جعل في الأنثى الطبيعة التي تميل بها إلى السكون والاستتار؛ لتقوم مقامه فيما فقد من نفسه من الصبر على لزوم منزله، ويقوم مقامها فيما فقدت من نفسها من الحركة في طلب المعاش. ثم جعل بينهما من المحبة والفه (والألفة) ما ارتفع معه الحسد والمنافسة والبخل من كل واحد منهما على صاحبه فيما يحرز له من ماله وأطلق له من التدبير فيه. ولو زال ذلك لكان شغل كل واحد منهما بصاحبه أكثر منه بغيره للمقارنة والشركة وقرب المتناول لكنه (79) جعلهما كأنهما نفس واحدة.
فالواجب على المرأة الإذعان للرجل والطاعة له والتذلل فيما يأمرها به إذ كان قد جاد لها بمنزله وملكها إياه، ولم يستأثر عليها بشيء منه. فإنها وإن قالت إنه إنما فعل ذلك؛ لأنه أصلح له فليس قولها هذا مما يبطل عنها منته ويزيل عنها رئاسته؛ لأن جميع ما يأتيه الإنسان من الإحسان، وإن كان يرجع إليه فضله وحسن الذكر فيه، وكانت المنفعة له في ذلك أكثر منها لمن يصل ذلك الإحسان إليه، فليس ذلك مما يزيل الشكر عن من أحسن إليه، ولا يجعل له السبيل إلى كفران نعمته.
فينبغي للرجل إذا اتخذ المرأة أن يبدأ فيفهمها المعنى الذي أرادها له، وأنه لم يردها للولد دون العناية به ، والتفقد لأموره في حضوره وغيبته، وصحته ومرضه، وحفظ جميع ماله، ومعونته على جميع أمره، وما يجب عليه من ذلك للأسباب التي شرحناها، ولا ينبغي أن يكون قصد الرجل من المرأة لحسب ولا مال ولا جمال؛ لأنه متى قصد لواحد من هذه وكان موجودا عندها رأت المرأة أنه قد ظفر ببغيته منها، ولم يبق عليها شيء تحتاج إلى أن تتقرب به إليه؛ بل تظن أنها إن [أساءت] إليه أو قصرت في حقه كان فيما نال من حاجته منها ما (80) يجب عليه احتمال ذلك معه، وأنه أولى بطاعتها والتذلل لها منها بأن تفعل ذلك به. وعند ذلك يفسد تدبير المنزل، إذ كان الأخس من صاحبيه قد صار في مرتبة الأفضل؛ إما تابعا للأخس، وإما منازعا له ومحاربا فيما يخالفه فيه، ومع المنازعة الشغل ومع الشغل التضييع. فليس يصلح أمر المنزل إلا بأن يكون أفضل من فيه هو الرئيس على سائر أهله ويكون سائر أهله سامعين مطيعين له.
وقد بينا الغرضين اللذين تقصد لهما المرأة وهما؛ الولد، وتدبير المنزل، فينبغي أن ينظر ما الذي يحتاج إليه لهذين الغرضين حتى يطلب، وأما الحسب والمال والجمال فليس من ذلك في شيء بل ربما ضرت هذه الوجوه كلها؛ لأن الجمال يكثر من يرمقه ويبصره فربما كان ذلك سببا لفساد صاحبه، والحسب يدعو صاحبه إلى الاتكال عليه وترك كثير مما يزينه، والمال ينطر (يبطر) الرجل في نفسه ورأيه. فكيف بالمرأة التي هي إلى نقص ما هي.
فالذي يحتاج إليه الولد من المرأة أمران: أحدهما من البدن، والآخر من النفس. فالذي من البدن صحة البنية، والذي من النفس صحة العقل، فإنه [ليس] مع سقم البدن وفساد العقل غاية. أما تدبير المنزل [فيحتاج] إلى فضائل كثيرة؛ أولها العقل والكيس، ثم قوة النفس والبدن (81) مع ضبط النفس والكف لها عن الشهوات. ثم ذلة النفس لتستعمل ذلك فيما بينها وبين زوجها، ثم رقة القلب لتستعمل ذلك فيما بينها وبين ولدها، ثم العدل في السيرة؛ لتستعمل ذلك فيما بينها وبين خدمها، فلا ترى شيئا مما يحتاج إليه الرجل من الفضائل، إلا وقد تحتاج المرأة إلى مثله بل [أكثر] لأنها أضعف وهي إلى اكتساب الفضائل أحوج.
وإذا كان ليس كل نفس تقبل الفضائل بالتأديب، فقد ينبغي للرجل أن يجتهد في اتخاذ من يعينه على قبول الفضائل بالطبع؛ ليمكنه أن ينعني (يبقي) على ما عنده ويريد (ويزيد) فيه، وليس يستقيم أمر المنزل حتى يوافق خلق المرأة خلق الرجل، وطريقه وليس يوافق خلق مرة (امرأة) السوء وطريقها خلق الرجل السوء وطريقه، ولا ينفعان (يتفقان) إلا أن يكونا صالحين، كما أن العود المستوي لا يطابق إلا العود المستوي، فأما العود المعوج فإنه لا يطابق المستوي ولا المعوج؛ لأن الاستواء طريق واحد والاعوجاج إلى طرق كثيرة. فلذلك يحتاج الرجل والمرأة جميعا أن يكونا عاقلين عفيفين منصفين، وإن لم يكونا كذلك لم يتفقا وفسد تدبير منزلهما.
ومن شك فيما قلنا من أنه يحتاج إلى أن يجتمع في المرأة جميع الفضائل [يتحقق] ذلك بأنه لا يشك أنها قيمة المنزل ومدبرته، والمفكرة فيما (82) يصلحه والمتولية لسياسة من فيه من الخدم وغيرهم. فهل يكون التدبير إلا من ذي عقل ومعرفة؟ وهل تكون السياسة إلا من ذي رفق وأناة مع الشدة في موضع الشدة؟ وهل تكون المصلحة إلا مع الضبط والحفظ؟ وهل يكون حسن القيام إلا مع الكيس والذكاء؟ وهل يتم هذا كله إلا مع صيانة النفس واطراح الشهوات واللذات إلا ما حسن منها وبعد عن الغلو ثم الصبر على الأذى، واحتمال المشقة والسخاء بالنفس والانقياد للعدل؟ وإلا فكيف يصون منزله من لا يصون نفسه؟ وكيف ينفرع (يتفرغ) لما يصلحه من هو مشغول بشهواته ولذاته؟ وكيف يضبط من تحت يده من قد عجز عن ضبط نفسه؟ وكيف يدوم على الطريقة من لا صبر له؟ وكيف يصبر على مؤونة الولد في تربيته والقيام بشأنه، وعلى خدمة الزوج من لا احتمال له؟ وهل ئوبر (يؤثر؟) على نفسه إلا من في نفسه من القوة والنجدة ما يسهل ذلك عليه ؟ وهل يصبر على الظلم [إلا] من كان الإنصاف والعدل أقل ما عنده؟
فإنه ليس لأحد أن يقوى [على] المرأة فيتفق ما بينها وبين زوجها وما بينها وبين ولدها [لكي] تخير ظلمهم لها على ظلمها لهم، وتحتمل عصبهم (غضبهم) وحههم (وجهمتهم) [واستبدادهم] في أوقات صحراتهم (ضجراتهم؟) وعند العلل التي تعرض لهم ثم تريهم أن [الفضل؟] في ذلك (83) كله لها دونهم، ثم لا تحقده عليهم ولا يكون في نفسها منه شيء بل إذا ذكرته في بعض الأوقات جدد لها رقة عليهم ورحمة لهم، وجعلته مكان الاعتذار به عليهم ذكرا لتلك الحالات التي دعتهم إليها من صحر (ضجر) أو اغتمام أو علة قربت لهم من ذلك وتفجعت له، وكانت أمنيتها ألا ترى مثل ذلك لنفسها، وأنها تكره مثل الذي كان منهم، ولكن إبقاء عليهم وشفقة من كل ما أذاهم وغير حالهم. فأين نفس أكمل من نفس تجتمع فيها هذه الخصال، وإذا اجتمعت هذه الخصال في المرأة فقد سعدت في نفسها، وسعد بها زوجها وولدها، وشرف بها أهلها وصارت قدوة للنساء،
ثم يتلو أمر المرأة أمر الولد فأقول: (1-4) في تدبير الولد
إن أفضل الولد ما كان من حرة صحيحة البدن صحيحة العقل جامعة لهذه الخصال، فهذا هو أول صلاح الولد والأساس الذي بني عليه تأديبه ويقوم طريقته، وينبغي أن يؤخذ بالأدب من صغره، فإن الصغير أسلس قيادا وأسرع مؤاتاة، ولم تغلب عليه عادة تمنعه من اتباع ما يراد منه، ولا له عزيمة تصرفه عما يؤمر به. فهو إذا اعتاد الشيء ونشأ عليه خيرا كان أو شرا لم يكد ينتقل عنه، فإن عود من صباه المذاهب الجميلة والأفعال المحمودة بقي عليها (84) ويريد (ويزيد) فيها إذا فهمها، وإن أهمل وترك حتى يعتاد ما تميل إليه طبيعته، ثم أخذ بالأدب بعد علبه (غلبة) تلك الأمور عليه عسر انتقاله على الذي يؤدبه، ولم يكد يفارق ما قد جرى عليه، فإن أكثر الناس إنما ىريون (يرثون؟) سوء مذاهبهم من عادات الصباء، فإنه لم يكن يقدم (مقوم) لهم في الآداب .
وقد رأيت كثيرا لا يحصون يعلمون أن مذاهبهم مذاهب رديئة، ولا ىحفي (تخفى) عليهم الطرق المحمودة، ويعسر عليهم الرجوع إلى تلك الطرق لعلىة (لغلبة) تلك المذاهب عليهم. فإن حملوا أنفسهم عليها في بعض الحالات حياء من الناس في الظاهر لم يعدموا إذا خلوا أن يرجعوا إلى المذاهب الأخر التي قد غلبت عليهم وتمكنت في طباعهم.
ورأيت أيضا كثيرا من الأولاد ما دام اباهم (آباؤهم) وغيرهم ممن يأخذهم بالأدب أحياء، فهم ملازمون الطريق المحمودة، فإذا فقدوهم صاروا إلى أخبث الطرق وأردئها، وليس من الأسباب شيء أقوى في ذلك من عادة الصباء إلا أن الصبي إذا كان في طبعه أن يميل إلى الأشياء الرديئة، وسلك مع هذا طريق الاعتياد لها كان عليها أحرص وإليها أسرع، وفيها أشد دخولا حتى تستحكم فيه، ولا يكون له إلى مفارقتها سبيل، وباداء (وبإزاء) هذا أن يكون الصبي جيد الطبع (85) يسلك به طريق الاعتياد للخير؛ فيكون كل واحد من طبعه وعادته مقوما لصاحبه حتى يقوى الخير فيه ويستحكم. فكما أن ذلك لا يقدر على مفارقة الأمور [الرديئة لا يقدر هو مفارقة الأمور] المحمودة، وفيما بين ذلك أن يكون الصبي جيد الطبع، ثم يحمل على الأشياء الرديئة أو يتفق له مقارنة أهلها، أو يكون رديء الطبع ثم يحمل على الأشياء المحمودة أو يتفق له أن يرى من يسلكها، فهذان قد تنقلهما العادة عن الطبع، وقد يمكنهما النزوع بعد ذلك عن العادة والرجوع إلى ما عليه البينه (البيئة). وأصلح الصبيان من كان بينهم مطبوعا على الحياء وحب الكرامة وكانت له أنفة، وإذا كان ذلك كان تأديبه سهلا، ومن كان منهم قليل الحياء مستخفا بالكرامة بعيدا من الأنفة عسر تأديبه، ولا بد لمن كان كذلك من تحريف (تخويف) عند الإساءة وإفزاع، ثم الإحسان إذا أحسن، فأما الذي له أنفة وفيه حب الكرامة فالمدح والذم يبلغان منه عند الإحسان والإساءة ما لا تبلغه العقوبة والعطية من غيره، وينبغي أن يتفقد الصبي في جميع حالاته من مطعمه ومشربه ونومه وقيامه وقعوده، وحركته وكلامه وجميع أموره، ويعلم في جميع هذا تجنب القبيح والقصد الجميل، فإنه إذا عرف الجميل (86) والقبيح في هذه الأشياء وقاما في نفسه تنبه عليهما وفهمهما في غيرهما من جميع الأمور، ولم يحتج في كثير من ذلك إلى تقويم، وأنا مبين لك طريقا إلى ذلك فأوله أمر الطعام فأقول:
أدب الولد في الطعام
إنه ينبغي أن يعود الصبي أن لا يبادر إليه حتى يوضع، ولا ينظر إليه نظر الشره، وأن يحتال في تصغير قدر الطعام في عينه، وإن ظهر منه شيء من الشره أن يعير به، ويبين له قبحه ويعلم أن الشره من طريقة الخنزير فمن شاركه فيه لم يكن بينه وبينه فرق، وإذا جلس على الطعام من هو أكبر منه فلا يمد يده إلى الطعام قبله إلا أن يؤمر بذلك، ولا يأكل إلا من بين يديه، ولا يكثر من مد يده مرة إلى شيء ومرة إلى آخر، ولكن يقتصر في أكثر أكله على شيء واحد، ولا يرغب في كثرة الألوان ولا يسرع في الأكل، ولا يعظم لقمه، ولا يلطخ يديه ولا فمه ولا ثيابه ولا يلطخ أصابعه، ولا يكون آخر من يرفع يده عن الطعام، ولا ينظر إلى أحد ممن يأكل معه، ولا سيما إن كان غريبا.
وينبغي أن يفهم الصبي أن الطعام إنما يحتاج إليه كما يحتاج إلى الدواء، فكما أنه ليس يقصد من الدواء إلى أن يكون لديدا (لذيذا) أو كىيرا (كثيرا) وإنما يقصد إلى منفعته، فكذلك ليس القصد من الطعام إلى لدته (لذته)، ولا كىرته (كثرته) وإنما القصد إلى (87) مقدار منفعته، ويعود الصبي أن ينيل من سأله مما يطعم، فإنه يستفيد من ذلك ضبط الشهوة والسخاء والتجنب.
ويعود القناعة بأخس الطعام والاقتصار على الخبر (الخبز) بلا أدم، فإن هذه العادة تعينه على العفة وظلف النفس وقلة الرغبة في المال، والرغبة في المال مذمومة في نفسها، وهي مع ذلك ربما دعت إلى اكتسابه من وجوه قبيحة إذا لم ىتها (يتهيأ) كسبه من وجوهه (وجوه) جميلة. والقناعة بأخس الطعام جميلة بالفقير والغني إلا أن الفقير إليها أحوج وهي بالغنى أجمل، وينبغي للصبي أن لا يستوفي العداء (الغداء) وأن استيفاءه للطعام وقت عشائه، فإن ذلك نافع له في ذهنه وصحة بدنه؛ لأنه إن استوفى طعامه بالنهار تقل (ثقل) واعتراه الكسل، واحتاج إلى النوم وعلط (غلظ) ذهنه عن قبول الأدب، وليس ينبغي أن يعود الصبي التكاسل والنوم بالنهار بل يعود النشاط والحركة والحرص على الأدب، وهذا التدبير أيضا للرجل أجود فإن عوده من صباه كان أسهل عليه وأنفع له، ولا يكون أكثر أكله اللحوم والأشياء الغليظة، فإن تركهما أنفع له في الذكاء وصحة البدن وفي سرعة النشوء؛ لأن العداء (الغذاء) الثقيل يثقل الطبيعة ويمنعها من النشوء. ويعود (88) الصبي الإقلال من الحلو والفواكه، فإن ذلك أنفع له في نفسه وبدنه: أما في نفسه فلين (فلأنه) لا يغلب عليه الترفه وحب اللذات، وأما في بدنه فلسرعة استحالة الأشياء الحلوة والفواكه وفسادها في الأبدان الحارة، ويعود الصبي أن يكون شربه بعد الفراغ من طعامه فإن ذلك أصلح لبدنه ونفسه، أما لنفسه فلضبطه لها، وأما لبدنه فلأن ذلك أعون له لاستمراء الطعام وأحدر (وأجدر) أن يقوي بدنه. وقد عرف ذلك من جربه وعلماء الأطباء يشيرون به، والمستعملون الانببده (الأنبذة) يعلمون به.
ووقت الطعام بالنهار للصبي هو الوقت الذي يكون قد فرغ فيه من وظيفته التي يتعلمها وتعب تعبا كافيا. ومتى رأيت الصبي يأكل الشيء، وهو يحب أن ىحفى (يخفي) أكله إياه، فامنعه منه فإنه لم يستر أكله إلا وقد علم أنه لا يحتاج إليه وأنه في أكله له مخطئ، ويعود الصبي أن لا يشرب الماء على عدايه (غذائه) ولا سيما في الصيف فإنه إذا شرب تقل العدا (ثقل الغذاء) وفتر بدنه وكسل ونفد الطعام أيضا عن معدته سريعا واحتاج إلى غيره، وإن كان الشتاء فهو مع ذلك يبرد البدن، وىحمل (ويجمل) بالصبي أن يضبط نفسه عن شرب الماء في أوقات سعله (شغله) بالتعلم وحصور (وحضور) من يجب إجلاله، ولا ينبغي أن يقرب الصبي النبيذ (89) حتى يصير إلى حد الرجال؛ لأنه يضره في بدنه ونفسه. أما في بدنه فلأنه يسخنه وهو لا يحتاج إلى سخونة لحرارته، وأما في نفسه فإذا كان النبيذ يغير أذهان الرجال المحنكين، ويخرجهم إلى السخف وسرعة الغضب ورداءة الفكر والقحة والتهور، فالصبي أحرى أن يفعل ذلك به
5
ودماع (دماغه) مع هذا رقيق، فىخار (فبخار) النبيذ يسرع إلى إفساده لقوته عليه، ولا ينبغي للصبي أن يحضر مجالس النبيذ إلا أن يكون من فيها من أهل الأدب والفضل. فأما مجالس العوام فلا، وذلك لما ىحرا (يجري) فيها من قبيح الكلام ويطهر (ويظهر) في أهلها من السخف.
أدب الولد في نومه ولبسه
وأما النوم فىفدر (فيقدر) للصبي منه مقدلد (مقدار) حاجته، ويمنع من أن يستعمله للنلد (للتلذذ) به فإن كثرة النوم صارا (ضارة) له في بدنه ونفسه؛ لأنه يرخي البدن ويفتحه (ويفنخه)، ويغلط الدهن (ويغلظ الذهن) ويميت القلب.
وينبغي أن يمنع الصبي من أن ينام إذا أكل حتى ينحط الطعام ويستقر قراره، وينبد (وينبه) في السحر لينفض عن بدنه ما اجتمع فيه من الفضول والأوساخ فيخف؛ لأنه ليس شيء أعون على الذكاء من ذلك، ولا أبلغ في نشاط البدن وصحته، ولا وقت أجود للمتعلم من وقت الغداة، والرجل أيضا يحتاج إلى أن ينبه في السحر، فإذا أعود (90) (عود) ذلك من صباه كان عليه أسهل، ويمنع الصبي من النوم بالنهار إلا إن احتاج إليه لضعف أو لعلة، ولا يعود الصبي النوم بحضرة الناس؛ لأنه مع ما في ذلك من القبح يدل على أنه ليس بمالك لنفسه، ولا ضابط لها عن اللذة، والفراش الوطيء رديء للصبي؛ لأنه يرخيه ويفنخه والصبي يحتاج إلى أن يصلب وتشتد نفسه، ولين (ولئن) مال (ينال) الصبي طرف من البرد في الشتاء ومن الحر في الصيف خير له من أن لا يناله شيء منها (منهما)، ومن لم ينله شيء من ذلك كان بدنه رقيقا ضعيفا، وكانت نفسه أيضا رخوة خوارة، وكذلك المشي والعدو والركوب والحركة خير للصبي من السكون والدعة والحفط (والحفظ؟) والدلال .
وينبغي أيضا أن لا يعود الصبي لبس اللين والرقيق، وأن لا يلبر (يكبر) في نفسه هيبة اللباس، وأن يفهم أن ذلك إيما (إنما) يليق بالنساء والمترفين وأن ذلك يدعوه إلى محبة المال، وقد بينا أن محبة المال رديئة في نفسها داعية إلى ما هو أردى (أردأ) منها. ولا ينبغي أيضا أن يخرج بلا رداء، ولا يرخي يديه (91) ولا يضمهما إلى صدره ولا يكسف (يكشف) ساعده، ولا يسرع في مشيه جدا ولا يبطئ فيه جدا، فإن السرعة في المشي تدل على التهور والإبطاء فيه يدل على التيه والكسل، وكشف الساعد من فعل الوقاح وإرخاء اليدين من الاستخفاف بالناس.
ولا ينبغي أن يربى له شعر ولا يزين الصبي بشيء من زينة النساء؛ بل يعرف قبح التصنع والغرض الذي يقصد إليه من يتصنع ويبغض إليه النسبه (التشبه) بالنساء، ويحبب إليه التسبه (التشبه) بالرجال، ولا يلبس الخاتم إلى أن يحتاج إليه، ويمنع أن يفخر (يفتخر) بشيء يملكه على من لا يملك مثله، ويعاب ذلك عليه حتى ينتهي عنه، ويطلق له الفخر بالأدب والعلم والماراه (والمباراة) فيهما، وىوجد (يؤخذ) بإكرام من هو أكبر منه والقيام له عن موضعه، وأن لا ياومر (يكرم) الغني إلا كما يكرم الفقير، ويؤخذ أيضا بإكرام من هو أفضل منه في الأدب والمعرفة وإن كان أصغر منه سنا، ويمنع الصبي من التبزق والامتخاط والتثاؤب والىجش (والتجشؤ) وما أشبه ذلك بحضرة الناس؛ لأن فيه دليلا على ضبطه لنفسه ونظافته وشدة حياه (حيائه)، وليس ىلر (تكثر) هذه الأفعال إلا في من أسرف في المطعم والمشرب والنوم والراحة، ولا يدعم (92) رأسه بساعده، ومن فعل ذلك فقد دل على أنه بلغ من استرخائه، وىفنخه (وتفنخه) أن لا يقدر على حمل رأسه إلا أن يفعله صاحبه وقت الاعتمام (الاغتمام) والانكسار والضعف.
أدب الولد في كلامه وتصرفه مع غيره
ولا ينبغي للصبي أن يحلف بالله على حق ولا على باطل، وذلك أيضا جميل بالرجل إلا أنه ربما اضطر إليه، وليس يعرض للصبي من الأمور ما يضطره إلى اليمين، وإذا اعتاد الإنسان من صغره أن لا يحلف بالله قل استعماله لليمين إذا كبر وتوقاها ولم يجسر عليها في أكثر الأشياء.
وينبغي أن يعود الصبي الصمت وقلة الكلام، وأن لا يتكلم بحضرة من هو أكبر منه إلا بما ىسئال (يسأل) عنه، وإنما ينبغي للصبي إذا حضر مجلس من هو أكبر منه أن يىصت (ينصت) لكلامه، فإن الاستماع أعون له على التعلم، والصمت بكلامه يدل على الحكمة والحياء، وينبغي أن يمنع الصبي من ذكر الأشياء القبيحة، وىحدر (ويحذر) عليه أن يسمعها من غيره فان دكرها فاستماعها (فإن ذكرها واستماعها) يولبانه (يؤتيانه) بها، وإذا غاب ذكرها واستوحش منها كان لاىياىها (لإتيانها) اعيب (أغيب) ومن ذلك أشد وحشة؛ ولذلك ينبغي أن يحذر الصبي معاشرة من كان من الصبيان فيه جرأة وتقدم (93).
وينبغي أن يمنع الصبي من الشتم واللعن، ويعود طيب الكلام وحسن اللقاء، وأن لا يسمع الدمرلده (التذمر؟) ممن يقصد إلى تأديبه إذا جاء منه الزلل وإلى تأديبه غيره. ومن أنفع ما أدب به الصبي وأجود ما عوده استعمال الصدق وتجنب الكذب، وإن كذب الصبي فينبغي أن يلام ويذم ويعير ويضرب إن أحوج إلى ذلك. فإن أفضل الفضائل الصدق واحسن (وأخس) الدناءة وأقبحها وأردأها الكذب. ومن يعود الكذب ونشأ عليه لم يفلح.
وينبغي أن يعود الصبي خدمة نفسه ووالديه ومعلمه ومن هو أكبر منه، وأحوج الصبيان أن يؤخذوا بذلك أولاد الأغنياء؛ لأن أولاد الفقراء يضطرون إليه فهم يعتادونه وأولاد الأغنياء إن لم ىوحدوا (يؤخذوا) به لم يدعهم إليه سبب. وفي ذلك لمن فعله من الصبيان منفعة عظيمة؛ لأنه ىحرج (يخرج) الصبي ويكسبه رجولة ودربة ويعوده التواضع وىحتلب (ويجتلب) له المحبة ويكون به مستعدا للىواىب (للنوائب)، ولا ينبغي للصبي إن ضربه المعلم أن يبكي ولا يصيح ولا يضرع، فإن ذلك من الفشل والجبن، وإنما يليق ذلك بالعبد لا بالحر. وقد قلنا إن من لم يك فيه من الصبيان أنفة (94) عسر فلاحه.
وينبغي أن يؤدب الصبي على الحسد والبغي وغيرهما ويحبب إليه المباراة في الأدب والأنفة من أن يتقدمه غيره فيه، ويعود الصبي أيضا الأنفة من أن ىبر (يبره) قرنه بشيء لا ىبره (يبره) بمثله أو اكبر (أكثر) منه، وأن يأخذ شيئا ويعطي أقل منه ومن أن يحبه قرنه أكثر مما يحبه هو، والذي يليق بالكريم أن يبر بأكثر مما يبر به ويعطي أكثر مما يأخذ، ويليق بالمتحبب أن يحب أكثر مما يحب، وإن لم يمكن الصبي أن يبر بالوجه الذي بره قرنه، فليتحيل لمكافأته على ذلك البر بوجه آخر، وإلا كان غير متخد (متحد أو متخذ؟) العدل ونسب إلى محبة الربح لا إلى محبة الكرامة، وينبغي أن يبغض الصبي الذهب والفضة وىحدر (ويحذر) مسهما أكثر مما يحدر (يحذر) مس الأفعى والحية. فإن آفة الأفعى والحية إنما تدخل على البدن وآفة حب الذهب والفضة تدخل على النفس، وضررهما في النفس أبلغ من ضرر السم في البدن، ويحتال في وضع قدرهما عنده وتهجين من أحبهما.
وينبغي أن يؤدب الصبي في بعض الأوقات في اللعب، ولا يلعب لعبا فيه قبح ولا ألم فإن اللعب إنما يراد لراحة الصبي وسروره حتى يكون ذلك عونا له على ما يراد منه فيما بعد من التعب في الأدب والصبر على مشقته. فإذا (95) كان في لعبه تعب له احتاج إلى الراحة في وقت تأديبه، فبطل ما قصد به إليه وبقي التعب الذي به.
ومن أجود ما يعوده الصبي وأبلغه في فلاحة (فلاحه)؛ الطاعة لوالديه ولمعلمه ولأهل الأدب والنظر إليهم بعين الجلالة والاستحياء منهم والهيبة لهم، ومن لم يكن فيه ذلك من الصبيان ابطى (أبطأ) فلاحه.
وينبغي أن ىحدر (يحذر) على الصبي الجماع أو أن يعرف شيء (شيئا) من أمر الجماع أو يقارنه (يقاربه) حتى يتزوج. فإنه مع ما في ذلك من القربة إلى الله تعالى والثناء الجميل عند الناس، وصحة البدن، وحسن النماء، وبقاء الطهارة والنظافة والضبط للنفس، ففيه أن الرجل إذا لم يعرف امرأة وكانت المرأة لا تعرف رجلا غير رجلها، كان حب كل واحد منهما لصاحبه غاية الحب وانطوى قلبه عليها وقلبها عليه؛ وذلك من أنفع الأشياء للرجل والمرأة جميعا، وإن كان الذين يريدون شدة البدن يصبرون على الجماع ويؤثرون ذلك عليه، فالذين يريدون فضيلة النفس أولى بالصبر عليه، ومن حفظ هذه الأشياء وعمل بها صار بها إلى الفضيلة، ونال المحبة والكرامة من الله والناس وبلغ غاية السعادة، ومن أطرحها وظن أنه لا ينتفع بها وأن منفعتها يسيرة وترك استعمالها نال من راحة ذلك (96) الشيء اليسير «كذا» وأداه إلى عظيم النقص والخساسة، ولعله يعرف فضيلة ذلك في وقت لا يمكنه فيه تلافيه واستدراك ما فات منه فيحصل إلى الندامة. فإن اليسير من الخطأ في أوائل الأشياء وأصولها ليس بيسير الضرر، وكذلك المنفعة في يسير الصواب؛ لأن الأشياء تبنى على تلك الأصول.
تم قول برولس «كذا» في تدبير المنزل والحمد لله وحده.
رسالة تدبير المنزل لأرسطو
بقلم عيسى أفندي إسكندر المعلوف اللبناني صاحب مجلة «الآثار»
تمهيد
لقد طالعت في الجزء الثالث الماضي من «المشرق» الأغر مقالة «تدبير المنزل» لمؤلفها «برسيس» مع مقدمتها وحواشيها بلذة؛ لما فيها من المباحث الجديرة بالثناء على الفلاسفة القدماء في ما وضعوه لنا من كتب التربية وتدبير الأسرة والمنزل ... إلخ، وما عانى علماء العرب في نقلها إلى لغتهم وحفظها بعد ضياع أصول كثير منها، ونشرها الآن بعناية مجلة المشرق. ولقد عنيت بالبحث عن مثل هذه الآثار النادرة؛ لنشرها على صفحات مجلتي «الآثار» أو غيرها من المجلات الكبرى حفظا لها من الضياع، ومما أظفرني به الحظ منذ سنوات مقالة «تدبير المنزل» لأرسطو الفيلسوف اليوناني في مجموعة طبية طبيعية فنية قديمة الخط نادرة الوجود اتصلت بمكتبتي مثل غيرها من المخطوطات النادرة التي حرصت عليها كل الحرص، ولا سيما في أثناء الحرب العامة ونكباتها فزدتها عشرات من النوادر، وقبل وصف الكتاب والرسالة استأذن ناشر المقالة المذكور صديقي العلامة صاحب المشرق بتقديم كلمة في هذا الموضوع. (1) كتب تدبير المنزل
لقد وقفت على أسماء كثير من المؤلفات المتعلقة بتدبير المنزل وشئون الأسرة والتربية البيتية، وسياسة أربابه وعرفت بعضها وما بحثت فيه ؛ فرأيتها ترمي إلى أغراض كثيرة مثل تدبير الزوجة، وتربية الأولاد، وتدريب الخدام، وآداب الصحبة، وحسن المعاشرة، وصحة المخالقة، وآداب الإنسان في مأكله ومجلسه وملبسه وسفره وإقامته، وإدارة البيت، وإعداد المآكل والتمريض، وما يتعلق بذلك من الآداب الرائعة، ولولا ضيق المقام في هذه العجالة لعددت منها عشرات بأسماء مؤلفيها مواضيعها وما شاكل، ولكنني أقتصر على الإشارة العامة منتقلا إلى وصف هذا الفن من مؤلفاتهم.
إن طاش كبرى زاده في كتابه «مفتاح السعادة ومصباح السيادة
1 » الذي ضمنه كثيرا من هذه الآداب ذكر في «الدوحة الخامسة» التي تبحث في الحكمة العملية أن لها أربع شعب: «الأولى» في علم الأخلاق، و«الثانية» في علم تدبير المنزل، و«الثالثة» في علم السياسة، و«الرابعة» في فروع الحكمة العملية، وهي علم آداب الملوك ووظائف السلطان وآداب الوزارة، والاحتساب، وقود العساكر والجيوش.
ثم قال بعد تعريفه الحكمة العملية ما نصه، وهو يدل على علاقات التقسيم: «ثم أن الحكماء ذكروا علومهم العملية، وبحثوا فيها عن الأعمال الصادرة عن البشر، وتلك الأعمال؛ إما أن تتعلق بالشخص وحده وهي «علم الأخلاق». أو تتعلق بأهل المنزل لدوام الأنس والائتلاف وهي «علم تدبير المنزل». أو تتعلق بأحوال أهل البلد لنظام أحوال الملك والسلطنة، وهي «علم السياسة» وهذه علوم ثلاثة، ولنذكر كلا منها في شعبة ثم نردفها بشعبة رابعة لبيان فروعها.»
وإليك ما ذكره في الشعبة الثانية عن «علم تدبير المنزل»: «وهو علم يعرف منه اعتدال الأحوال المشتركة بين الإنسان وزوجته وأولاده وخدامه، وطريق علاج الأمور الخارجة عن الاعتدال ووجه الصواب فيها، و«موضوعه» أحوال الأهل والأولاد والقرايب والخدام وأمثالها، و«منفعة هذا العلم» عظيمة لا تخفى على أحد حتى العوام؛ لأن حاصله انتظام أحوال الإنسان في منزله؛ ليتمكن بذلك من رعاية الحقوق الواجبة بينه وبين الأشخاص المذكورة، ويتفرغ باعتدالها وانتظامها إلى كسب السعادة العاجلة أو الآجلة.»
ثم قال: «وأشهر كتب هذا العلم «كتاب بروش»، وفي هذا العلم كتب كثيرة غير هذا، وستعرف الكتب الجامعة للثلاثة.»
انتهى ما رأيت ذكره من هذا الكتاب الذي اعتمد عليه الحاج خليفة في كشف الظنون ونقل عنه التعاريف والحدود أحيانا بالحرف الواحد، كما ترى في علم تدبير المنزل. (2) مؤلف الرسالة المنشورة في المشرق
لقد رأيت اسم صاحب هذه الرسالة كثير الصور والتحريف، وأقدم من ذكره ابن النديم في «الفهرست» صفحة 263 بقوله:
كتاب «روفس» في تدبير المنزل لعلوسوس.
2
هذا كل ما ذكره عنه، ولما نقل المرحوم المؤرخ جرجي زيدان كلامه في تاريخ آداب اللغة العربية «2: 232» قال: «كتاب تدبير المنزل لبروسن «كذا» ذكره صاحب الفهرست وقد ضاع.» فحرف الاسم خطأ مطبعيا، وكأن المؤلف لم يطالع الفصلين اللذين نشرا من هذا الكتاب في مجلة الضياء اليازجية «2: 199 و243 و266» في البحث عن المال والخدام فقط عدا الفصلين الباقيين اللذين نشرتهما «المشرق» مع الأولين
3
فلذلك قال إنه «قد ضاع.»
ولقد عارضت ما نشر في الضياء بما نشر في المشرق، فرأيت الكتاب الذي نقل عنه الضياء أسد مرمى في بعض المواضع مما نقل عنه المشرق، ولعله أقدم وأضبط على أن ما في المشرق قد يزيد فقرات لا توجد في الضياء أحيانا شأن ما ينقل عن المخطوطات القديمة، ولا سيما غير المنقوطة منها أو التي لم تقابل على أصلها وتضبط بقراءتها على مشاهير العلماء.
بقي البحث في «اسم مؤلف الرسالة» فإن ما فيه من التصحيف والتحريف وكثرة الإشكال يشوش الذهن، حتى إن الاسم جاء في مجلة «الضياء» هكذا «ىرسس» مهملا. وفي آخر مقالة المشرق «برولس» ولعلها «پروبس»؛ لأن ما جاء في فهرست ابن النديم هو الأقرب إلى الأصل، والفيلسوف «روفس» كان من أفسس مقدما في صناعة الطب، ولم يكن في الروفسيين أفضل منه، وهو قبل جالينوس المشهور «فهرست ص291»، ولا خفاء بالتبادل بين الفاء والباء، فيقال روفس وروبس.
ولقد ترجم هذا الفيلسوف ابن القفطي «ص291» وابن أبي أصيبعة «1: 33» في كتابيهما «تاريخ الحكماء والأطباء» على أن ابن أبي أصيبعة سماه «روفس الكبير»، مما يدل على أنه يوجد حكيم آخر باسم «روفس الصغير» لعله هو واضع هذه الرسالة. ولقد عدد مؤلفاته. وذكر له أيضا ابن أبي أصيبعة «1: 200» كتاب «حفظ الصحة» الذي فسره حنين بن إسحق، ولكنهما لم يصرحا باسم هذا الكتاب كما اشتهر اسمه «تدبير المنزل» على أن ابن أبي أصيبعة ذكر له مقالة «في تدبير الأطفال»، ولعلها إحدى المباحث الأربعة مفردة أو سمى الكل باسم الجزء، وذكر له ابن النديم كتاب «التدبير مقالتان» فأفرد له بعض مباحث الرسالة أيضا. أما علوسوس الذي ذكره ابن النديم فمما لا يهتدى إليه، ولعله هو الذي دعا إلى هذا التحريف والتصحيف. (3) تدبير المنزل لأرسطو
هو رسالة من كتاب طوله 23س، وعرضه 16، وكل صفحة معدل أسطرها 17 في نحو 400 صفحة مخروم من أوله وآخره، ولكنه قديم الخط مجلد بالخشب بقطع ربع عريض خشن الورق، مختلف الخط بالحبرين الأسود والأحمر اتصل بمكتبتي، وفيه مقالات «التعليلات» للإسكندر الأفروديسي. و«ثمار المسائل الطبية» لثاوفرسطس، و«مسائل ما بال» لأرسطو في 25 مقالة، و«ثمرة من كلام يحيى وجالينوس» في الترياق، ومقالات أخر مختلفة المواضيع لعيسى بن ماسويه ولجالينوس وبعضها لم يذكر مؤلفها، وهي في تركيب الأدوية والأغذية والحيوان والشعر والروح والنفس والعطش والروائح ... إلخ وآخرها «في الموسيقى» لأبي الفرج بن الطيب. وكلها من نوادر المواضيع الجديرة بالنشر. على أن خط الكتاب القديم كان مهملا، فأعجمه بعض مطالعيه فشوشوا بعض ألفاظه، وسأصف هذه المجموعة مع غيرها من نوادر المخطوطات التي أحرزها في مكتبتي حرصا على فوائدها، وحفظا لها من الضياع متى سنحت لي فرصة كافية.
أما مقالة تدبير المنزل فقد عنونت هكذا «ثمار مقالة أرسطو في تدبير المنزل»، وهي في نحو سبع صفحات
4
عارضتها بمقالة «بروفس» في المشرق فرأيت فيها هذه الفروق: (4) معارضة الرسالتين
بدأ أرسطو رسالته في الفرق بين السياسة المنزلية والسياسة المدنية فأبدع في التفرقة بينهما، ولم يقتضب الكلام اقتضابا كما فعل «بروفس» وجعل أول حاجات المنزل المرأة، فبحث عنها ثم عن الرجل وسياستهما معللا عن مبادلة التعاون مفرقا بين الإنسان والحيوان في الزواج باحثا عن زينتهما، وأنها خارجية لا تأثير فيها على الأخلاق مفضلا هذه عليها، وتطرف إلى الخدام وعبر عنهم «بالعبيد» ونهى عن السماح لهم بشرب المسكرات، وحض على تعهدهم بالاستخدام والتأديب والإشباع واسترسل إلى وصف أخلاقهم، وما يجب أن يفضل منها على غيرها.
ثم استرسل إلى المال وتحصيله وخزنه وإنفاقه، وما شاكل ذلك مشيرا إلى تربية الأسرة وما يجب فيها من الحكمة.
على أن الفرق بين الرسالتين؛ أن أرسطو أدمج كلامه بدون تبويب، وبدأ في وصف تدبير المنزل وشئون أربابه متطرقا من موضوع إلى آخر بعلاقات قاده إليها البحث معتمدا على فلسفة التدبير العامة معتمدا على آداب العبيد المستخدمين، مما يدل على شدة عناية القدماء بهم، ولا سيما في عصره. بخلاف تقسيم بروفس مقالته إلى أربعة مباحث معنونة.
وعبارة رسالة أرسطو تنم عن أساليب التعريب القديمة لكبار المعربين مع ما في ألفاظها من الإشكال لإهمالها، ثم إعجامها مما يحتاج إلى إعمال النظر لرده إلى نصابه.
وعلى الجملة فالرسالة جديرة بالنشر بعد تحقيق بعض ألفاظها وإزالة ما شوهها من التصحيف مع كرور الأيام على هذه النسخة واصطلاح الخط القديم، وكثرة الأيدي التي اشتغلت في الكتاب المجموعة فيه نسخا وتنقيطا وتشكيلا. وسأتفرغ لذلك عند سنوح الفرصة.
ختام
ومزية المقالات جميعها أنها عبر عنها في الطب «بالعلة» وفي غيرها «بالثمرة»، فلذلك سميت مقالات كثيرة فيه بالتعليلات وأخرى بالثمار، وفيها مباحث مفيدة في الطب والطبيعيات والآداب منها في الخمر والمسكر والتعب والإعياء والعدوى التي عبر عنها بالمشاركة في الألم وخواص الحيوانات، والصوت والأمزجة والعطش وأكثرها لأرسطو وغيره من كبار الفلاسفة، ولعلها من تعريب أبي الفرج بن الطيب والله أعلم.
الأحاديث المطربة لابن العبري
سعى بنشرها الأب لويس شيخو اليسوعي (تتمة)
توطئة
من جملة التآليف الأدبية التي ذكرناها لابن العبري في ترجمته المطولة المنشورة في السنة الأولى للمشرق (1 [1898]: 560) كتابه الموسوم بالسريانية بالقصص المضحكة « »، وقلنا هناك إن هذا الكتاب قد نشره أحد علماء الإنكليز المستشرق واليس بودج
E. A. Wallis Budge
في أصله السرياني في لندن سنة 1897، ونقله إلى الإنكليزية تحت عنوان
The Laughable Stories ، ولم نعهد لهذا الكتاب ترجمة عربية حتى وقع في يدنا مؤخرا مجموع قديم يرتقي عهد نسخه إلى ثلاثمائة سنة بنيف يحتوي أولا أقوالا لقدماء فلاسفة اليونان (ص1-79) ثم كتاب ابن العبري الذي نحن بصدده منقولا إلى العربية دون ذكر معربه، وعندنا أن المعرب هو ابن العبري نفسه الذي كان متقنا للعربية كما كان يعرف السريانية واليونانية، ولعل هذا الكتاب هو كتاب دفع الهم الذي نسبه البعض لابن العبري، وخلطوا بينه وبين كتاب آخر بهذا الاسم ألفه إيليا الصوباوي (راجع ما كتبناه عن ذلك في المشرق 5 [1902]: 337-343) ثم أردفه بملحوظاتهما حضرة الأب لويس معلوف (5: 737-740) وحضرة المنسنيور جرجي منش (5: 940-945)، ويؤيد رأينا الجديد ما قاله ناشر النسخة السريانية في كتابه آداب اللغة السريانية
Wright
Syriac Iiterature , 281 : إن ابن العبري قد نقل كتابه إلى العربية وهو الكتاب المسمى دفع الهم، ولعله أبدل هذا الاسم بعد ذلك لئلا يقع التباس مع كتاب إيليا الصوباوي فدعاه «بالأحاديث المطربة» كما يرى في نسختنا هذه.
والكتاب يقسم في السريانية إلى عشرين فصلا، وأما في نسختنا العربية فقد اختصره بستة عشر فصلا، فذكر فيها ابن العبري أحاديث: (1) لفلاسفة اليونان. ثم (2) لحكما الفرس. ثم (3) لحكماء الهند. ثم (4) لحكماء العبرانيين. ثم (5) لبعض الملوك. ثم (6) للمعلمين. ثم (7) للزهاد. ثم (8) للأطباء. ثم (9) حديث على لسان الحيوانات. ثم (10) حديث للأغنياء الكرام. ثم (11) للبخلاء. ثم (12) لأرباب الصنائع الدنية. ثم (13) لبعض الظرفاء. ثم (14) لبعض الجهال. ثم (15) للمجانين. ثم (16) للصوص. وكما اختصر المؤلف عدد الفصول كذلك اختار من هذه الأحاديث ما يستطيبه قراء العرب، كما فعل في تاريخه مختصر الدول؛ فإنه لما عربه عن تاريخه السرياني تصرف فيه تصرفا واسعا، وقد ضربنا نحن أيضا صفحا عن بعض الأحاديث الواردة في نسختنا إذ لم نجد طائلا تحتها. وهذه الأحاديث هي في السريانية في عدد 772، وقد دللنا في أول كل حديث إلى العدد الموافق لطبعة العلامة ريت السريانية؛ ليقابل بينهما، وقد يوجد بعض اختلاف بين السرياني والعربي يلوح لمن يقابل بين نصوصهما. والظاهر أن نسختنا هذه فريدة في جنسها إذ لم نجد في فهارس مكاتب أوربة ذكر نسخة ثانية من تعريب أحاديث ابن العبري، فنشكر لجناب الأديب يوسف أفندي إليان سركيس الذي حصلها لمكتبتنا. (1) كلام مفيد لفلاسفة اليونان
3 قالت امرأة لسقراط: ما أقبح وجهك . فأجابها: لو كنت مرآة صقيلة نقية لاعتبرت كلامك، لكنك ذات صدأ فليس يظهر فيك جمالي؛ ولهذا لست ألومك.
4 ورأى امرأة شنقت نفسها في شجرة، فقال: ليت كل الشجر يحمل مثل هذا الثمر.
5 ورأته امرأة أخذوه ليصلبوه، فبكت وقالت: وا أسفاه! يقتلونك بغير ذنب. فقال لها: يا جاهلة أتريدين أني أذنب وأدان وأقتل كمذنب؟
7 سئل فيلسوف ما: ما هو العمل الذي يهواه كل البشر وينفعهم؟ فقال: هو موت الرئيس الشرير.
9 سئل أفلاطون: بماذا يتعزى الإنسان وقت محنته؟ فقال: بتأمله أنه قد عرض لغيره مثله.
10 أوصى أرسطو للإسكندر قائلا: احذر من كشف سرك لاثنين؛ لأنه إذا أفشي لا تعلم من أفشاه، وإن عذبت الاثنين معا تكن ظالما للبريء.
11 قيل لآخر: من هو العاقل؟ فقال: هو الذي تصح ظنونه بالأكثر.
12 قيل لديوجنيس: لماذا تأكل في السوق؟ فقال: لأني جعت في السوق.
17 رأى آخر امرأة تتفرج في الميدان، فقال لها: ما خرجت لتنظري بل لتنظري.
18 قيل لآخر: ما بالك لا يحبك الملك؟ فقال: إن من عادة الملوك أن لا يحبوا من هو أعظم منهم.
22 رأى آخر مدينة مشيدة الأركان، عالية الأسوار والقلاع، شاهقة الصياصي محكمة البناء، واسعة الغنى ذات حصن منيع، كادت تعيي كل من أراد أن يفتحها، فقال: إن هذا مسكن للنساء ولا يليق بالرجال.
24 سئل أرسطو: ما بال الحساد يحزنون دائما؟ فقال: لأنهم لا يحزنون على شرورهم فقط بل على خيرات غيرهم أيضا.
25 سئل آخر: ما هو عمل الشعراء؟ فقال: تصغير الأكابر وتكبير الأصاغر.
27 قال أفلاطون من شيئين يعرف الجاهل: بكثرة كلامه فيما لا ينفعه، وبإخباره عما لا يسأل عنه.
31 قال بعضهم: لا يوجد شيء عجيب في الإنسان مثل أن يسرق ماله فيحزن، وتتصرم أيامه فلا يحزن.
32 رأى إنسان سقراط يأكل أصول الشجر، فقال له: إنك خدمت الملك لماذا احتجت إلى هذا المأكل الدني؟ فقال له: لو أكلت أنت مثل هذا المأكل لما احتجت أن تخدم الملك.
33 قيل إنه لما سقي إسكندر السم وقرب أجله كتب إلى أمه يقول لها: إذا قرأت هذه الرسالة اصنعي مأكلا كثيرا، وأطعمي من لم يمت له أحد أصلا من أقاربه. أعني إذا رأيت أن ليس إنسان واحد نجا من هذا العارض تتعزين في حزنك.
34 قيل لآخر: ما بالك تتنازل لتتعلم من كل أحد؟ فقال: لأني عرفت أن العلم مفيد من أي رجل كان.
36 قيل لديوجنيس: ألا تقتني بيتا تستريح به؟ فقال: إن بيتي حيث تكون راحتي.
39 وصعد يوما إلى مكان عال فصرخ: ليأت الناس إلي. فالتأم إليه قوم كثيرون، فقال لهم: إني لم أدعكم بل دعيت الناس. وأراد بالناس الفلاسفة.
40 وسئل: أي فعل يعسر على الإنسان؟ فقال: أن يعرف نفسه ويخفي سره.
41 واستشار سقراط بعض أصحابه في امتلاك امرأة. فأجابه: احرص لئلا يعرض لك ما يعرض للسمك في الشبكة، فالداخلون يرومون الخروج والخارجون يرومون الدخول.
45 سئل ديوجنيس عن رجل موسر أهو غني؟ فأجاب: إني أعلم أنه ذو مال كثير؛ لكن لا أعلم أهو غني أم لا. أشار بهذا إلى أن الغني هو الذي لا يتوق إلى زيادة ماله؛ لأن من تاق إلى ذلك كان فقيرا بالنسبة إلى ما يطلب مقتناه.
46 وسأله ملك: أين غناك ومقتناك؟ فأومأ إلى تلاميذه، وقال: عند هؤلاء يريد بذلك الحكمة.
47 قيل لآخر: إنه يعسر على الإنسان أن يصل إلى ما لا يريد. فقال: بل أعسر من هذا أن يطلب الإنسان ما لا يصل إليه.
49 أهدى بعضهم الإسكندر أواني زجاج؛ فاستحسنها جدا، ثم أمر بكسرها فقيل له: لأي سبب فعلت هذا؟ فأجاب: إني أعلم أنها ستنكسر الواحدة بعد الأخرى في أيدي الخدام، ويحصل لي حنق في كل وقت بسبها، فلهذا عمدت إلى حنق واحد فمنعت حنقا كثيرا.
51 قال أرسطو: إن الجاهل ليس يحس بمرض عقله، فهو كالسكران الذي لا يحس بالشوك الذي يدخل بيده.
55 سافر سقراط مع غني ما فأخبر أن في الطريق لصوصا. فقال الغني: ويلا لي لو عرفوني. فقال سقراط: أما أنا فالويل لي إن لم يعرفوني.
56 كتب أحد الأغنياء على بابه: يا باب لا يدخلك سوء. فلما قرأه ديوجنيس قال : وامرأتك من أين تدخل؟
63 سئل بعضهم: أي العلوم أفضل؟ فأجاب: هو الذي يشنأه الجهال.
64 اجتاز فيلسوف في مدينة ما فرأى زعيم أجنادها لم يفز بحرب أبدا، ورأى طبيبها يذهب بأرواح المرضى، فقال لأهل تلك المدينة: يا ليت طبيبكم كان زعيم أجنادكم؛ لأنه خبير في قتل الناس، وليت زعيم أجنادكم يكون طبيبا فيحرص على حياة الناس.
65 قال أفلاطون: إنه لعار عظيم أن الإنسان لا يتعلم ولا يسأل أن يتعلم، فيوجد بذلك فيه شران.
67 قيل لسقراط: إن القول الذي قلته لم يقبل. فقال: لا أحزن لكونه لا يقبل ولكنت حزنت لو لم يكن حسنا.
66 وقال له رجل: إني حزين عليك لأنك فقير هكذا. فقال له: لو أدركت لذة الفقر لحزنت على نفسك؛ لأنك معدوم منه ولم تحزن علي لأني فقير.
قيل لسقراط: لماذا تحب أن تعلم الصغار أكثر من الكبار؟ فقال: لأن الغرسة الجديدة سهل تعديلها أما اليابسة فبالعكس. «ليس هذا القول في الأصل السرياني.» (2) كلام مفيد لحكماء الفرس
70 سئل بزر جمهر: ما هو الغني الذي لا يفرغ إذا طرح؟ فأجاب: هو التواضع.
71 وقال: ما أحسن الصبر لولا الحياة القصيرة!
75 قال آخر: من يصنع خيرا بجاهل هو كمثل من يطوق خنزيرا بعقد كريم، ويطعم الأرقم عسلا.
78 أمر الملك أنوشروان أن لا يأكل أحد كما يأكل هو، ولا يشرب كشربه. فعمل أحد أكابر المدينة مأكولا ملوكيا ودعا إليه واحدا من العظماء ليتعشى عنده، فلما خرج كتب إلى الملك: إن فلانا يستعمل من مأكلك، وأنا رأيته ولا أقدر أن أخفي عنك، فكتب الملك على ظهر الكتاب: أما نحن فنثني على أمانتك وحفظك عهدنا، وأما ذاك فقد وبخناه لأنه لم يعرف أن يخفي سره فكشفه لمثلك.
79 سئل الملك كسرى: أيما هو الأحب إليك من بنيك؟ فأجاب: هو الذي يحب الأدب، ويحذر العار، ويغار على درجة أرفع منه.
83 سئل بزرجمهر لماذا يصير المحبون بسهولة مبغضين ويصير الأعداء بصعوبة محبين. فأجاب لأن هدم البيت أسهل جدا من بنائه، وكسر الإناء من جبره، وصرف المال من اقتنائه.
90 سئل كسرى: لمن من البشر تريد أن يكونوا حكماء؟ فأجاب: لأعدائي؛ لأن الحكماء لا يسهل عليهم الانقياد للشر بخلاف الجهلاء، فإنهم لا يحذرونه أبدا.
91 لما حبس الملك بزرجمهر سأله أحبابه: بماذا تتعزى؟ فقال بأربع كلمات: الأولى بقولي: إن كل شيء يجري بقضاء الله وحكمه. الثانية بقولي: إن لم أحتمل ماذا أصنع. الثالثة بقولي: إنه ممكن أن أقع بشر أعظم من هذا. الرابعة بقولي: لعل الفرج قريب وأنا لست أعلم.
92 ولما غضب الملك عليه وصلبه سمعت ابنته، فأسرعت برأس مكشوف وسعت بين الرجال، ولما انتهت إلى خشبته غطت رأسها. فلما سألها الملك عن فعلها أجابته: إني رأيته وحده إنسانا أهلا أن يستحيا منه.
96 قال بزرجمهر: من أحبك منعك من شهوتك، ومن أبغضك حرضك عليها.
99 قال إسفنديار: الفرس وإن كان عزوما جدا يحتاج إلى مهماز، والمرأة ولو كانت عفيفة تحتاج إلى رجل، والرجل مهما كان حكيما يحتاج إلى مستشار.
101 لما مات قيكباذ الملك قال أحد العلماء: إن الملك كان بالأمس ناطقا، وأما اليوم فهو واعظ، وإن كان صامتا.
102 وقال: إن القلوب تحتاج إلى التربية بالحكمة كما تحتاج الأجساد إلى القوت لتحيا.
104 قال إزدشير: اشغل نفسك في كل ما يجب لكي تمتنع مما لا يجب.
105 قال بزرجمهر: إن كنت لا تعرف أي أمر يليق لك فعله من نوعين، فاستشر امرأتك وافعل بضد قولها؛ لأنها لا تشير إلا بما يضر.
106 سئل مردوخ: بماذا نفرق الهم من الحنق فأجاب: إن الإنسان إذا أضره من هو أكبر منه ناله الهم، وإذا أصابه الأذى ممن هو أصغر منه ناله الحنق. (3) كلام مفيد لحكماء الهند
108 قيل إنه كان إذا مات رجل من الهند كان أصدقاؤه يتسلحون ويذهبون إلى منزله قائلين لأهله: أخبرونا من قتل حبيبكم لنقتله، فإذا جاوبوهم أن قاتله غير مقهور ولا منظور قالوا: «فلا يكثرن إذن غمكم على شيء لا يمكنكم ولا يمكنا رده.»، وهكذا كان يتعزى المحزونون.
110 قال بعضهم: إن شهوات هذا العالم تشبه ماء البحر الذي كلما أكثر الناس منه شربا زادوا به عطشا.
111 قال آخر: إن العلم يزيد الحكيم حكمة والجاهل جهلا، كما أن الشمس تزيد الأعين القوية قوة والضعيفة ضعفا.
112 قال آخر: لا تصدق عدوك ولو أكثر إليك الإحسان، كما أن النار تسخن الماء، وإذا دفق الماء عليها أطفأها.
115 سئل بعضهم: أي بلدة هي شر البلاد؟ فأجاب: تلك التي ليس فيها شبع ولا أمان.
117 قال آخر: ستة أفعال ليس لها ثبات: ظل الشمس ومحبة الجهال وعشق النساء والغنى الحرام والملك الظالم والمديح الكاذب.
122 سئل آخر: أيما هو الخسران الذي ليس يلحقه ربح أبدا؟ فأجاب: هو كفن الميت في القبر.
124 سئل آخر: لماذا شبهوا الجاهل بالأعمى؟ فأجاب: لأن الأعمى لا يفرق بين النور والظلام، فكذلك الجاهل لا يفرق ما بين الحكمة والجهل.
125 سئل آخر: من هو أقوى الناس؟ فأجاب: هو الذي يحفظ نفسه من النظر الشهواني. (4) كلام مفيد لحكماء العبرانيين
127 سئل بعضهم: لماذا تجوع وأنت لا ينقصك قوت؟ فأجاب: افعل هذا لئلا أنسى الجياع والصعاليك.
128 كتب آخر على باب الحبس: إن هذا بيت الهموم وقبر الأحياء واختبار الأعداء والأحباء.
129 قال آخر: إن وجدت عدوك ضعيفا فاحسبه عندك قويا لئلا تهمل الحرص منه، ومحبك القوي عده ضعيفا لديك لئلا تتكل على قوته وتصير حقيرا ذليلا عند أصحابك.
134 قال آخر: إن كثرة الأكل تعمي القلب كما أن كثرة الماء تفسد الزرع.
151 قال آخر: لا تماش من قد تنحى عنه أقاربه لأنهم أعرف منك به.
156 قال آخر: لا تهن صغيرا يكون أهلا لأن يصير كبيرا.
161 قال آخر: إن الرجل الذي يريد أن يصنع خيرا ينبغي له أن يمتحن حالة المقصود خيره ومثله في ذلك كمثل الإنسان الذي يريد أن يزرع أرضا ليلقي فيها البذار، فإنه يلزمه أن يمتحنها لعلها لا تنبت.
167 قال آخر: إن الكلام ما دام مكتوما هو في سجن من يريد النطق به، فإذا تكلم به صار المتكلم به حينئذ في سجنه.
قال آخر: ينبغي لرئيس الشعب أن يقوم ذاته أولا، ثم يسعى بعد ذلك في تقويم من هم تحت يده، وإلا أشبه رجلا يروم تقويم الظل المعوج قبل أن يقوم الجسم الذي يتكون منه الظل. (5) كلام مفيد لبعض الملوك الحكماء
218 أوصى بعض الملوك ابنه قائلا: حصن مملكتك بالعدل؛ لأنه السور الغير المغلوب.
223 كان بعض الملوك لا يترك أحدا أن يقبل يده، فسئل عن هذا فأجاب: إن قبلة اليد من المحب تنازل، ومن العدو تمليق.
224 طلب رجل كان يتظاهر بالزهد من بعض الملوك أن يوليه على بلاد، فقال له: إن كان زهدك الذي تعتني به هو لله، فلا ينبغي لنا أن نبطله بتقليدك الرئاسة ونربح خطيئتك، وإن كان زهدك رياء ونفاقا فلا يسوغ لنا أن نرئس على قومنا مرائيا ومنافقا، وهكذا صرفه خائبا.
225 قال بعضهم: إن عدم الإمكان يبطل الشهوة كما أن الماء يطفئ النار، وعدم الوقود يطفئها أيضا.
228 كان لبعض الملوك ابنان،
1
أحدهما من الملكة والآخر من جارية، وكان يروم الملك أن يملك ابن الجارية بعده، وكانت الملكة تلومه على ذلك فقال لها: فلنجرب عقل كليهما، ونقلد الملك أعقلهما ثم أرسل واحدا من أهل سره إلى ولد الملكة، وآخر إلى ولد الجارية ليسألاهما ماذا يفعلان بهما إذا استوليا على الملك، فكان جواب ابن الملكة للأمين: إني أصيرك مشيري وأوليك على البلاد، أما ابن الجارية فلما سأله الرسول ذلك رفع بيت دواته التي قدامه وضربه على رأسه قائلا: يا جاهل أتريد مني عطية في موت الملك إني أود أن نموت كلنا ويعيش الملك، فكيف نستطيع أن نجد مثله، فلما سمعت الملكة هذا طابقت على رأي الملك في تمليك ابن الجارية.
230 ماتت لأحد الملوك جارية فحزن عليها حزنا شديدا حتى إنه كان يخرج ليلا إلى ضريحها ويبكي عليها، فلما سمع أبوه هذا كتب إليه يقول: كيف تريد مني أن أعطيك السيادة على أمة، وأنت تجزع هكذا على فقد أمة.
238 قال بعض الملوك: لو علم الناس كيف لذتي بالصفح عن الجهالات لما بقي أحد بغير ذنب.
242 قال آخر: إن اللذة الحاصلة من الصفح هي أكثر من اللذة الحاصلة من الانتقام؛ لأن الصفح يلحقه المديح والانتقام يلحقه الندم .
244 مات بعض الملوك فسأل رجل أصغر بنيه قائلا: لمن أوصى الملك أن يهتم بك؟ فأجابه: إن الملك أوصاني أن أهتم بالجميع.
248 سئل بعض الملوك: ما بال أحبائك كثيرين؟ فأجاب: لأني ما حنقت قط على أحد إلا وتركت مكانا للصلح. (6) كلام مفيد لبعض المعلمين
252 قال بعض المعلمين: إن جزءا كبيرا من العلم ذهب مني، وهو الذي استحيت أن أتعلمه من الناس الذين هم أدنى مني، إياكم يا تلاميذي أن تعدوا احتقارا سؤال من هو أحقر منكم، فبهذا تكونون كاملين في علمكم.
254 قال آخر: إن الذي أعرفه قليل ولكنه صحيح.
262 قال آخر: إن المرأة الصالحة هي شبه الغراب الأبيض، أعني عديمة الوجود.
265 سئل بعضهم: من هو الحكيم الذي قيل عنه: «أرسل حكيما ولا توصه؟» فأجاب: هو الدينار.
269 سأل بعض المعلمين أحد تلامذته شيئا كمستعلم، فقيل له: أيسوغ لك أن تأخذ العلم عن بعض متعلميك؟ فأجاب: إنني أعرف منه بالجواب عن سؤالي لكني أردت أن يذوق طعم لذة التعليم؛ ليحرص كثيرا على اقتباس العلم.
270 قال بعضهم: أربعة هم الذين تجب عليك لهم الكرامة والخدمة: الذي تؤمل منه عطيته، والذي تؤمل منه علما، والذي ترجو منه بركة أو صلاة، والذي يقدر أن يسبب لك ضررا. (7) أحاديث زهداء
271 اتفق حضور بعضهم في بيت الصلاة مع والي البلدة، فقال له الوالي: اطلب ما هي حاجتك؟ فقال: إن في بيت الله لا ينبغي الطلب إلا من الله وحده.
272 قال بعضهم: أخمدوا نار غضبكم وشهواتكم بتذكركم نار جهنم.
274 قال بعضهم: ليس يوجد على الأرض إنسان ألا يريد أن يكون أصلح حالا مما هو عليه، وبهذا نعرف إن هذا العالم هو عالم الهموم والشرور.
275 قال آخر: إن شهوات هذا العالم التي ذهبت هي كأضغاث الأحلام، وأما المنتظرة فهي في شك وريب عن حصولها.
276 قال آخر: إن الذين يخدمون الله فالله يخدمهم، والذين لا يخدمونه فيؤدون خدمتهم للعالم بلا جدوى.
2
278 رأى بعضهم رجلا يتصدق بماله قدام الناس، فقال له: إن أردت أن تذخر لنفسك كنزا، فليكن بالخفية لئلا يراه الناس فيسلبوه.
279 وعظ بعضهم ملكا فقال: إن هذه الكنوز المذخورة في خزانتك لو بقيت في يد من سبقك لما وصلت إلى يدك، فتاجر إذن لنفسك بمال ليس هو لك ولا يثبت لديك بعد أن صار إليك.
282 سئل بعضهم كيف أمكنك أن تترك شهوات هذا العالم؟ فأجاب: لما رأيت أن الموت يخطفها مني غصبا جحدتها طوعا.
284 سئل بعضهم: كيف يكون البشر في يوم القيامة؟ فأجاب: إن الصديق يكون كالخروف الذي خرج للمرعى، والتائب مثل الخروف الضائع وقد وجد، أما المنافق فيكون كالخروف الذي عضه الكلب الكلب؛ أعني به الشيطان فلهذا يربط بالسلاسل.
285 رأى بعضهم ملكا يحتف حوله الجند والشاكرية؛ ليخفروه فقال: لو لم يكن هذا مذنبا إلى الناس لما خاف منهم على نفسه.
289 قال رجل لناسك: ما أعظم نسكك. فقال: أنت أعظم مني نسكا؛ لأني أنا زهدت في العالم الغير الثابت الذي ستزهد به مثلي عند موتك؛ أما أنت فقد زهدت في العالم الذي لا يزول وبغضته، فأنت إذن زاهد في كليهما وأنا بواحد منهما.
291 عنف أحدهم لكثرة صدقاته، فقال: ليت شعري كيف تجهلون أن الذي يريد أن يرحل من بيت إلى آخر ينبغي له أن لا يترك شيئا في بيته القديم.
292 قال ملك لبعضهم: ما لك لا تسجد لي وأنت من عبيدي؟ فقال له: لو علمت أنك عبد لعبدي لما قلت هذا لأني أنا متسلط على الشهوات العالمية وقد قهرتها، وأما أنت فقد تسلطت عليك وقهرتك فصرت لها عبدا.
293 قال أحد الأغنياء لناسك: كيف نرى وجهك باشا، وأنت فرح دائما كأنك عائش أرغد عيش وبأطيب هناء، فقال: يجب لي أن أفرح ولك أن تحزن؛ لأن أحزاني تذهب وأفراحك أنت تنتهي.
298 سئل آخر: ما هو هذا العالم؟ فأجاب: ضحكة لمن جربه.
303 دخل لص بيت ناسك في الليل، فلما لم يجد عنده شيئا قال له: أين هو مقتناك؟ فأجاب: إني وضعته حيث لا يمكنك أن تدركه، وأومأ إلى السماء.
304 قيل لآخر : لا نراك تلوم أحدا قط فقال: لأني لا أكف عن لوم ذاتي ولا دقيقة واحدة.
305 قال أحد الولاة لزاهد: ما لك لا تأتي إلينا أصلا؟ فقال: لأني لا أجد عندك ما أريد الحصول عليه، ولا تجد أنت عندي شيئا أخاف أن تخطفه مني.
306 كان آخر يقول: تأملوا ماذا يفيد الغنى لمن يقتنيه: أولا الخوف من الوالي ثم الحرص من اللص، والحسد من المحب والبغض من الولد إذ يؤمل موت أبيه ليرثه.
308 قال آخر: ليكثرن خوفك من الله كأنك لم تعمل برا قط، ويكثرن رجاؤك فيه كأنك لم تخطئ قط إليه.
311 قال آخر: إن الفردوس هو مكاننا الأول، فلما طردنا منه صرنا نتوق العود إليه، فنحن الآن نشتهي الرجوع إلى مقر مولدنا والنجاة من غربتنا.
314 سئل سائح: لماذا تستند دائما على عصا ولست أنت مريضا ولا شيخا عاجزا؟ فأجاب: لأني مسافر وعابر طريق وأنتظر زمانا يليق بالرحيل، ومن المعلوم أن العصا هي علامة من يروم السفر.
317 رأى بعضهم إنسانا قائما بين مقبرة ومزبلة، فقال له: تأمل يا هذا أين أنت واقف فإنك بين خزانتين عجيبتين الواحدة يخزنون فيها الناس والأخرى يجمعون فيها شهواتهم.
319 قال ملك لآخر: اطلب ما تريد أعطكه فقال: أريد حياة بغير موت، وعمرا بغير شيخوخة، وغنى لا ينقص، وسرورا لا يخالطه حزن. فقال الملك: لا أقدر أن أعطيك ما طلبت. فقال: دعني إذن أن أطلب ممن يقدر أن يمنح هذا كله. أومأ به إلى الله سبحانه وتعالى في العالم الآخر.
320 قال آخر: الشيء الذي لا تريد أن تقتنيه غدا اتركه اليوم، وما تريد أن تجده غدا احرص اليوم على جمعه. (8) أحاديث بعض الأطباء
329 قال طبيب: إن الأكل الذي لا يهضم يأكل آكله، فلا تأكل إذن إلا ما يمكنك أن تهضمه.
347 سئل بعضهم: ما هو الطب؟ أجاب: هو حفظ الصحة بالمشابهات، ودحض المرض بالمضادات.
3
358 دخل طبيب إلى مريض أبله فسأله: كيف ترى نفسك اليوم وما الذي تشتهي؟ فقال له: أنا اليوم بخير وأشتهي كثيرا أن آكل ثلجا. فقال له الطبيب: إن الثلج لا يوافقك لأنه يسبب لك سعالا. أجاب المريض: أنا أمص ماءه فقط، وأرمي الثفل كما أفعل بالتفاح.
362 دخل رجل من العظماء على الملك وعنده طبيبه، فسأله الملك: كيف هو ولدك الجديد وكم بلغ من العمر؟ فقال له: يا سيدي الولد بخير وعمره سبعة أيام. فقال الطبيب: كيف هو من حيث عقله؟ فقال الرجل: ألم تسمع أني قلت للملك أنه ابن سبعة أيام، فما لك تسألني عن عقله؟ أجاب الطبيب: إن المولود الحاد النظر القليل البكاء يدل على أنه عاقل.
363 اشتغل رجل بالتصوير ثم تركه وصار طبيبا، فسئل عن ذلك فأجاب: إن خطأ التصوير ترمقه الألحاظ، وتميزه الأعين، أما خطأ الطب فتغطيه الأرض ويستره القبر. (9) أحاديث موضوعة على لسان الحيوانات
369 قيل إن الثعلب استهزأ يوما باللبؤة؛ لأنها لا تلد في السنة طول عمرها إلا جروا واحدا. فقالت له: حقا ولكنه أسد.
371 وقيل إن ذئبا وثعلبا وأرنبا وجدوا خروفا، فقال بعضهم لبعض: إن الشيخ فينا يأكله. فقال الأرنب: أنا ولدت قبل آدم. فقال الثعلب: حقا ولكن أنا كنت هناك حين ولدت. فنهض الذئب وخطف الخروف وقال: إن قياسي ومقامي يشهدان على أني أقدم منكما. وأكله.
378 اجتاز ملك مع فيلسوف بقرب خربة وإذا فيها بومتان، فقال الملك للفيلسوف: يا ليت شعري من يستطيع أن يخبرني بماذا تتحدثان؟ فقال الفيلسوف: أنا أخبرك إن حلفت لي أن لا تفعل بي مكروها إذا صدقتك. فحلف له فقال: لإحدى البومتين ولد طلب الزواج بابنة الأخرى وأعطتها كمهر ابنتها مئة ضيعة خراب، فلم ترض أم الفتاة وطلبت أكثر من ذلك، فأجابت البومة: أمهليني سنة وأنا أعطيك ألف ضيعة خربة بفضل هذا الملك الذي يسوس المملكة. فلما سمع الملك ذلك اتعظ وصار يسلك بالعدل.
380 قالت الخنفساء لأمها: لماذا يبصق الناس علي حيثما توجهت؟ قالت أمها: إنهم يفعلون ذلك لأجل جمالك وسوادك الحالك وطيب رائحتك.
381 صاد كلب أرنبا فقال له: إنك لست بقوتك غلبتني بل لضعفي، وإن لم تصدق قولي فاذهب وجرب روحك مع الذئب.
384-385 قال الثعلب : لو كان عنب الثعلب حلوا لما تركه الناس بغير ناطور في البرية . وقال يعلم أولاده: إذا رأيتم الكرم حاملا والناطور نائما والنهر دافقا؛ فأبشروا بالغنيمة والشبع. (10) أحاديث لأغنياء كرماء
414 قالت امرأة رجل كريم لزوجها: لم أر قط شرا من أصدقائك الذين في زمن يسارك يلزمون صحبتك، وفي زمن فقرك يبعدون عنك. فأجابها: إن هذا من حسن نيتهم؛ لأنهم لا يريدون أن يثقلوا علينا في زمن ضيق يدنا وإعوازنا.
415 تقدم رجل إلى بعض الكرماء وسأله منحة، ووضع أسفل عكازه المستند عليها على رجل الكريم فضغطها سهوا. فلما أصاب بمرغوبه وذهب قال له الحضور: كيف احتملت الألم ولم توبخ هذا السائل عند وضعه عكازه على رجلك؟ فقال لهم: إني خشيت أن أقول له شيئا، فيستحي ويكف عن سؤالي.
417 مرض أحد الكرماء الأغنياء مدة أيام، فلم يدخل إليه أحد ليعوده، فقال للذين حوله: لماذا لم يأت ليعودنا أحد؟ فقالوا: لعلهم يخافون أن تطالبهم بما لك عليهم من الديون. فلما سمع هذا أمر مناديا أن يخرج إلى الشوارع، فيصرخ إن الذين عليهم دين لفلان هم في حل منه، فغصت داره المساء من كثرة الزوار.
418 كان أحد الأغنياء إذا طلب منه فقير شيئا ولم يعطه يدفع له صكا بخط يده أنه مديون له.
426 سئل بعضهم ما هو الكرم؟ فقال: هو إعطاء الحاجة للمحتاج في وقت حاجته.
427 قدم أحد الشعراء على أمير، فاستقبله الخدم بكل كرامة وأدخلوه على الأمير، فمدحه وأجزل الأمير صلته، فلما أراد الخروج لم يشيعه أحد من خدم الأمير، فأخذ يلومهم على تقصيرهم فقالوا له: إننا لا نقوم بخدمة من يخرج من عندنا؛ بل نرحب بمن يأتي إلينا؛ لأننا نفرح باستقبال الضيوف ولا نرى كرامة في تشييعهم. فتعجب الشاعر من عقلهم وسعة صدورهم فأثنى عليهم بقوله: إنكم أحق بالمديح من مولاكم. (11) أحاديث لأقوام بخلاء
429 قال بعض الشعراء لرجل بخيل: لم لا تدعوني لآكل عندك؟ فأجابه: لأنك تأكل كثيرا وتبلع سريعا، وما تأكل اللقمة حتى تهيئ الأخرى. فقال الشاعر: وما تطلب مني أتريد أني إذا أكلت لقمة أقوم فأسجد لك، ثم أرجع لآخذ الأخرى.
434 قال ندماء أحد الملوك لمولاهم: مر بأن تعطي لنا علامة حتى إذا رأيناها نخرج من عندك فتستريح؛ لأن هكذا كانت عادة والدك الملك. فأجابهم: هذه علامتي إذا سألت الطباخين «ماذا هيأتم» فلا يعد أحد منكم يطيل الجلوس عندي.
438 أشرف بخيل على الموت فأوصى ابنه قائلا: كن مع الناس في تصرفك كاللاعب بالنرد الذي يسعى بأن يحفظ الذي له، ويأخذ الذي لغيره بالصنعة أو الحيلة.
441 نظر بخيل ابنه يأخذ خبزا ويضعه في طاقة كان يخرج منها دخان ثم يأكل الخبز، فسأله أبوه عن ذلك فقال له: يا أبي إنني أشم رائحة طعام يخرج من هذه الكوة فأضع فيها خبزي ليصيبه شيء من رائحة الطبيخ فآكله، فلما سمع ذلك أبوه ضربه قائلا: ويحك أتريد منذ الآن أن تعتاد التلذذ في الأكل؟
443 جاءت ابنة امرأة بخيلة إلى حانوتي فقالت له: تقول لك أمي خذ هذا الرغيف وأعطنا أصغر منه، وأعطنا بالباقي جوزا.
448 خاصم بخيل جاره وشتمه؛ فسأله رجل: لماذا تخاصمه؟ فقال: إني أكلت رأسا مسلوقا ورميت العظام على بابي لكي أفرح أحبابي وأحزن أعدائي إذا رأوني أتلذذ، فقام هذا وأخذ العظام فألقاها على بابه.
450 قيل إن ثلاثة بخلاء استأجروا بيتا واحدا وسكنوه جملة، وكانوا يشترون زيتا للسراج لكنهم كانوا إذا أبى أحدهم دفع حصته من ثمن الزيت يعصبون عينيه بمنديل إلى أن يناموا ويطفئوا السراج.
451 طلب ملك من أحد الأدباء أن يكتب كتابا في مدح البخل، فكتبه وقدمه للملك وكان الملك بخيلا، فلما قرأه سر به ثم كتب لمؤلفه: إنا لم نشأ أن نعطيك شيئا لئلا نبطل مشورتك الصالحة الرابحة، وهكذا ذهب تعبه سدى.
455 قيل لبعض البخلاء: ما أحسن الأيدي على المائدة، فأجاب: لو كن مقطوعات.
459 كان بعض البخلاء لا يأكل إلا في نصف الليل، فسئل عن ذلك فأجاب: إن في هذا الوقت يهدأ الذباب، ولا هم لنا في من يدق الباب.
460 قال فيلسوف لغني: إنك تظن أنك أحرص على ما لك من سواك، وأنا أراك أسخى به من غيرك؛ لأنك بعد قليل تموت ويتبذر غناك على ورثتك سواء كانوا ممن أراحوك أم ممن أتعبوك.
461 مرض بخيل وجاء يوم البحران ولم يعرق، فخاف عليه خدامه وأخبروا الطبيب بالأمر فقال لهم: اذهبوا وكلوا أمامه من الخبز الذي يأكله عادة، فإذا رأى ذلك يسرع العرق إلى جسمه.
462-463 كان آخر إذا حصل على درهم يقبله ويعانقه قائلا: «أنت أبي وأمي وأخي وحبيبي كم من مدينة درت، ومن بحر قطعت، ومن غني أفقرت، ومن صعلوك أغنيت.» ثم كان يلقيه في كيسه قائلا: ادخل إلى بلدة لا يمكنك الخروج منها فتعود تتعذب، فاسترح الآن فلن يقلق لأجلك الجنود في الحروب ويتجشم التجار لأجلك الأسفار وتسقط بسببك في العار بنات الأحرار.
465 قال بخيل لعبده: قدم المائدة وأغلق الباب. فقال له العبد: يا سيدي بل أغلق الباب أولا ثم أقدم المائدة؛ لئلا يدخل أحد قبل أن أغلق الباب، فقال له سيده: نعم الرأي وأنت حر لأجل عقلك الثاقب، فلا تعد عبدا لحسن تدبيرك.
467 أخبر بعضهم قال: كنت في بعض الأيام آكل عند رجل غني شديد الإمساك، فتقدمت إلى المائدة قط، فأردت أن آخذ قطعة من الخبز وأرمي لها فقال لي: اتركها لأنها ليست لنا بل لبعض الجيران. (12) أحاديث لأرباب الصنائع
469 تقدم رجل إلى حلاق وقال له: احلق رأسي وأجز عليه الموسى حسنا، واحذر أن تجرح أذني ولا تدع شيئا من الشعر في مكان ما. فقال الحلاق: كن مطمئنا فإني سأنظف رأسك حتى إن كل من يرى عنقك يشتهى أن يصفعه بيده.
476 ذهب آخر إلى حكيم أسنان ليقلع له سنا يوجعه، فطلب منه درهما فقال: لا بل نصف درهم. قال: لا أرضي بأقل من درهم ولكن إكراما لك إن شئت أقلع لك سنا آخر أيضا ولا آخذ أكثر من درهم.
478 جاءت امرأة إلى نحاس بمرجل مثقوب ليصلحه، فطلى الثقب بقليل من الطين وسوده بشحار ودفعه لها، فلما أخذته المرأة ووضعت فيه ماء ترطب ذلك الطين وبدأ المرجل يرشح، فرجعت إلى النحاس وقالت له: ماذا صنعت فإن المرجل لم يزل كما كان سابقا. فقال : لعلك صببت فيه ماء وأنا ظننت أنك تضعين فيه حنطة أو صوفا، فإن قصدت أن تجعلي فيه ماء فخذيه إلى من هو أحذق مني ليصلحه لك.
جاء مفسر أحلام من تكريت إلى بغداد: فسئل لماذا تركت بلدك وأتيت إلى ها هنا؟ فأجاب إن البق في تكريت لا يدع أهلها ينامون؛ ولهذا لا يرون أحلاما ولا يحتاجون إلى مفسر «ليست هذه النكتة في الأصل السرياني».
480 أضاء حانوتي سراجا في النهار ووضعه قدامه، فسألوه عن هذا فقال: إني أرى كل الذين حولي يبيعون ويشترون وأنا لا يقربني أحد، فظننت أنهم لا يرونني فأوقدت السراج ليروني.
482 كان آخر يبيع فجلا فجعل ينادي: خذوا كلوا من هذا السكر! أحلى من العسل! فتقدم إليه رجل وقال: عندنا مريض اشتهى الفجل الحامض هل عندك منه؟ قال له: دونك هذا الفجل الذي قدامي فهو مطلوبك ولا تصدق قولي؛ لأن كل ما عندي أشد حموضة من الخل والليمون. (13) أحاديث لبعض الظرفاء
490 كان رجل يقول إن الخير والشر من الله وليس للإنسان فيهما إمكان. فقال له بعضهم: وأنا أزيف معتقدك بفصل صغير، فإني أرفع يدي على عنقك بهذا السيف وأسألك: هل يمكني أن أضرب عنقك؟ فإن قلت «نعم» خرجت عن رأيك وأثبت العمل للإنسان، وإن قلت «لا» قطعت رأسك وبينت لك إني قادر.
492 قال آخر: أنا وأخي توأمان، فهو صار تاجرا كبيرا وأنا صعلوك فقير، فكيف إذن يصح رأي المنجمين فهذا دليل على كذبهم.
510 قيل لآخر وكان يأكل سمكا وحليبا ألا تخاف أن تجمع في معدتك بين السمك والحليب؟ فأجاب: وكيف يحس السمك بالحليب وهو قد مات.
513 دخل آخر على قوم سكارى فضربوه فقيل له: لم لم تشتمهم؟ أجاب: إنهم سكارى ولا يفهمون؛ فيضيع شتمي لهم عبثا.
518 سمع بعضهم رجلا يقول لرفيقه إن سرت في الليل وأردت أن الكلاب لا تؤذيك، فاقرأ في وجههم المزمور الذي في الآية: «خلص يا رب من فم الكلب واحدتي» فقال السامع : بل دعه يأخذ في يده أيضا عصا؛ لأنه ليس الكلاب كلها تفهم المزامير إلا القارئين منها فقط.
522 وقعت تهمة على رجل فحكم عليه القاضي بأن يضرب خمسين سوطا. ثم عرف بعد ذلك أنه مظلوم، فقال له: قد أخطأنا في جلدك وأنت بريء. فقال للقاضي: اكتب في سجلك ما وقع علي ظلما حتى إذا عملت زلة تحسب لي هذه الجلدات ولا تعود تضربني ثانية.
524 كان آخر يبغض الباذنجان ويأنف من أكله، فدعاه يوما أحد الرؤساء إلى الغداء، فوجد كل طعامه مصنوعا بالباذنجان. فقال للخادم: هات لي كوز ماء لأشرب لعلي لا أجد فيه باذنجانا.
527 دعي آخر إلى الطعام عند رجل من الرؤساء بخيل فتدفق على ثوبه شيء من الطعام، فقال الرئيس للخدام: اغسلوا له ثوبه. فقال الرجل: كلا يا سيدي إن ثوبي لا يحتاج إلى غسيل لأن طعامك لا يوسخ (أراد أنه لا دسم فيه).
529 قيل لآخر: إن القمح اليوم غال في السوق، فقال: أنا لا أبالي لهذا لأني أشتري خبزا مخبوزا.
530 رأى رجل صديقا له مبتلى بوجع العينين، فسأله بماذا تطبب عينيك؟ أجاب: بمزامير داود وصلوات أمي الراهبة. فقال له: ولا بأس لو أضفت إلى ذلك قليلا من الكحل. (14) أحاديث قوم جهال
533 سمع رجل عن إنسان أنه مات، فلما رأى أخاه سأله قائلا: أنت الذي مت أم أخوك؟
534 مات ابن لآخر فحزن عليه جدا وأراد أن يقتل نفسه، ثم استشار واحدا من أصحابه قائلا: لعلي إن قتلت نفسي يلحقني ضرر من الوالي.
4
538 افتقد آخر ابن جاره المريض فقال لأبيه: إن مات هذا فلا تصنع كما صنعت مع ابنك الأكبر، فلم تعلمني لأمشي في جنازته.
540 كان آخر غنيا أبلد، فإذا سأله فقير حسنة يقول: إذا كان الله لم يعطه، فأنا كيف أعطيه؟
547 ولد لبعضهم ولد فدعا المنجم ليبصر طالعه وقال له: أريد منك أن تبدي نجمه في عطارد؛ لأني سمعت أن المولود بهذا النجم يصير كاتبا.
549 تأمل آخر القمر في الرابعة عشرة من الشهر فقال: شهر مبارك. فقيل له: كيف لم تر الشهر حتى اليوم. فقال: إني لم أكن في المدينة فكيف أراه .
551 اجتاز آخر بصيادي سمك فقال لهم: هذا الذي تصطادونه طري أم مالح؟
552 سأل بعضهم تلميذه في أي يوم من الأسبوع وقع خميس الأسرار في العام الماضي؟ فقال التلميذ: على ظني أنه وقع يوم الثلاثاء.
553 خرج أحد الولاة ليزور القدس وكان مسرعا ليصل قبل عيد الفصح، فقال له أحد عبيده: لماذا تقتل الخيل وتجهد الناس الذين معك. اكتب لأهل القدس أن يؤخروا العيد إلى أن تصل.
556 سئل آخر لما ماتت امرأته كم سنة كان عمرها؟ فأجاب: لا أعرف على التحقيق إلا أني أعلم أنها ولدت في الزمن الذي تكثر فيه البراغيث.
5
557 كان آخر راكبا حمارا فلم يمش تحته؛ فحلف أنه لا يطعمه شعيرا تلك الليلة، فلما صار المساء قال لأجيره: ضع له نخالة شعير ولا تعلمه أني قلت لك كي يعود يخاف مني.
558 قال بعضهم: كنت اليوم في جنازة ابن فلان فسألوه: أي من أولاده مات؟ فأجاب: كانوا اثنين فمات الأوسط.
559 قال آخر لجاره: رأيت هذه الليلة في حلمي والي مدينتنا يحادثك وينظر إلي فأخبرني: ماذا قال لك عني؟
564 أخبر بعضهم فقال: ذهب أبي ليزور القدس مرتين ومات فيها، لكن لا أدري أمات المرة الأولى أو الثانية.
572 عادت عجوز مريضا فقالت لأهله: «صدقوني إني ضعفت كثيرا ولم يعد يمكنني أن أروح وأجي في كل وقت، فإذا مات مريضكم أسأل الله أن يرحمه ويبقي حياتكم ولا تلوموني إن لم آت فأحضر دفنه.
573 طار لأحد الأمراء صقر فقال: أقفلوا أبواب المدينة حتى أقبض عليه.
577 مدح شاعر أحد الولاة فقال له: إني لا أقدر أن أمنحك شيئا من عندي، ولكن إذا أذنبت صفحت عن وزرك.
586 نظر آخر الفراريج التي في بيته، فقال: متى نمرض فنأكلك ونستريح من وجع رأسك؟
588 طلب بعضهم من أحد أصحابه سرجا يستعيره لفرسه، فقال له: صدقني إني في هذه الساعة نزلت عنه فاصبر حتى يستريح.
590 دخل رجل على بائع ثلج وأخذ قطعة منه فذاقها، وقال له: أما عندك أبرد من هذه؟ فأعطاه قطعة أخرى فلما ذاقها قال: بكم تبيع من هذا؟ فأجاب القطعة من الأول بدانق، ومن الثاني بدانق ونصف. فقال: إذن أنا آخذ من هذه يسيرا لأجلي ومن الأولى لأهل بيتي.
594 سألوا آخر: كم سنة عمرك؟ فأجاب: لست أعرف ولكني سمعت أمي تقول: ولدت قبل نضج الحصرم وأخوك أكبر منك بشهرين ونصف سنة.
595 كان لآخر دار يشترك فيها مع رجل آخر، فقال: أريد أن أبيع النصف الذي لي وأشتري النصف الآخر لتصير الدار كلها لي.
597 وقعت ابنة لآخر في الجب، فقال لها: لا تبرحي في مكانك حتى آتي بمن يصعدك.
598 سألوا آخر عن يوم مولده فأجاب: أنا ولدت يوم أحد الشعانين بعد عيد القيامة بسبتين.
599 كان آخر يصلي فيقول: ربي وإلهي اغفر لي ولأمي ولأختي ولامرأتي. فسألوه: ولم لم تذكر أباك. فأجاب: لأني كنت صغيرا لما مات فلم أعرفه.
600 قال آخر في صلاته: يا رب أعطني خمسة آلاف دينار وأنا أدفع من مالي ألفا للمساكين، وإن كنت لا تصدقني أعطني أربعة آلاف والألف الآخر أعطهم إياها أنت من يدك إلى يدهم.
605 مر بعضهم بمأذنة للمسلمين فقال لرفيقه: ما أطول ما كان الناس الذين بنوا هذه المنارة! فأجابه رفيقه: يا أبله كيف يكون إنسان بهذا الطول، ولكن بنوها على الأرض ثم أقاموها.
615 كان آخر يكسر لوزا فطارت لوزة من يده، فقال: سبحان الله إن اللوز أيضا يهرب من الموت.
613 كان أحد الرؤساء راكبا في الطريق مع قوم فقال لهم: ابعدوا عني ساعة فإن لي كلاما أريد أن أقوله مع نفسي. (15) أحاديث بعض المجانين
623 دخل بعض المجانين إلى أحد الرؤساء فقدم له خبزا لا غير، فقال: إني آتيكم في يوم عيد لعلي أجد عندكم لحما.
624 قال آخر: إني دخلت يوما إلى البيمارستان فوجدت هناك مجنونا مقيدا بسلاسل حديد، فأخرجت له لساني وحملقت عيني، فلما رآني فعلت هكذا نظر إلى السماء وقال: سبحان الله تعالوا انظروا لمن تركه الأطباء بلا قيود ولمن قيدوا بالسلاسل.
630 قيل لآخر: أعدد لنا المجانين الذين في حمص، فأجاب: هذا يصعب لكثرتهم فإن أردتم أني أعد لكم العقلاء الذين فيها وهم قليلون.
631 لبس أحدهم فروة وقلب ريشها إلى خارج، فسئل عن ذلك فأجاب: لو كان ريش الفروة إلى داخل أصلح لما خلقه الله إلى خارج في الغنم.
634 قال رجل لمعتوه: خذ لك دينار فضة وامض احصد عوضي في زرع الملك. فقال له: أنا لا يمكنني أن أعمل عملين وحدي بل أنا آخذ الدينار، وأنت امض واحصد ليكون العمل سهلا علي وعليك.
647 كان آخر يأكل تمرا بنواه فسئل عن ذلك، فأجاب: هكذا وزنه علي بائعه.
648 كان مجنون إذا حضر دفن ميت يتصدقون عليه بدرهم، فمات أحد الأغنياء فأعطاه أهله درهمين، فأخذهما وقال لأهل الميت: لا تنسوا أن لكم علي حقا سأحسبه لكم إذا مات منكم واحد آخر.
628 وقف آخر عند عامود طويل أملس، وقال: من يعطيني درهما واحدا لأصعد إلى رأسه، فلما أعطوه الدرهم أخذه وقال: هاتوا سلما. قالوا له: لم نشارطك على سلم. قال لهم: ولا شارطتوني بغير سلم سوى أن أصعد فقط.
644 اجتاز آخر في سوق البزازين فنظر جمعا كبيرا من الناس أمام حانوت قد نقب في الليل، فتقدم هو وتأمل الثقب وهز رأسه، وقال: إنكم كلكم لا تعرفون من فعل هذا أما أنا فأعرفه، لكني لا أقول لكم حتى تشبعوني بثلث أقق خبز ورأسين مسلوقين، فإذا شبعت أخبرتكم. فقال القوم بعضهم لبعض: لا عجب أن كان هو يعرفه؛ لأنه طول الليل يدور في الأسواق ولا يختفي عنه اللصوص إذا رأوه وهم يعرفونه أنه مجنون، فلما أتوا إليه بما طلب وأكل وشبع قام قدام الثقب، وقال: كلكم صبيان ولا تعرفون من عمل هذا إن هذا عمل اللصوص. قال هذا ومضى راكضا. (16) أحاديث اللصوص
654 سرقت لبعضهم أمتعة فقالوا له اتكل على الله وعلى الإنجيل المجيد، فهو يكشف لك اللص، فأجاب: لو سمع اللصوص الإنجيل لما نهبوني فقط بل قتلوني وأهلكوني؛ لأنه جاء في الإنجيل أن السارق ليس يأتي إلا ليسرق ويقتل ويهلك.
656 كان آخر يسرق الأولاد ويبيعهم، ولما سئل عن ذلك أجاب: إني أسرق أولاد الناس لأنهم سيقومون جميعهم يوم القيامة، وإذا طالبني بهم والدوهم أقول لهم: ها هو ذا أولادكم خذوهم، ولكن إن سرقت ذهبا أو متاعا من أين لي أن أرده لهم إذا طالبوني به يوم القيامة.
658 دخل اللصوص بيتا في الليل وابتدءوا يفتشون على شيء يأخذنه فلم يجدوا، فقال لهم صاحب البيت: يا شباب لا تتعبوا إن الذي تطلبونه في الليل أنا أطلبه في النهار فلا أجده.
664 سرق آخر حمارا وأخذه للسوق ليبيعه، فسرق منه فلما سألوه بكم بعت الحمار أجابهم: برأس ماله. (تمت الأحاديث المطربة لابن العبري.)
رسالة قديمة منسوبة إلى أفلاطون
توطئة
وصفنا غير مرة في المشرق (16 [1913]: 173-178) مجموعة فلسفية قديمة نقلنا عنها خمس مقالات نفيسة، نشرناها في المجلة في أوقاتها. والمجموعة هذه كانت أولا في ملك جناب القانوني الشهير جرجس بك صفا، وهي اليوم في مكتبة السيد الجليل أحمد باشا تيمور. فالعدد الرابع من محتويات المجموعة المذكورة هذا عنوانه «رسالة أفلاطون الحكيم في حقيقة نفي الغم والهم وإثبات الزهد جوابا عن سؤال كان سبق منه إليه» يتناول من الكتاب 12 صفحة من الصفحة 112 إلى 123.
ومن تصفح هذه الرسالة وجدها أهلا بقدماء الفلاسفة من حيث صورتها ومعانيها ومسحتها اليونانية، أما نسبتها إلى أفلاطون فغريبة؛ إذ ليس بين أعمال هذا الفيلسوف الشهير التي نعرفها باليونانية ما يدل على مثل هذه الرسالة، اللهم إلا رسالته المعنونة بشفاء أدواء النفس
de curandis animæ morbis
التي لها بعض الشبه بالرسالة التي نحن بصددها، وأغرب من ذلك توجيه أفلاطون رسالته إلى فرفيريوس وبينهما ستة قرون؛ إذ عاش أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد وفرفيريوس في الثالث بعده. والغالب على رأينا أن الرسالة لأحد المنتمين إلى أفلاطون المتمذهبين بمذهبه العلمي وكان عددهم كثيرا. وعلى كل حال إن الرسالة هذه من الآثار الحرية بالذكر، وقد أسعدنا الحظ بوجود نسخة ثانية منها أحدث عهدا دخلت منذ زمن قريب في مكتبتنا الشرقية، فأمكنا بالمقابلة بين النسختين أن نصلح عدة أغلاط أو تصحيفات وقعت فيهما، فدللنا على القديمة بحرف ق وعلى الحديثة بحرف ح. أما معرب هذه الرسالة فلم يذكر ولعله حنين بن إسحاق المذكور في مقالة أخرى من هذا المجموع. (1) رسالة أفلاطون الحكيم إلى فرفيريوس في حقيقة نفي الغم والهم وإثبات الزهد جوابا عن سؤال كان سبق منه إليه
باسم الله الملك الحق والإله الصادق (الصفحة 112) المسمى بلغات الافتراق (كذا) المقصود بالاتفاق، القديم الذي لم يزل منشئ مبادئ الحركات الأولى، خالق الأضداد من الإصلاح والإفساد، أظهر بذلك قوته، وأبان قدرته، تجاوز حد العقول والأفهام والخواطر والأوهام، غير منعوت الذات، ولا مدرك الصفات، سبحانه عنصر العناصر، وقوي القوات ومحرك الحركات، تقدس اسمه وعلا قدره، نور الأنوار وزمان الأزمان، والدهر الداهر سبحانه وتقدس سبحانا يتصل بدوامه الذي لا تغير له، ولا فصوم
1
لمدته أبدا أبدا قدوسا قدوسا إياه أسأل وإليه أضرع أن يجعلني وإياك ممن خصهم بصفاء العقل وتسديد الفعل
2 [بما هو منه وله وإنه ولي الخير وذاته]
3
وهو
4
على كل شيء قدير.
ورد كتابك أيدك الله بكرامة
5
التوفيق تسأل إن أبين لك ما الغم والهم العارضان لكثير من العالم وقل الناجي والمتخلص منهما، وكيف استحواذهما عليهم مع ما فضلهم به الرب (113) جل اسمه من العقل والتمييز إذ كان تعالى لم يخلق في مصنوعاته خلوا في مصلحته؛ بل كل ما خلقه من خلقه مكفي غني، فلا يرى شيء من الحيوانات محتاجا إلى غيره. ثم فضل الإنسان بالنطق والبيان ومعرفة الدلائل والبرهان، ثم إنه يعرض له مع ما هو عليه من شريف الخلق وسني العقل الهم والغم، فهل ذلك بحقيقة
6
موجودة في الحقيقة أم عرض داخل وفكر فاسد بفساد ذاته ونقص آلاته الشفافة بالعقل
7
المؤدية للفهم؟
فرأيت أن أجيبك أكرمك الله بما أعلمه وبما قسم لي من تدبره
8
إذ كان ما نبادي إليه وإن تناهينا فغير واجدين نهاية من العلم حتى نبلغ إلى نهايته؛ فتبارك نهاية النهايات وغاية الغايات وفقك الله للخير، وجعلك له أهلا أن تعلم أن كل ألم غير منعوت الأسباب غير موجود الشفاء، فيجب أن نبين لك ما الغم والهم، وما سببهما ليكون شفاؤهما ظاهر الوجود إن شاء الله.
فالهم تقسيم الأفكار وحيرة النفس وخمولها، وهو سريع الزوال والانتقال، وأما الغم فخطر كبير وأمر عظيم [يذيب القوة ويقهر الحرارة ويهدم الجسم ويكدر الأوقات] ويقصر مادة العمر، وهو ألم نفساني يعرض لفقد محبوب أو فوت مطلوب (114). ولو فكر أهل هذا العالم الدني التالف بما هم وفيما هم؛ لعلموا أنهم أعراض زائلة وأشباه حائلة تتصرف بهم الأيام وتقلبهم الأحكام، فالواجب أن يبدءوا بالغم على نفوسهم، فهي أولى من الغم على محبوباتهم ومطلوباتهم إذ هم يعلمون أنهم سيعدمون ما عدموه ويفقدون ما فقدوه، وتقدمت معرفتهم بذلك وتيقنوا أن نفوسهم وأغراضهم غير باقية؛ لأن كل ما في عالم الكون والفساد مضمحل زائل، فكان معنى مرادهم أن طلبوا الثبات والدوام من الفانية المضمحلة الفاسدة، وإنما الدوام والثبات موجودان في عالم العقل، فكأن من طلب من الزمان ما ليس فيه أراد منه ما ليس في طبعه، ومن أراد من الطبع ما ليس في الطبع أراد ما ليس بموجود، ومن أراد غير الموجود عدم طلبته، والعادم طلبته معنى شقي، فينبغي للعاقل أن يطلب ما يسعده دون ما يشقيه، ويحترس
9
من سلوك طريق الشقاء والجهل.
وأقول إن من لم يعرف الزمان ويختبر أصول الأحوال متى زالت عنه عادة وجوه الدنيا، فارق معها الشهوات الحسية من لذيذ الطعام، وطيب الشراب، وملح الملبوس والمنكوح وما شاكل ذلك، وقد تقررت معرفته أنها (115) أعراض لا تملك إلا من جهتين: إما اكتساب مغالبة أو اكتساب بضرب من الحيل التي تسميها الناس تجارة أو صناعة، وتيقن أنه لا بد أن تضمحل محبوباته، ومن لم يدرك ذلك فكأنه أراد ما قدمنا ذكره من الفاسد أن لا يكون فاسدا، ومن الزائل أن لا يكون زائلا، فإذا أردنا أن لا نصاب بمصيبة فكأنا أردنا أن لا نكون
10
البتة؛ لأن المصائب لا تكون إلا بفساد الفاسد، فإن لم يكن فاسد لم يكن كائن،
11
ولو قصد بمحبوباته الثبات والبقاء لقصد طبع البقاء للظاعنة
12
والزم نفسه
13
في العاجلة القناعة، ولم يستقبل ما يأتيه بحرص ولا يتعب نفسه بما زال عنه وفاته بندم وأسف؛ بل يؤدب نفسه تأديب الملوك الأجلاء الآخذين نفوسهم بحقيقة
14
الأدب فهم لا يستقبلون آتيا ولا يودعون ظاعنا. فأما حشو الناس وهمجهم فمشيعو كل غائب ومستقبلو
15
كل آنب، فإذا أدب الإنسان نفسه بأدب الحق، وألزمها دلائل الصدق استعجل
16
نفي الغم وزوال الهم، كما قد بينا قبلا واستمتع بالمدة اليسيرة من عمره.
ثم رأينا العادات في الناس تجري مع الطبع بمجاراته
17
وتنقله ويستحوذ
18
عليها فيألفها الطبع ويلزمها بالهم،
19
وينصرف إليها (116) ولو ألزم نفسه لذيذ الطعام فأكل من دونه لأشبعه وأجزاه، إذ كانا يتساويان بعد ساعة ويبينان القصد اطرادا من الشبع، وإنما تحصل له لذة ساعة حتى لو دام له ما قد استطابه لرفضه إذا شبع منه ولقلأه.
وكذلك الملبوسات يحرص الإنسان على ما قد ألزمه نفسه وألفته عادته من جليلها ومستحسنها ولو لبس دون ذلك أقنعة، وكل يتساوى في ستر العورة وشرعة البقاء، ولو تدثر بالحكمة وتزين بزينة العلم الذي هو أفضل مذخور وملبوس ومزين لم يغتم لفقد الملبوس، وكان كما حكي عن ديوجانس الحكيم لما عبر به إنطياخوس
20
الملك فلم يقم له، فركله الحاجب برجله، فقال له الحكيم: أخلق إنسان أو خلق بهيمة. ما حملك على ما صنعت بي؟ قال: إذ لم تقم للملك إجلالا. فأجابه الحكيم: ما لأقوم لعبد عبدتي. فأدركهما
21
الملك وسمع المقالة ثم قال له: من أين لك أنني عبد عبدتك؟ قال الحكيم: لأنك عبد الدنيا وخادمها ومن ترك شيئا فقد اقتدر عليه، فلما تركتها أنا اختيارا وخدمتها أنت اضطرارا وجب أن تكون لها عبدا، فعلم الملك مراده وأنه حكيم. ثم عطف عليه بالقول فقال: هل لك في صحبتي فإني مفوض إليك خزائن الذهب والفضة. فقال له الحكيم: لو يكون (117) لهما قدر
22
لما اشتري بهما خسيس الأشياء. فقال له الملك: فأطعمك الطيبات. قال له: ما فضل شبع الملوك على غيرهم؟ قال له الملك: فأزينك بأفخر الثياب.
23
فأجابه الحكيم: إن الوصية سبقت لنا من الحكماء أن نزين أجسادنا بزينة العلم والتقى؛ فبكى الملك وانصرف آئسا منه.
ثم رأينا في عادات كثيرة من الناس شدة حرصهم على المكسب، وجمع ما يجمعونه حتى إذا تكامل معهم ما فيه وضوء عمدوا إليه فأتلفوه بالعياث
24
ورأوه غما، ولو منعوا من ذلك لرأوه غما ومصيبة. وهذا المخنث
25
بالشهوة الفاضحة [من نتف لحيته وحلقها]
26
وحرصه على الأخلاق الدنيئة
27
لو منع منها وأكره على الدخول في زي أكابر الناس وأخلاقهم لاغتم لذلك ورآه مصيبة، وترى الشاطر مع هو عليه من قبح السياسة وكثرة الخطر بالحركات وقطع الأعضاء وأليم العقوبات، وربما آل أمره إلى القتل والصلب والشهرة والتنكيل، فلو أكرهه مكروه على لزوم السلامة لرآه نقصا وغما. فنقول الآن: هل
28
غمه واجب في العقل؟ أو ليس ذلك عرضا فاسدا
29
مازج حسا فاسدا، وإن العادات المقدم ذكرها جرت ممن ألفها مجرى الطبع وألزم نفسه طلبها.
فإذا قد بينا (118) أن العادة تجري مجرى الطبع فتصلحه وتفسده وتغمه وتسره، فيلزم النفوس طبع القناعة والخير وإزالة الغم فيما يدخله
30
عليها بسوء الطبع والاختيار؛ لأن المحبوب والمكروه في الحسين ليسا بشيء لازم في الطبع بل بالعادات، فسبيلنا أن نعود نفوسنا السلوة والرياضة، وإن تعبت فلنصبر على التعب
31
والمنازعة منها لما نرجوه
32
لها من الراحة في العاجلة والآجلة، ألا ترى أن كثيرا ممن تعارضهم العلل، فيؤول أمرهم إلى قطع أرب وكي عضو يتكلفون
33
مضضه، وربما استعملوا البط والضماد ومضض الأدوية مع ما يتعجل من النفقة والغرامات والصبر على ما ذكرناه لما يرجى من عقبى الراحة، فكيف لا نصبر على مضض النفس في المنازعة إلى الباطل، وإكراهها على المعاودة إلى طرق الحق والسلامة، إذ علاج النفس أقل خطرا وأخف مؤونة وأعظم قدرا، وإذ هي ملكة البدن وبفساد الملك يفسد أمر الرعية، والشهوات
34
ملكة على النفس مسلطة عليها، والعقل ملك على الكل ومادة من الأصل. فمن كان له عقل أثر مصلحة نفسه على فسادها، وبرءها على سقامها وليعالجها بأدوية الحق ومرارة الصبر، وأخذ اليقين والكلفة حتى تسلم له وتصبو إلى الشهوات الباقية، وسكنى دار البقاء من بعد استعجاله إسقاط الغم والهم، إذ كنا (119) قد بينا أنهما كما روي عن هرمس الحكيم أنه قال: أولى الناس بالرحمة من وقع في سوء الملكة. قيل له: ومن ذلك؟ قال: من كثرت شهواته فأديمت حسراته، فهو مبغوت بتصاريف كلفها فإن نفاها عقله وقهرها فهمه فهو عتيق العقل والعقل مادة من الأصل، ومن أعتقه الله ورحمه من شقاء الدنيا كان أولى برحمته وعتقه من شقاء الأخرى.
35
فمن
36
أراد طريق الحق وهو الواضح لمن سلكه، فليفك نفسه من وثاق الغم حتى يخلص لطلب ما هو أحوج إليه، وليقل قنيته من أثقال ما في هذا العالم الدنيء التالف. فقد روي عن سقراط أنه كان يأوي إلى كسر جب قد طوي ووطي فيه بتراب، وقال لمن حضره: من أراد قلة الغم فليقل القنية. فقال بعضهم: يا معلم وإن انكسر بقية الجب. قال: إن انكسر لم ينكسر المكان ولم أعدم التراب.
وقد حكي عن الزر (كذا) ملك رومية أنه أهدي إليه قبة ثمينة عجيبة خطيرة، ففرح بها وزادت بهجته [ومن حضره بحسنها]،
37
وكان في جملة الحاضرين حكيم فقال له الملك: ما تقول أنت في هذه القبة
38
إذ أنت ممسك عن الكلام؟ فقال له الحكيم: أقول إنها أظهرت منك فاقة وفقرا، ودلت منك على عظيم مصيبة متى لحقها (120) خطر عارض. فحكي أن الملك أراد التنزه في بعض الجزائر
39
من بعد حين من مجلسه
40
هذا فأمر بحمل القبة لتنصب له في منتزهه، فكسرت بها
41
المركب وغرقت فدخل على الملك عظيم المصيبة، ولم يقيض
42
منها بسلوة إلى أن مات فكان من أمره ما رآه الحكيم بعين الحكمة.
وينبغي أن تعلم أن كل مصيبة ومحزنة من تالف أو نائبة مما قدمنا ذكره إذا تأملناها، وجدناها نقضت همومنا واشتغال قلوبنا، وإذا تيقنا ذلك زال الهم عن طبع المصائب [إلى طبع النعم ومن ها هنا يتيقن أصحاب العقل إن المصائب نعم]
43
يجب عليها الشكر فالحمد لوليها.
فتأمل أيها الأخ هذه القضايا تأملا ثابتا في نفسك، فتنجو بها من آفات الحزن وتبلغ بها درجات أهل الزهادة
44
غير مملك أعراض الشهوات على نفسك ولا سالك بها مسالك الغم لا سيما على ما ليس بواجب في العقل؛ لأنا قد بينا ما فيه مقنع لمن تدبره إن شاء الله. مع أن الذي نحزن عليه لا يخلو من أن يكون فعلنا أو فعل غيرنا، فإن كان فعلنا فينبغي أن لا نفعل ما يحزننا، فإنا إن فعلنا ما يحزننا ولا نمسك عن فعله أتينا نحن ما لا نريد
45
وهذا هو الحال، وإن كان المحزن لنا فعل غيرنا، فلا نحزن على ما ليس لنا وما عارية معنا (؟) ولصاحبه استرجاعه (121) إن شاء.
46
فمن رزق التدبير لما قد بيناه فلتقل منافسته في الأعراض
47
الفانية، وليتأمل حقائق دلائل الآخرة ولينافس في طلب اللذات التي لا يمازجها الكدر، ولا يعارضها الفساد إن كانت المصائب تغمه.
48
وكثيرا ما يقدر الناس مصيبة الموت ويكرهونه، وأنا أقول إنما يكره المقتضي من لم يعد وفاء الدين، فأما من أعده فهو أشهى
49
إلى مقتضيه من مقتضيه، ولو تدبر الناس أمر الموت لعلموا أنه محمود غير مذموم؛ لأن الموت تمام طبيعتنا ولو لم يكن موت لم يكن إنسان؛ لأن حد الإنسان وصفته هو الحي الناطق الميت، فإن لم يكن بميت فليس إنسان، ومع ذلك فهو البريد إلى دار الآخرة وإن كانوا يكرهون ذلك ومناله في الحقيقة، ولو عقل الإنسان وهو نطفة ممازج للقوة ثم خير نقله من نفس الطبائع الممازجة له لم يكن يختار غير ما هو عليه. ثم إذا سبقت المشية من بارئه والإرادة من خالقه، فنقله إلى أن صار في الأنثيين فلو خير الانتقال لم يختر ذلك. ثم ينتقل إلى الرحم وهو أوسع مجالا من الأنثيين لو خير لاختار الثبات، ثم ينقل كرها بعد كره إلى الأحشاء والمشيمة لتمام الكمال والكون، فلو خير نقله إلى فسحة العالم لكره ذلك (122) ولاختار مقامه، ثم أنه لو سيم الرجوع إلى ما كان يضيق عليه من الرحم من قبل اختياره ما سواه لما كان يؤثر العودة. ثم إذا قصدت الإرادة إزعاجه من جوف أمه ، وخروجه إلى نسيم هذا العالم إنما ذلك على الكره منه، ثم لو قيل له من بعد مشاهدة فسحة العالم «ترجع إلى جوف أمك وما كنت عليه شحيحا لرد
50
ذلك وأباه، فكذلك أقول من نقل إلى عالم البقاء وفسحته، وإن كرهه لكلفة النقلة وقلة المعرفة بما هو إليه صائر من الاغتباط
51
بدوام البقاء الروحاني لو خير من بعد مشاهدته عالم البقاء الرجوع إلى الدنيا، فتكون له بجميعها كان كمن قيل له ترجع إلى جوف أمك من بعد مشاهدته هذا العالم، وليس الموت مكروها لمن قدم وعقل وتبين، إذ نحن في عالم محدود وفلك محصور ودار زوال وسكنى انتقال.
وقد بينا الآن ما هو الهم والغم على جميع ما في هذا العالم غير ثابتين في الحقيقة، وبينا ما يألفه الطبع إلى أن يصير سلما للهم وسببا للغم، وإن كل ما كثر من الناس طالبيه، فغير طالبي حقيقة بل باطل ومحالة، وبينا أن الموت غير مكروه، ورأس السياسة العقلية هو ترك اتباع الشهوات والهوى وقمع النفس عن باطل الأماني، وكاذب المواعيد، ولا بد من قطع المدة وبلوغ الغاية فمن سامح هواه ونفسه ندم، ومن تدبر بتدبير العقل (123) رشد، ومن سمع الوعظ والحكمة ثم لم يعمل بهما كانا شاهدين عليه، وهو محجوج بهما والسلام. (تمت الرسالة والحمد لله جل الحمد.)
وجاء في آخر الرسالة السابقة قول لفيثاغورس نلحقه بها كما في الأصل:
قال فيثاغورس: إذا ألقيت شهوة الاستغناء فقد استغنيت، وما أكثر من ظن أن الفقير هو الذي لا يملك شيئا، وأن الغني الذي يملك الشيء الكثير، وهذا فقر وغنى بالعرض، فأما الفقير الطبيعي فهو الذي شهواته كثيرة، وأما الغني الطبيعي فهو الذي لا يحتاج إلى أحد؛ أعني الذي قد ملك شهوته وضبط نفسه؛ لأنك إذا ملكت شهوتك فذاك هو الغنى الأكبر؛ لأن من ملك شهوته فقد استغنى عن العالم بأسره (تم والحمد لله).
صفحة غير معروفة