يعطينا النص التوراتي في سفر الملوك الثاني قصته الخاصة عن اغتصاب حزائيل للسلطة في دمشق. وبما أننا قد أثبتنا فيما سبق أن محرري التوراة لم يكن لديهم معلومات عن عصر هدد عدر ونظيره في إسرائيل الملك آخاب، فإن قصتهم عن صعود حزائيل قد استمدوها من الأخبار التي تواترت إليهم من عصر حزائيل لا من عصر هدد عدر. فلقد عرفوا بالتأكيد أن حزائيل لم يكن من الأسرة المالكة الدمشقية وأنه كان مغتصبا للعرش، فقاموا بصياغة قصة عن ذلك الحدث تغلب فيها العناصر اللاهوتية على العناصر التاريخية. فلسبب غير معلوم يتوجه النبي أليشع إلى دمشق، ويعرف ملك دمشق المدعو هنا بنهدد بوجود النبي، وكان مصابا بداء عضال، فيرسل تابعه حزائيل ليسأل النبي في أمر مرضه وهل يشفى منه أم لا: «فذهب حزائيل لاستقبال أليشع وأخذ هدية بيده، ومن كل خيرات دمشق حمل أربعين جملا، وجاء ووقف أمامه وقال: ابنك بنهدد ملك آرام قد أرسلني إليك قائلا: هل أشفى من مرضي هذا؟ فقال له أليشع: اذهب وقل له شفاء تشفى، وقد أراني الرب أنه موتا يموت. فجعل نظره عليه وثبته حتى خجل، فبكى رجل الله. فقال حزائيل: لماذا يبكي سيدي؟ فقال: لأني علمت ما ستفعله ببني إسرائيل من الشر؛ فإنك تطلق النار في حصونهم، وتقتل شبانهم بالسيف، وتحطم أطفالهم، وتشق حواملهم. فقال حزائيل: ومن هو عبدك الكلب حتى يفعل هذا الأمر العظيم؟ فقال أليشع: قد أراني الرب إياك ملكا على آرام. فانطلق من عند أليشع ودخل على سيده، فقال له: ماذا قال لك أليشع؟ فقال: قال لي إنك تحيا. وفي الغد أخذ اللبدة وغمسها بالماء ونشرها على وجهه ومات. وملك حزائيل عوضا عنه ...» (الملوك الثاني، 8: 7-15.)
يؤيد هذه القصة التوراتية بعض الباحثين، الذين بقوا على إصرارهم بوجود ملك اسمه بنهدد معاصر لآخاب رغم كل الدلائل المعاكسة لذلك (Jespen, 1941) ، فهؤلاء يرون أن الفترة الفاصلة بين آخر ذكر لهدد عدر في النصوص الآشورية عام 845ق.م. وأول ذكر لحزائيل عام 841ق.م.، ومقدارها ثلاث سنوات، تكفي لأن يعتلي عرش دمشق خلالها ملك اسمه بنهدد، هو بنهدد عدر، وأن بنهدد عدر هذا هو الذي قتل على يد حزائيل وفق الرواية التوراتية.
10
ولكن المشكلة في هذا التفسير أن الفترة التي تغطيها حروب بنهدد هذا، وفق الرواية التوراتية، تقارب ست السنوات، أي ضعف الفترة المفترضة هنا لحكم بنهدد بن هدد عدر. فبعد الحملة الأولى التي لا بد أن الإعداد لها والقيام بها قد تطلب عاما كاملا، فإن الحملة الثانية التي شنها ملك دمشق على إسرائيل قد جرت بعد سنة كاملة من الحملة الأولى (الملوك الأول، 20: 26)، وبعد أن عاد ملك دمشق من حملته الثانية هذه أقام الطرفان بدون حرب مدة ثلاث سنوات (الملوك الأول، 22: 1)، ثم وقعت الحرب الثالثة بينهما في السنة الرابعة لفترة السلم . وهذا ما يجعل فترة الحرب بين دمشق وإسرائيل ست سنوات.
والسؤال الأخير الذي لا بد من طرحه قبل إغلاق هذه المسألة هو: ألا يمكن أن يكون حزائيل قد قتل هدد عدر واغتصب السلطة المباشرة منه؟ إن النص الآشوري بأسلوبه المختزل، وقفزه فوق الأحداث المتباعدة، لا يسمح لنا بالاستنتاج بوجود علاقة سببية بين موت هدد عدر وانتقال السلطة إلى حزائيل، فالكاتب ينتقل من معركة قرقرة إلى موت هدد عدر قافزا فوق المعارك الوسيطة بين الحادثتين، ثم ينتقل من موت هدد عدر إلى اغتصاب حزائيل للملك قافزا، ولا شك، فوق عدد من الأحداث التي لا يهمه أمرها بين هاتين الحادثتين أيضا. فهو يقول: «لقد هزمت هدد عدر ... إلخ. هدد عدر قد مات. حزائيل ابن لا أحد استولى على العرش ...»
11 (2) عصر حزائيل
انحل حلف قرقرة بعد موت هدد عدر، ولكن ملك دمشق الجديد كان قادرا على ما يبدو على جمع كلمة الممالك السورية في مواجهة آشور كلما رأى ضرورة لذلك، وهذا ما يدلنا عليه النص الآشوري الذي أوردناه سابقا عن اعتلاء حزائيل عرش دمشق، وجمعه الجيوش الكثيرة في وجه شلمنصر الثالث. ولكن إلى جانب سياسته في الدعوة إلى الأحلاف المؤقتة، فقد عمل حزائيل على التأكد من عدم انحياز أية مملكة في غربي الفرات إلى الجانب الآشوري أو وقوفها على الحياد في الصراع القائم مع آشور؛ لأن ذلك من شأنه إضعاف موقف دمشق، التي تحمل على عاتقها الجزء الأكبر من مسئولية التصدي للمد العسكري الآشوري. من هنا فقد عمد حزائيل إلى رسم سياسة جديدة تسمح له بالتدخل ضد أية دولة تميل إلى مهادنة آشور ودفع الجزية لها في مناطق غربي الفرات. وقد سار ابنه بنهدد من بعده على السياسة نفسها كما سوف نرى لاحقا. وقد كانت مملكة إسرائيل أول دولة تطالها عقوبة حزائيل. فلقد عزف خلفاء آخاب - أخزيا ويهورام - عن المشاركة في حروب دمشق، ثم مال يهورام إلى استرضاء آشور بدفع الجزية لها. ورغم أننا لا نعرف من النصوص الآشورية أو من التوراة عن قيام يهورام بدفع الجزية إلى آشور، إلا أن سياسة الخضوع التام لآشور في عهد خليفته ياهو تظهر لنا أن جذور هذه السياسة كانت متأصلة في عهد يهورام.
أخذ حزائيل يضغط بشكل تدريجي على يهورام ملك إسرائيل (وهو الابن الثاني لآخاب بعد أخزيا الذي ملك قبله) في مناطق التواجد الإسرائيلي في شمال شرقي الأردن، فأرسل يهورام قواته الرئيسية إلى هناك وأقام في راموت جلعاد لحراسة تخومه في تلك المناطق، ولكنه أصيب بجرح بليغ في إحدى المعارك، فترك قائده المدعو ياهو هناك وانسحب إلى مدينة يزرعيل الداخلية ليبرأ من جراحه. ومصدرنا هنا هو رواية سفر الملوك الثاني: «وكان يورام (يهورام) يحافظ على راموت جلعاد هو وكل إسرائيل من حزائيل ملك آرام. ورجع يهورام الملك لكي يبرأ في يزرعيل من الجروح التي ضربه بها الآراميون حين قاتل حزائيل ملك آرام.» وفي هذا الوقت دعا النبي أليشع، الخصم القديم لأسرة آخاب في إسرائيل، واحدا من الأنبياء وقال له: «خذ قنينة الدهن هذه بيدك واذهب إلى راموت جلعاد. وإذا وصلت إلى هناك فانظر ياهو بن يهوشافاط بن نمشي، وادخل وأقمه من وسط إخوته، وادخل به من مخدع داخل مخدع، ثم خذ قنينة الدهن وصب على رأسه وقل: هكذا قال الرب: إني مسحتك ملكا على إسرائيل. فانطلق الغلام النبي إلى راموت جلعاد ... ودخل البيت فصب الدهن على رأسه وقال: هكذا قال الرب إله إسرائيل: قد مسحتك ملكا على شعب الرب إسرائيل، فتضرب بيت آخاب سيدك، وأنتقم لدماء عبيدي الأنبياء ودماء جميع عبيد الرب من يد إيزابيل، فيبيد كل بيت آخاب» (الملوك الثاني، 9: 1-8). فانطلق ياهو في رهط من جماعته المقربين وعبر الأردن حتى وصل إلى مدينة يزرعيل. وكان الرقيب واقفا على البرج فرأى جماعة ياهو عند إقباله، فنادى ملك إسرائيل قائلا: إني أرى جماعة قادمة، فقال الملك: أرسل فارسا للقائهم لنعرف أأتوا للسلام أم للحرب، فذهب الفارس، وعندما وصل منعه ياهو من العودة وألحقه بجماعته، فأرسل البرج فارسا ثانيا ولكنه لم يعد أيضا. فقال المراقب لملك إسرائيل : قد وصل الفارس إليهم أيضا ولم يعد، وإني أرى سوق الخيل كسوق ياهو بن نمشي لأنه يسوق بجنون. فخرج يهورام بمركبته للقاء ياهو وهو يتوجس شرا. فلما رأى يهورام ياهو قال: أسلام يا ياهو؟ فقال: أي سلام ما دام زنا أمك إيزابيل وسحرها الكثير! فرد يهورام فرسه وهرب، فقبض ياهو على القوس وضرب يهورام بين ذراعيه، فخرج السهم من قلبه فسقط في مركبته. أما ياهو فقد دخل إلى يزرعيل وقتل إيزابيل زوجة آخاب وطرحها للكلاب، ثم كتب إلى شيوخ السامرة أن يرسلوا إليه برءوس أولاد آخاب السبعين الأحياء، فقطعت رءوس أولاد آخاب وأرسلت إليه في سلال إلى يزرعيل. وقتل ياهو كل الذين بقوا لبيت آخاب وكل عظمائه ومعارفه وكهنته حتى لم يبق له شارد (الملوك الثاني، 9-10).
أما حزائيل فقد عاد إلى دمشق بعد أن سمع بعودة شلمنصر الثالث إلى المنطقة مجددا، وذلك في العام 841ق.م. وهو العام نفسه الذي اعتلى فيه ياهو عرش إسرائيل. عمل حزائيل على تحصين دمشق، ولكنه لم ينتظر وصول شلمنصر الثالث إليه، بل انطلق لملاقاته عند أسفل جبل الحرمون حيث تحصن لقطع طريق الحملة الآشورية. ونستنتج من تحصن حزائيل في هذه المنطقة أن شلمنصر الثالث كان يقصد إلى التوجه جنوبا نحو فلسطين والساحل السوري دون المرور بدمشق. وهذا ما يفسر لنا حرب حزائيل ضد إسرائيل، والتي سبقت مباشرة وصول شلمنصر الثالث إلى المنطقة؛ ذلك أن حزائيل كان يعرف بطريقة ما أهداف الحملة الآشورية في الوصول إلى المناطق الجنوبية والغربية وعزل مملكة دمشق، فأراد استباق الأمور وخلع ملك إسرائيل الذي كان يستعد لتقبيل أقدام شلمنصر، وإحلال ملك جديد محله موال لدمشق. نقرأ في نص شلمنصر الثالث عن هذه الحملة ما يلي: «في السنة الثامنة عشرة من عهدي عبرت الفرات للمرة السادسة عشرة. حزائيل ملك دمشق وضع ثقته بجيشه العرم، وجمع قواته بأعداد كبيرة جاعلا من جبل سنيرو (الحرمون) المقابل لجبل لبنان قاعدة له. قاتلته وهزمته، وجندلت ستة عشر ألفا من جنوده المدربين، وغنمت 1121 عربة، و740 جوادا ، وكل معسكره. أما هو، فقد هرب طالبا حياته، فتعقبته إلى دمشق مقره الملكي وحاصرته هناك، وقطعت أشجار بساتينه. ثم سرت إلى جبل حوران فهدمت وأحرقت عددا لا يحصى من المدن وأخذت منهم الجزية. ثم سرت إلى جبل بعل راسي، الذي يقع مقابل البحر (جبل الكرمل) وأقمت هناك نصبا تذكاريا عليه صورتي. في ذلك الوقت تلقيت الجزية من صور وصيدون ومن ياهو بن عمري.»
12
صفحة غير معروفة