إن الإخفاق الذي مني به الباحثون المحافظون حتى الآن في إيجاد مستندات تاريخية لإسرائيل التوراتية، قد قاد إلى الاستقلال التدريجي للبحث في أصول إسرائيل عن البحث التوراتي والبحث اللاهوتي. وفيما عدا البقية المتعنتة من تلامذة أولبرايت، والحلقات الأكاديمية ذات الخلفية اللاهوتية، فإن الباحثين اليوم يضربون صفحا عن كل ما سبق فترة الاستقرار في كنعان، باعتباره «ما قبل التاريخ» بالنسبة لمسألة أصول إسرائيل، ويركزون دراستهم على عصر الحديد الأول، والفترة الانتقالية من البرونز الأخير إلى عصر الحديد، وذلك من أجل الكشف عما حدث فعلا في فلسطين وأدى إلى نشوء إسرائيل. (1) نظرية آلت في التسرب السلمي
في عام 1925 نشر الباحث الألماني ألبريخت آلت
Albrecht Alt
بحثه المعنون «توطن الإسرائيليين في فلسطين»، وذلك ضمن كتاب موسوعي أشرف على تحريره عنوانه «مقالات في تاريخ وديانة العهد القديم».
1
وقد بسط آلت في ذلك البحث نظريته في أصل إسرائيل، والتي كان لها تأثير كبير على مسار البحث منذ ذلك الوقت. يبتدئ آلت دراسته لأصول إسرائيل من عصر القضاة، أما ما قبل ذلك من المرويات التوراتية فليست عنده إلا من قبيل الأدب الخيالي، الذي تمت صياغته في الفترات المتأخرة، بهدف خلق أصول متجذرة لإسرائيل وديانتها في الماضي البعيد. وجد آلت من دراسته لأسماء المواقع التي تعزو الرواية التوراتية سكناها من قبل أوائل الإسرائيليين في سفر القضاة، أن هذه المواقع كانت بعيدة عن مناطق دويلات المدن الكنعانية، وقامت في المناطق الهضبية شبه الخالية من السكان تقريبا. من هنا كان منطلقه في بناء نظريته في التسرب السلمي للجماعات التي شكلت فيما بعد إسرائيل. لقد لاحظ هذا الباحث من مقاطعته للعديد من المعلومات أن الهضاب المركزية لفلسطين كانت شبه خالية من السكان خلال عصر البرونز الأخير، وخصوصا منذ فترة تل العمارنة حوالي 1350ق.م. ولم تكن تحتوي إلا على عدد قليل جدا من القرى الصغيرة والمتباعدة. وكانت مدينة شكيم في الشمال هي المدينة الوحيدة المهمة فيما بين أورشليم جنوبا ووادي يزرعيل (مرج ابن عامر) في الشمال. وقد بقي وضع الهضاب المركزية على هذه الحالة حتى عام 1250ق.م. عندما بدأ مسرح الحدث التوراتي بالتوضح في هذه الرقعة. وفي الحقيقة، فإن هذا الاستنتاج المبكر الذي توصل إليه آلت بنفاذ بصيرته قد أثبته المسح الأركيولوجي للهضاب المركزية بعد أكثر من نصف قرن على ظهور دراسة آلت.
ويعتقد آلت أن الجماعات التي شغلت الهضاب المركزية كانت عبارة عن عشائر بدوية من أصول مختلفة أخذت بالتسرب تدريجيا إلى هذه المنطقة، وعلى فترات متقطعة ومتباعدة، اعتبارا من منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد، تسوق قطعانها الصغيرة عبر نهر الأردن باحثة عن مراع جديدة في كنعان. وكان هؤلاء الرعاة يتوقفون خلال الشتاء والربيع عند أطراف المناطق الزراعية، فإذا يبست الأعشاب صيفا أخذوا بالتوغل أكثر فأكثر نحو المناطق الزراعية من أجل رعي القش المتبقي بعد الحصاد، وذلك بالاتفاق مع أصحاب الحقول، الذين كانوا يدخلون معهم في علاقات منافع متبادلة. وشيئا فشيئا، وجد بعض هذه العشائر أماكن مناسبة لإقامتهم في المناطق الخالية الفاصلة بين دويلات المدن الكنعانية، والبعيدة عن نفوذ المراكز السياسية الهامة، وعن النفوذ المصري في وادي يزرعيل، فتوطنوا هناك وأخذوا بالاستقرار والزراعة دون أن يسببوا تهديدا أو مخاوف لأي فريق، ولم يكن لهذه الجماعات من حاجة إلى العنف وإلى اكتساب الأرض بالقوة. ثم إن هذه العشائر المسالمة والمتباعدة عن بعض أخذت بالتقارب بعد فترة من الاستقرار، وأخذت تدريجيا بالإحساس بنوع من الرابطة فيما بينها. ومن المرجح أن عبادة واحدة قد نشأت بينها تدريجيا، وتركزت طقوسها حول مقام مقدس أو مذبح مشترك، الأمر الذي زاد من ترابطها وإحساسها بالتمايز عمن حولها. وعندما أخذت أكبر هذه العشائر بتوسيع مناطقها على حساب مناطق الكنعانيين، وذلك في أواخر عصر القضاة، وقع الصدام العسكري مع الكنعانيين على شكل حروب محلية محدودة. وهذه الحروب هي التي بقيت ذكراها قائمة في الأذهان بشكل غامض ومشوش، وأدت فيما بعد إلى نشوء تقليد الفتح العسكري واكتساب كنعان بالقوة، مما يذكره سفر يشوع. ثم تنادت هذه الجماعات بعد أن أحست بوحدة مصالحها إلى إقامة المملكة الموحدة، التي ابتدأت بحكم الملك شاول.
وينطلق آلت في نظرته إلى أصول إسرائيل من موقف مخالف تماما لموقف الباحث أولبرايت، فبينما كان هم أولبرايت أن يزرع جذور إسرائيل في التربة الأوسع لثقافة الشرق القديم، فإن آلت والمدرسة التي ينتمي إليها، بنظرتهم الشكوكية إلى القيمة التاريخية لروايات الآباء والخروج ويشوع، يجدون أنه من غير المجدي البحث عن أصول إسرائيل في الفترات السابقة لعصر القضاة وتشكيل المملكة الموحدة. وهنا، وبدلا من توطين أصول إسرائيل في الثقافة المحلية، والبحث عن نواحي اللقاء والانسجام، فإن آلت يلجأ إلى إبراز أصول إسرائيل من خلال تضادها وتناقضها مع محيطها، ويركز على ثنائية إسرائيل - كنعان. إن المفتاح الرئيسي لفهم نشوء إسرائيل كهوية متميزة في المنطقة، هو البحث عن اختلافها وتفردها وتميزها عن المحيط الكنعاني الأوسع والأقدم. أما الجوانب التي يجدها آلت مشتركة بين ما هو إسرائيلي وما هو كنعاني، فيعزوها إلى قيام الإسرائيليين لاحقا بتبني جوانب معينة من الثقافة الكنعانية، وهي جوانب غير أصيلة في إسرائيل كما يعتقد.
يستخدم آلت مصطلح «كنعان» وصفة «كنعاني» للدلالة على دويلات المدن الفلسطينية وما يتعلق بها خلال عصر البرونز الأخير، وهي الدويلات التي نعرف عنها من رسائل تل العمارنة، ومن وثائق الإمبراطورية المصرية عموما العائدة لذلك العصر. وهو يصفها بأنها دويلات زراعية يحكمها ملوك متسلطون، مرتبطة ثقافيا بالعالم السوري المسماري، وذات ديانة تقليدية وثنية. أما مصطلح «إسرائيل» وصفة «إسرائيلي» فهو مفهوم تجريدي عند آلت استمده من نفي كل ما هو كنعاني. فالمصطلح، والحالة هذه، يشير إلى ثقافة قبلية ورعوية شبه بدوية، ومعتقد ديني توحيدي، ونظام حكم بدائي ديمقراطي. وثنائية كنعان - إسرائيل عند آلت لست ثنائية تضاد ثقافي فقط، بل ثنائية تتابع زمني أيضا؛ فعصر البرونز الأخير هو عصر كنعاني، ويدل على كامل فلسطين قبل وصول الإسرائيليين، أما ما تلاه من عصر الحديد فإسرائيلي، أو فلسطين في طريقها لأن تغدو إسرائيل. من هنا، فقد أعطى هذا الباحث لنفسه الحق في دراسة نصوص عصر البرونز الأخير، واستقراء آثاره سواء في فلسطين أم خارجها، دون الاستعانة بالنص التوراتي أو الرجوع إليه، وذلك على عكس موقفه من نصوص وآثار عصر الحديد الذي يعتبره فاتحة للعصر الإسرائيلي.
لقد وضع آلت نموذجا لنشوء إسرائيل غدا سنة متبعة بعده. ويعتمد هذا النموذج على وصف التغيرات الاجتماعية والسياسية، التي أدت إلى الانتقال من عصر البرونز إلى عصر الحديد، أو من فلسطين دويلات المدن الكنعانية في السهول والوديان إلى فلسطين المملكة الموحدة في المناطق الهضبية، والتي بسطت سلطتها فيما بعد على بقية دويلات المدن الكنعانية. من هنا، فقد صار من البديهي التحدث في الأدبيات التاريخية عن كل ما هو كنعاني باعتباره يمت إلى البرونز الأخير، وعن كل ما هو إسرائيلي باعتباره يمت إلى عصر الحديد. أما الجانب الآخر من نظريته، والذي يؤكد على التسرب السلمي وينفي الفتح العسكري لأرض كنعان، فقد بقي موضع جدال بين الباحثين. وقد عارضته منذ البداية مدرسة أولبرايت، التي بقيت حتى النهاية من أنصار نظرية الاقتحام العسكري، ويعارضه في الوقت الحاضر بعض الباحثين الإسرائيليين من أمثال يادين
صفحة غير معروفة