المملكة الموحدة لكل إسرائيل
(1) صموئيل عراب المملكة
كان صموئيل، الكاهن في مدينة شيلوه، آخر قضاة بني إسرائيل. وقد تولى القضاء في فترة عصيبة بلغ فيها اضطهاد الفلسطينيين للإسرائيليين ذروته. فصلى صموئيل للرب ليرفع غضبه عن شعبه، فاستجاب له الرب لأنه كان نبيا ومختارا للرب منذ صغره، وأعان بني إسرائيل على خصومهم فاسترجعوا منهم كل الأراضي والقرى التي سلبوها. وكان لما شاخ صموئيل أنه جعل ابنيه قضاة أيضا يساعدانه، ولكنهما لم يسلكا في طريقه، بل مالا إلى المكسب وقبلا رشوة. فاجتمع كل شيوخ إسرائيل وجاءوا إلى صموئيل وقالوا له: «هو ذا أنت قد شخت وابناك لم يسيرا في طريقك. فالآن اجعل لنا ملكا يقضي لنا. وصلى صموئيل إلى الرب، فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك ... وملك عليهم ملكا» (صموئيل الأول، 1-8). «وكان رجل من بنيامين اسمه قيس بن أبيئيل ... وكان له ابن اسمه شاول، شاب وحسن، ولم يكن رجل في بني إسرائيل أحسن منه، من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب. فضلت أتن قيس، أبي شاول، فقال قيس لشاول ابنه: خذ معك واحدا من الغلمان وقم فتش على الأتن. فعبر في جبل أفرايم فلم يجدها ... ولما دخلا أرض صوف قال شاول لغلامه: هو ذا رجل الله في هذه المدينة. لنذهب الآن إلى هناك لعله يخبرنا عن طريقنا التي نسلك ... وفيما هما آتيان في وسط المدينة، إذا بصموئيل خارج للقائهما ... والرب كشف أذن صموئيل قبل مجيء شاول بيوم قائلا: غدا في مثل الآن أرسل إليك رجلا من أرض بنيامين، فامسحه رئيسا لشعبي إسرائيل، فيخلص شعبي من يد الفلسطينيين. فلما رأى صموئيل شاول أجابه الرب: هو ذا الرجل الذي كلمتك عنه» (صموئيل الأول، 9). «وقال صموئيل للشعب: هلموا نذهب إلى الجلجال ونجدد هناك المملكة. فذهب كل الشعب إلى الجلجال، وملكوا هناك شاول أمام الرب في الجلجال، وذبحوا هناك ذبائح سلامة أمام الرب، وفرح هناك شاول وجميع رجال إسرائيل جدا. وقال صموئيل لكل إسرائيل: ها أنا ذا قد سمعت لصوتكم في كل ما قلتم لي وملكت عليكم ملكا. والآن هو ذا الملك يمشي أمامكم، وأما أنا فقد شخت وشبت، وهو ذا أبنائي معكم.» وبعد أن استلم شاول جميع صلاحياته الدنيوية من صموئيل بدأ حروبه التحريرية الكبرى؛ حارب شاول أولا العمونيين وردهم عن مناطق بني إسرائيل، ثم التفت إلى الفلسطينيين. وكان جيشه يتألف من ثلاثة آلاف مقاتل في أحسن أحواله، ومن ستمائة مقاتل فقط في أسوأ الأحوال. وكانت الأدوات الحديدية - بما فيها الأسلحة - مفقودة لدى بني إسرائيل؛ لأن الفلسطينيين منعوهم من صناعة الحديد للإبقاء عليهم في حالة الضعف العسكري. وفي المعركة الأولى مع الفلسطينيين لم يكن رمح ولا سيف بيد جماعة شاول، إلا معه فقط ومع ابنه يوناثان الذي كان يحارب إلى جانبه، ومع ذلك فقد ضرب شاول خصومه ضربة عنيفة، وطاردهم حتى مقراتهم الحصينة، ثم توجه إلى شرقي الأردن وحارب موآب وعمون وأدوم وملوك صوبة والآموريين. ثم عاد فشد على الفلسطينيين، وكانت بينه وبينهم حروب طيلة أيام حياته (صموئيل الأول، 11-14).
ثم نقل صموئيل إلى شاول أمرا من الرب بقتال العماليق: «وقال صموئيل لشاول: إياي أرسل الرب لمسحك ملكا على شعبه إسرائيل، والآن فاسمع صوت كلام الرب. هكذا يقول رب الجنود: إني افتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر، فالآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ما له، ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا.» فضرب شاول العماليق فيما بين جنوب البحر الميت وشمالي سيناء، وأفنى الجميع حسب ما أمر به الرب، لم يترك امرأة ولا طفلا ولا رضيعا إلا ذبحه. ولكنه عفا عن ملكهم المدعو أجاج بعد أن أمسك به، كما أنه أبقى على الصحيح والجيد من المواشي، ولم يحرمها للرب، بل ساقها أمامه وقفل راجعا إلى مقره. «فكان كلام الرب إلى صموئيل قائلا: ندمت على أني قد جعلت شاول ملكا؛ لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي.» فحزن صموئيل على شاول لأنه كان يحبه، وناح عليه الليل كله. وفي الصباح خرج إلى شاول وعنفه على ما فعل، فقال شاول لصموئيل: «أخطأت لأني تعديت قول الرب وكلامك؛ لأني خفت من الشعب وسمعت لصوتهم. والآن اغفر خطيئتي وارجع معي فأسجد للرب. فقال صموئيل لشاول: لا أرجع معك لأنك رفضت كلام الرب فرفضك الرب من أن تكون ملكا على إسرائيل» (صموئيل الأول، 15).
بعد ذلك أمر الرب صموئيل أن يذهب إلى بيت المدعو يسى في بلدة بيت لحم قرب أورشليم؛ لأنه وجد في أحد أولاده ملكا على إسرائيل، فمضى صموئيل ودخل بيت يسى وذبح للرب ودعا يسى وأولاده إلى الذبيحة. فعبر يسى أولاده أمامه واحدا واحدا إلى أن عبر داود الولد الثامن الأصغر، وكان قد وصل لتوه من رعي الغنم. فقال الرب لصموئيل: قم فامسحه لأنه هذا هو. «وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر، فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه في وسط إخوته. وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدا. ثم قام صموئيل وذهب إلى الرامة. وذهب روح الرب من عند شاول.» وبزوال روح الرب عن شاول اسود مزاجه، وصارت تنتابه نوبات اكتئاب، فنصحه بعض أتباعه أن يفتش عن رجل يحسن الضرب بالعود فيسري عن الملك ويبهج قلبه، فوافق، فدلوه على الفتى داود بن يسى، ووصفوه أمامه بأنه «يحسن الضرب، وهو جبار بأس ورجل حرب وفصيح اللسان، ورجل جميل والرب معه.» فجاء داود وضرب بالعود فارتاحت نفس شاول. وأحب شاول داود وصار له حامل سلاح (صموئيل الأول، 16).
وحدث بعد ذلك أن الفلسطينيين اجتمعوا لقتال شاول وجاءوا إلى يهوذا، فاجتمع رجال شاول واصطفوا للقتال. وقبل بدء المعركة خرج فارس من جيش الفلسطينيين اسمه جليات، طوله يزيد عن ستة أذرع، مدرع ومدجج بالسلاح، وطلب أن يخرج إليه من جيش شاول مبارز لتحسم المبارزة الفردية نتيجة المعركة. فخاف كل أشداء جيش شاول، وأحجموا عن تلبية النداء. وفي هذا الوقت وصل الفتى داود الذي أرسله أبوه ليتفقد إخوته الثلاثة الذين كانوا يحاربون في جيش شاول. فسأل عن جائزة من يقتل الفلسطيني، فقيل له: «إن الرجل الذي يقتله يغنيه الملك غنى جزيلا، ويعطيه ابنته، ويجعل بيت أبيه حرا في إسرائيل.» فتقدم داود إلى شاول معلنا رغبته في التصدي لجليات، فألبسه شاول خوذته ودرعه وقلده سيفه، فلما مشى لم يقدر على الحركة، فنزعها عنه وأخذ عصاه بيده، والتقط خمسة حجارة ملساء فجعلها في جرابه، وحمل مقلاعه وتقدم نحو الفلسطيني. ولما نظر جليات إلى داود «استحقره لأنه كان غلاما وأشقر جميل المنظر. فقال لداود: ألعلي أنا كلب حتى إنك تأتي إلي بعصا. ولعن الفلسطيني داود بآلهته. وقال الفلسطيني لداود: تعال فأعطي لحمك لطيور السماء ووحش البرية.» ولكن داود تقدم إلى الميدان وأخذ حجرا من جرابه ورماه بالمقلاع، فأصاب جبهة جليات وسقط على الأرض، فركض إليه داود ولم يكن معه سيف، فاستل سيف الفلسطيني وقطع به رأسه. ولما رأى الفلسطينيون ما حل بجبارهم هربوا، فطاردهم جماعة شاول وأعملوا فيهم السيف، وأخذ داود رأس الفلسطيني وأتى به إلى أورشليم (صموئيل الأول، 17).
ارتفع شأن داود بعد قتله جليات وصارت له سمعة حسنة، فكرهه شاول وخاف من تزايد محبة الناس له، وعندما كانت تأتيه نوبات الاكتئاب كان يسعى لقتله، ولكن ذلك لم يمنعه من البر بوعده لقاتل جليات، فزوجه ابنته ميرب، ثم زوجه ابنته الثانية ميكال، وعينه قائدا بين قواده، فكان يشن غزوات خاطفة على الفلسطينيين ويقتل منهم الكثيرين. ثم عاد شاول للتفكير بقتل داود، ودبر له المكائد والمصائد، ولكن يوناثان بن شاول، الذي أحب داود وصادقه، كان ينقذه في كل مرة ويقف إلى جانبه. وفي أثناء اختبائه وهربه من ملاحقة شاول تجمع حول داود جماعة من الأفاقين والمغامرين ومن أعداء شاول، بلغ عددهم ستمائة مقاتل يرتحلون معه أينما ذهب. وعندما يئس من إيجاد ملاذ آمن له ولجماعته في المناطق التابعة لشاول، قرر اللجوء إلى أرض الفلسطينيين، فأتى إلى مدينة جت حيث استقبله ملكها أخيش استقبالا حسنا وآواه وأكرمه (صموئيل الأول، 18-26).
أقام داود وجماعته في بلدة صقلع التابعة لملك جت، ومن هناك تابع شن غزواته ولكن لصالح الفلسطينيين هذه المرة، وتحول إلى زعيم مرتزقة تعيث الفساد في أراضي خصوم ملك جت. وعندما جمع الفلسطينيون جيوشهم وتوجهوا إلى حرب جديدة مع شاول، صعد إليهم داود ورجاله وعرضوا السير معهم لقتال بني جلدتهم، فوافق أخيش ملك جت، أما بقية أقطاب الفلسطينيين السائرين معه فرفضوا خوفا من انقلاب داود عليهم وعودته إلى صفوف شاول ، فعاد داود ورجاله إلى معسكرهم. أما جيش الفلسطينيين فقد التقى بجيش شاول في جبل جلبوع، وأوقعوا بالإسرائيليين هزيمة منكرة. وقد أصيب في المعركة شاول، فوقع وقال لحامل سلاحه أن يقتله قبل أن يقع في أيدي أعدائه، فأبى، فأخذ شاول السيف وسقط عليه فمات، وفعل حامل سلاحه مثلما فعل، كما سقط في المعركة أيضا أولاد شاول الثلاثة ومعظم عساكره. وهنا يعطينا النص التوراتي وصفا في غاية الحيوية لهذا المشهد: «واشتدت الحرب على شاول، فأصابه الرماة رجال القسي، فانجرح جدا. فقال شاول لحامل سلاحه: استل سيفك واطعني به؛ لئلا يأتي هؤلاء الغلف ويطعنوني ويقبحوني. فلم يشأ حامل سلاحه لأنه خاف جدا، فأخذ شاول السيف وسقط عليه. ولما رأى حامل سلاحه أنه مات شاول سقط هو على سيفه ومات معه، فمات شاول وبنوه الثلاثة وحامل سلاحه وجميع رجاله في ذلك اليوم.» وفي اليوم التالي عندما جاء الفلسطينيون لتفقد القتلى وجدوا شاول وبنيه على الأرض، فقطعوا رأسه ونزعوا سلاحه وصلبوا جثته وجثث أولاده على سور مدينة بيت شان (صموئيل الأول، 27-31).
النقد النصي لسفر صموئيل الأول
إذا كانت الأسفار الخمسة قد خصصت لابتكار أصول بعيدة لإسرائيل التوراتية في أرض كنعان، وسفر يشوع والقضاة لابتكار الأصول القريبة، فإن سفر صموئيل الأول قد كرس لابتكار أصول للملكية في إسرائيل، وللمملكة الموحدة لكل إسرائيل، التي من المفترض أنها قامت على معظم أراضي كنعان. وتلعب هنا شخصية صموئيل، الكاهن والنبي وآخر القضاة على بني إسرائيل، دور المفصل الذي يربط تقليد عصر القضاة بتقليد عصر المملكة. فآخر القضاة هنا هو الذي يمسح أول الملوك ويختاره لخلافته، فينهي بذلك عصرا ويفتتح آخر.
صفحة غير معروفة