لقد جاء عزرا بسفر الشريعة، كما يسميه نص عزرا ونص نحميا، ومصدره البلاط الفارسي، ثم قرأ فقراته على مسامع الشعب - الذي لم يكن يعرف عنه شيئا - في احتفال عظيم، وأخذ عليهم عهدا وميثاقا بقبوله. نقرأ في نحميا: «اجتمع كل الشعب كرجل واحد إلى الساحة التي أمام باب الماء، وقالوا لعزرا الكاتب أن يأتي بسفر شريعة موسى التي أمر بها الرب إله إسرائيل. فأتى عزرا بالشريعة أمام الجماعة ... وقرأ بها من الصباح إلى نصف النهار أمام الرجال والنساء والفاهمين، وكانت آذان الشعب نحو سفر الشريعة ... وبارك الرب الإله العظيم عزرا. وأجاب جميع الشعب: آمين آمين، رافعين أيديهم، وخروا وسجدوا للرب على وجوههم إلى الأرض. ويشوع وباني ... إلخ، واللاويون أفهموا الشعب الشريعة، والشعب في أماكنهم، وقرءوا في السفر في شريعة الله ببيان، وفسروا المعنى، وأفهموهم القراءة ... وفي اليوم الثاني اجتمع رؤساء آباء جميع الشعب والكهنة واللاويون إلى عزرا الكاتب ليفهمهم كلام الشريعة» (نحميا، 8: 1-13). وبعد ذلك يعطي الشعب عهدا وميثاقا بقبولهم للشريعة أمام عزرا الكاهن الكاتب، ونحميا الإداري والسياسي الذي عينه الفرس واليا على أورشليم: «ومن أجل ذلك، نحن نقطع ميثاقا ونكتبه، ورؤساؤنا ولاويونا وكهنتنا يختمون ... والذين ختموا هم نحميا وصدقيا و... إلخ. وباقي الشعب والكهنة واللاويين وكل الذين انفصلوا من شعوب الأراضي إلى شريعة الله، ونسائهم وبنيهم وبناتهم، كل أصحاب المعرفة والفهم لصقوا بإخوتهم وعظمائهم، ودخلوا في قسم وحلف أن يسيروا في شريعة الله التي أعطيت عن يد موسى عبد الله، وأن يحفظوا ويعملوا جميع وصايا الرب سيدنا وأحكامه» (نحميا، 9: 38، و10: 1-29).
إن ما تقوله لنا هذه الفقرات السابقة من سفر نحميا هو أن عزرا هذا قد جاء إلى أورشليم بشريعة، أو بنواة شريعة، جديدة كل الجدة على المجتمع الآخذ بالتشكل في هذه المنطقة التي يعاد إحياؤها وفق السياسة العامة لترميم مقاطعات الإمبراطورية الفارسية، التي أفرغت من سكانها، وعانت من تخريب الحاكم السابق. وقد كان الشعب يستمع إلى فقرات هذا القانون لأول مرة، من هنا فقد كان على عزرا أن يشرح فقراته للكهنة واللاويين ورؤساء الشعب ليعمل هؤلاء على شرحها للبقية وإفهامهم مضمونها. وبالطبع فإن هذا الشرح وإعادة الشرح لا يمكن أن يكون موضوعه شريعة موجودة بين أيدي الشعب، تنظم أحواله الدينية والدنيوية، وترقى إلى أيام موسى. وليست تسمية هذه الشريعة في سفري عزرا ونحميا بشريعة موسى إلا لمسة تحريرية وضعها المحررون عندما ألحقوا أخبار الفترة الفارسية بالقصة التوراتية الطويلة. وفي الحقيقة فإن الميثاق الذي أخذته الجالية الجديدة في أورشليم على نفسها بقبول شريعة الله وشريعة الملك هو «العهد الأول» الذي يتم بين إله السماء الجديد في هيكل أورشليم وبين شعبه الجديد، وهو الذي أسقطه المحررون على قصة الأصول فعقدوه منذ البداية بين إبراهيم وإلهه، وجددوه مع بقية الآباء.
ورغم أن اللمسة التحريرية تجعل من هذا العهد نتاجا للرضا العام به وقبوله غير المشروط من قبل الشعب، إلا أن المضامين الأصلية للخبر واضحة كل الوضوح وتؤدي عكس ذلك، فالجالية الجديدة في أورشليم لم يكن أمامها إلا أحد خيارين؛ فإما قبول شريعة الله وشريعة الملك أو مواجهة أقسى العقوبات. وهذا ما تنص عليه آخر فقرات أمر الملك الفارسي التي تنص على أن «كل من لا يعمل شريعة إلهك وشريعة الملك فليقض عليه عاجلا إما بالموت، أو بالنفي، أو بغرامة المال والحبس» (عزرا، 7: 26). وهذا يعني أننا أمام نوع من «عقد الإذعان» المفروض من قبل السلطة الفارسية، وأن مجتمع أورشليم لم يكن أمامه سوى خيار واحد هو القبول بلائحة القوانين الجديدة التي تنظم أحواله الدينية والاجتماعية والسياسية، وفق الخطة الموضوعة لهذه المنطقة من الإمبراطورية.
لا يعطي سفر عزرا ونحميا كثيرا من التفاصيل حول مضمون الشريعة الجديدة، والفقرات القليلة المذكورة في نحميا 10 لا تشبه في صياغتها ومضمونها شريعة موسى التي فصلتها الأسفار الخمسة، إلا أننا نستطيع تخمين مصادر وموضوعات سفر الشريعة هذا. فأما الموضوعات فقد تركزت حول المعتقد الديني والطقوس المكملة له، وحول القضايا الإدارية والتنظيمية للبنية المدنية الجديدة، والأحوال الشخصية للجالية الجديدة في منطقة اليهودية، وهي أورشليم وما يحيط بها. وقد تم ربط هذه القوانين الناظمة للحياة الدنيوية للجماعات بالمعتقد الديني لإعطائها تأييدا مزدوجا. وأما مصادر سفر شريعة عزرا فمتعددة. فلدينا أولا: الأيديولوجيا الدينية الفارسية المتعلقة بإله السماء الفارسي أهورا مزدا، الذي سعى ملوك فارس لرفعه إلها أوحد للإمبراطورية عن طريق مطابقته تعسفيا مع الآلهة المحلية للمقاطعات المحكومة، وخصوصا تلك المقاطعات الداخلة في برنامج التجديد والإحياء. وثانيا: لدينا القوانين والشرائع الفارسية التي حاولت الإدارة الإمبراطورية من خلالها تنميط أساليب الإدارة والحكم في المقاطعات. وثالثا: لدينا التقاليد المحلية المتجذرة في المنطقة منذ القدم.
وبالطبع، فإن هذه النواة الأولى للشريعة - والتي صلحت في البداية لخلق الاستقرار في مجتمع أورشليم - لم تبق على حالها. والكاهن عزرا الذي يمكن أن يدعى بحق «أبا اليهودية» قد عمد فيما بعد إلى توسيع وتطوير هذه النواة بما يتلاءم مع التقاليد القديمة في المنطقة من جهة، ومع مستجدات حياة الجماعة. ثم جاء تلامذته وخلفاؤه، ممن شكلوا الآن كهنوتا رسميا راسخا في أورشليم، فتابعوا هذه المهمة، وأخذوا على عاتقهم فوق ذلك ابتكار أصول لهذه الشريعة تجعل منها تقليدا مترسخا في المنطقة لا أمرا عارضا مفروضا عليها من الخارج. وهكذا ابتدأ العمل في قصة إسرائيل التوراتية. ففي سياق عملية ابتكار تاريخ للشريعة بهدف تأصيلها وتثبيتها كان لا بد من ابتكار أحداث وشخصيات تحمل هذا التاريخ وتطوره من مرحلة إلى أخرى، فابتدأت القصة بشكلها الجنيني المتواضع ثم أخذت بالتشعب والتوسع، ونشأت على جوانب الخط الرئيسي لها قصص متفرقة متنوعة معظمها مستمد من التراث المحلي، تم اقتباسه وإدماجه في النسيج العام للرواية التوراتية.
وتكبر الخرافة وتتسع، وتستكمل حلقاتها خلال قرنين أو ثلاثة من عودة عزرا بسفر الشريعة من البلاط الفارسي، ويتم ربط تاريخ اليهودية بتاريخ ما قبل اليهودية؛ أي تاريخ إسرائيل ويهوذا. وتتابع قصة الأصول توغلها في الماضي المجهول مما سبقهما. ثم كان لا بد من إيقاف هذه العملية عند حد معين، فعمد كهنة أورشليم أخيرا إلى جمع هذه الأدبيات وإعادة صياغتها بشكل أخير وفق إطار أيديولوجي وكرونولوجي يضم التقاليد المتفرقة في كل موحد. وبذلك أنجز كتاب التوراة، وظهرت إسرائيل التوراتية ككيان ذهني وأدبي على أنقاض تاريخ السامرة ويهوذا المطمور تحت ركام الدمار الآشوري والبابلي.
إن الرواية التوراتية هي قصة أصول مبتكرة لدين جديد ومجتمع جديد، يحاول أن يثبت أقدميته وتجذره في المنطقة. وإن المحررين الذين صاغوا هذه القصة كانوا مدفوعين بهاجس تراثي لا بهاجس تاريخي. لقد جمعوا ما وصل إلى أيديهم من شذرات الأخبار القديمة، والأدب الشعبي الفلسطيني، ونتف من الأخبار عن السامرة ويهوذا، وبعض الوثائق القليلة المكتوبة، فصاغوا منها مادة قصصهم التي ضمت إلى بعضها من خلال منظور أيديولوجي فضفاض، وتسلسل زمني مليء بالفجوات والانقطاعات. وفي الحقيقة، فإن ما يبدو لأول وهلة تسلسلا زمنيا في القصص التوراتي ليس إلا إيهاما من صنع المحرر التوراتي الأخير، الذي جعل القصص ذات المنشأ المستقل تبدو وكأنها حلقات في سلسلة متتابعة. والناتج الأخير لهذه العملية هو رواية خيالية لا تتقاطع مع التاريخ الفلسطيني ولا مع تاريخ الشرق القديم في كل تفاصيلها هبوطا إلى موت الملك سليمان، ولا تتقاطع مع هذا التاريخ إلا في نقاط غامضة ومبعثرة من حياة مملكتي السامرة وإسرائيل. أما عن ذلك المنظور الأيديولوجي الذي حاول كهنوت أورشليم فرضه على روايتهم فقد بقي غريبا عن جو القصص التوراتي التي استقل كل منها برؤياه الدينية الخاصة. فإله الآباء لا يشبه إله الخروج، وهذا لا يشبه إله القضاة، وإله إشعيا غريب كل الغرابة عن كل ما سبقه من تصورات، وسفرا أيوب والجامعة لا يمكن قراءتهما بعيني إرميا، ونشيد الأنشاد لا يمكن وضعه في أي سياق ديني توراتي. وهذا يعني أننا لسنا أمام أيديولوجيا دينية متسقة، تعلن عن نفسها بالطريقة نفسها عبر أسفار الكتاب، بل أمام أيديولوجيا توفيقية لا تملك الحد الأدنى من الوحدة والانتظام.
إن إسرائيل التوراتية تظهر إلى الوجود، لأول مرة، كناتج فكري من نواتج الوضع الخاص للمجتمع الأورشليمي المصطنع في العصر الفارسي. من هنا، فإن هذه الإسرائيل لا تتمتع بوجود موضوعي خاضع لعملية الاستقصاء التاريخي، وأي مجهود يبذل في هذا الاتجاه هو مجهود لا طائل من ورائه، ذلك أن العملية التحريرية التي قادت إلى إنتاج إسرائيل التوراتية لم تكن تهدف إلى إنتاج نص أمين عن الماضي، بقدر ما هدفت إلى صياغة نص يعطي معنى للحاضر، ويرسم صورة للمستقبل. والمضمون الذي يتكشف لنا عبر أسفار الأنبياء والأسفار التاريخية ليس موجها نحو الكشف عن الماضي إلا بقدر ما يقدمه هذا الماضي من دعم وتثبيت للمؤسسة الدينية والدنيوية الناشئة. وبمعنى آخر، فإن ما يبدو في هذه الأسفار على أنه تأمل تاريخي ليس في حقيقة الأمر إلا تأملا مستقبليا يرسم صورة للمجتمع الجديد باعتباره وريثا لمجتمع قديم آل إلى اللعنة والتحلل والدمار. وهذه الصورة عن إسرائيل الجديدة هي التي تتحكم بنوع الأحداث التي يتم جمعها وتذكرها باعتبارها تاريخا.
من هنا نستطيع أن نفهم أصول الأفكار الرئيسية الموجهة للتقاليد التوراتية الرئيسية. وهذه الأفكار يمكن تلخيصها في خمسة، هي: العهد، والوعد، والغربة، والعصر الذهبي والسقوط، والتجديد.
لقد كان العهد الذي قطعه أهل أورشليم أمام عزرا الكاهن بقبول شريعة الملك وشريعة الرب بمثابة بداية للتاريخ اليهودي. كما كان في الوقت ذاته النقطة المثالية التي ابتدأ منها المحرر التوراتي بابتكار قصة الأصول. فهذا العهد بين الشعب وإلهه ليس جديدا، بل هو تجديد لعهد عتيق كان الأسلاف الأولون لهذه الجماعة الأورشليمية قد أبرموه مع إله عتيق أيضا. وكما ارتبط إبرام العهد مع ممثلي السلطة الفارسية عزرا ونحميا، مع تثبيت العائدين في أرض عودتهم (لأن كل من لا يعمل بشريعة الملك وشريعة الرب يقتل أو ينفى، وفق أمر الملك الفارسي)؛ كذلك ارتبط العهد العتيق مع إبراهيم وخلفائه بالوعد بالأرض. فالرب قد أعطى أرض كنعان لإبراهيم وذريته، وتعهد بحمايتهم مقابل عبادتهم له وحده، ثم جدد عهده مع إسحاق ويعقوب. وهذه الوعود القديمة كلها ليست إلا نموذجا بدئيا للوعد الجديد الذي يقطعه إله السماء الفارسي مع بقية يهوذا فيقودهم إلى الأرض الموعودة ذاتها. ولقد قاد إحساس القلة الباقية من يهوذا بالغربة في «أرض العودة» التي جاءوا إليها مع من رافقهم من مسبيي المناطق الأخرى؛ إلى إدخال عنصر «الغربة الدائمة» في قصتهم الطويلة عن الأصول. فالآباء المؤسسون كانوا غرباء عن أرض كنعان وفدوا إليها من بلاد الرافدين، مثلما وفد إليها من بلاد الرافدين أيضا بقية سبي يهوذا والغرباء الآخرون المشتتون في الأرض. وجماعة موسى كانت غريبة في مصر وغريبة مرة أخرى في كنعان التي دخلتها مع يشوع، وقصة استعبادهم في مصر هي نموذج بدئي لقصة سبيهم في بابل، وفرعون القديم هو نبوخذ نصر الجديد. وبذلك ترتبط الأفكار الثلاثة عن العهد والوعد والغربة ارتباطا عضويا على مستوى الرواية لا على مستوى الواقع. كما تؤسس هذه الأفكار الثلاثة بدورها لفكرة التجديد وإعادة البناء؛ فالمسبيون قد عادوا من بابل لتجديد وإعادة بناء أورشليم، مثلما عاد المستعبدون من مصر وبنوا المملكة الموحدة في كنعان. وعملية التجديد وإعادة البناء هذه لا تأخذ معناها إلا بارتباطها بفكرة العصر الذهبي والسقوط، ذلك أن العائدين قد جاءوا لتجديد ملك زال، ودولة آلت إلى الانحدار والسقوط. فقصة الأصول، والحالة هذه، يجب أن تبلغ ذروتها في العصر الذهبي لمملكة داود وسليمان، ثم تئول إلى الانحدار فالسقوط عبر المصائر القاتمة لكل من مملكتي السامرة ويهوذا. وكل ذلك يأتي وفق مخطط من الرب الذي قضى على عالم فاسد قديم لكي يقيم على أنقاضه عالما نقيا جديدا. نقرأ في سفر حزقيال إحدى المعالجات الدقيقة والواضحة لهذه الفكرة، حيث يقول الرب: «... إن أرسلت أحكامي الرديئة على أورشليم سيفا وجوعا ووحشا رديئا ووباء، لأقطع منها الإنسان والحيوان، فهو ذا بقية فيها ناجية تخرج بنين وبنات. هو ذا يخرجون إليكم فتنظرون طريقهم وأعمالهم، وتتعزون عن الشر الذي جلبته على أورشليم، عن كل ما جلبته عليها. ويعزونكم إذ ترون طريقهم وأعمالهم، فتعلمون أني لم أصنع بلا سبب كل ما صنعته فيها، يقول السيد الرب» (حزقيال، 14: 21-23).
صفحة غير معروفة