المعاجم العربية مع اعتناء خاص بمعجم العين للخليل بن أحمد
الناشر
مكتبة الشباب
تصانيف
مقدمة:
شهد القرن الثاني للهجرة أولى المؤلفات الكاملة التي ظهرت في مختلف العلوم الإسلامية والعربية. ففي ميدان الحديث ظهر موطأ مالك، كما ظهر بجانبه من ناحية أخرى سيرة ابن إسحاق، أما النحو فقد ألف فيه سيبويه "الكتاب"، ومن قبله أستاذه الخليل الذي وضع معجم "العين" في اللغة كما كان له الفضل في وضع علم العروض كذلك.
وكانت هناك محاولات فردية لكثير من العلماء، والرواة واللغويين يمكن رؤيتها فيما تتأثر من آرائهم في كتب المتأخرين الذين نقلوا عنهم. ولكن هذه الكتب التي أشرنا إليها كانت أول المؤلفات التي وصلت إلينا رغم تقادم العهد، وبعد أن صارعت إغارات التتر، وتيمورلنك والمغول وغيرهم ممن دمرت على أيديهم أغلب المخطوطات العربية القديمة.
وترى هنا إلى بيان الطريقة التي بنى عليها الخليل بن أحمد كتابه في اللغة الأمر الذي كان من شأنه وضع المبادئ الرئيسية لما عرف بعد ذلك باسم المعجم أو القاموس.
وقد كان علماء اللغة أيام الخليل ومن قبله مهتمين كذلك بجمع مفردات اللغة، ولكن هذا الجمع اقتصر فقط على المفردات الصعبة المعاني لشرحها وتوضيحها، وهي التي عرفت باسم "الغريب". وقد كان النظام الذي ساروا، عليه في شرح الغريب مبنيًّا على أساس الرسائل والمكتبات التي تعالج موضوعًا معينًا، فمثلًا ظهر كتاب الخليل، وكتاب المطر وكتاب النوادر وغيرها.
ويبدو أن الذي دعاهم إلى الاقتصار على الغريب هو أن هذا النوع من المفردات
1 / 1
هو الذي كان يحتاج فقط -في نظرهم- إلى توضيح، وتفسير أما المفردات الأخرى فقد كان من السهل على القارئ العادي -في رأيهم- أن يعرف معناها، أو يستنتجه من سياق الكلام. ولم يتبعوا في سرد المفردات في تلك الرسائل نظامًا معينًا. وإن على القارئ أن يخمن موضع الكلمة ليعرف معناها أو يقرأ الكتاب جميعه ليقف على ضالته. وقد سهلت تلك المهمة بعض الشيء حينما عنى المستشرقون بإخراج هذه الكتب، وطبعها ووضع الفهارس المنظمة التي اشتملت على فهرس خاص بالمفردات.
وقد أدرك الخليل من أول الأمر أنه لو ألفت مئات من الكتب على ذلك الطراز لما أمكن حصر يضيع مفردات اللغة، ولما سلمت المسألة من التكرار.
وقد أمكن للخليل أن يحل هذه المشكلة، ويخترع نظامًا من شأنه أن يحصر جميع المفردات مع عدم التكرار. وإنا لنزداد إكبارا للخليل حين نعلم أنه ابتدع نظامه المعجمي في وقت لم يكن فيه لأية لغة أوربية ما يعرف باسم القاموس.
حقيقة لقد سبق الصينيون العرب بوضع معجم للغتهم، ولكن ليس هناك من دليل على أن الخليل، وعبقريته الفذة في علوم النحو والأصوات اللغوية، وعلوم الحساب جمله يكتشف بعض الخصائص الهامة التي يخضع لها موسيقا اللفظ العربي، فمن ذلك نظريته الهامة في تجانس حروف الكلمة، وفي عدم تجانس بعض الأصواب فيها، فمثلًا قد ذكر أنه لا تجتمع في كلمة واحدة ثلاثة حروف أصلية من مخرج واحد، كالحروف الشفوية "ف ب م"، فإنها لا ترى مجتمعة في كلمة واحدة على أنها تكون أصول تلك الكلمة، ولكن إذا تباعدت الحروف الأصول فإن اجتماعها في الكملة جائز، فمثلًا الحروف "ك ب ر" يجتمع بعضها مع بعض في أي وضع من الأوضاع، فيتألف منها نظريًّا ستة ألفاظ، اثنان مبدوءان بالكاف، واثنان بالياء واثنان بالراء. وقد تولى ابن دريد في الجمهرة توضيح هذه النظرية بأن افترض
1 / 2
أن هناك مثلثًا تمثل كل زاوية من زواياه حرفًا من الحروف الهجائية وليكن هكذا:
فإذا ابتدأنا في هذا المثلث من زاوية الرأس متجهين نحو الزاوية اليمنى، فإننا نحصل على "ض ر ب" أما إذا اتجهنا نحو الزاوية اليسرى، فإننا نحصل على "ض ب ر"، وكذلك الحال فيما لو ابتدأنا بزاوية ر فإننا نحصل على "ر ض ب"، "ر ب ض"، وأخيرًا يتأتى لنا "ب ر ض"، "ب ض ر" إذا ابتدأنا بالزاوية ب.
ونسمي نظرية استنباط الأوجه الستة من الأصول الثلاثة بالترتيب التقليبي:
anagramatical -order
وهذه الأوجه الستة نظرية فقط أما من ناحية الواقع فقد تكون كلها مستعملة، وقد تكون كلها مهملة وقد يكون البعض مستعملًا والبعض مهملًا. وتسمية ما نطقت به العرب فعلًا بالمستعمل، وما لم تنطق به العرب بالمهمل هي من وضع الخليل بن أحمد. وقد يكون اللفظ مهملًا ليس؛ لأن العرب لم تستعمله فقط بل؛ لأن القوانيين الصوتية لانسجام حروف المفردات العربية تأبى احتمال وقوعه كما أسلفنا في "ف ب م"، ونظيرها ع خ هـ التي يترتب عليها القول بأن كلمة "الهعخع" مصنوعة.
وهكذا نرى أن الخليل قد اعتمد في بيان المهمل، وتمييزه عن غيره على ما يعرف باسم القوانين الصوتية "PHORETIC RULES"، وهي القوانين التي اتخذها.
1 / 3
ضمن الأسس التي بنى عليه نظام معجمة "كتاب العين" إذ نجد أنه قد قسم الحروف الهجائية إلى مجموعات صوتية بدأها بحروف الحلق، وختمها بالحروف الشفوية. وهذا الترتيب قد وافق من بعض الوجوه ترتيب أحرف الهجاء في اللغة السنسكريتية. وقد فهم بعض المحدثين١ من هذا أن الخليل قد أخذ ترتيبه عن هجاء تلك اللغة، ولكن إذا عرفنا أن الخليل كان مبرزًا في كل علوم اللغة خاصة ما يتعلق بالنحو، والأصوات اللغوية وأن ترتيبه كان على أساس علمي ولغاية محددة، فلا ينبغي أن نأخذ التشابه دليلًا على الاقتباس، هذا فضلًا عن أن ترتيب الحروف في السنسكريتية لا ينطبق تمامًا على الترتيب الصوتي للحروف العربية.
وقد اتفق اللغويون العرب جميعًا على أن التنظيم الرئيسي لكتاب العين من وضع الخليل نفسه، وأن الخليل بهذا اتخذ له فضل السبق في وضع المفردات العربية تبعًا لنظام هجائي معين اتخذ أساسًا لما عرف بعد ذلك باسم المعجم أو القاموس.
ولكن عبقرية الخليل لم تسلم من التقول عليها، فقد أثار الأزهري٢ -لأسباب سنوضحها فيما بعد- مسألة التشكك في نسبة كتاب العين للخليل، وإن كان قد اعترف صراحة بأن مقدمة العين، وتنظيم الكتاب من وضع الخليل نفسه.
وفي العصور الوسطى نرى عالمًا كالسيوطي يجمع كل ما قيل حول هذه المسألة، ويعقد لذلك فصلًا بأكمله في إحدى مؤلفاته٣ ثم يحاول أن يوفق بين وجهات
_________
١ ممن قال بهذا جورجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية ج٢ ص١٢٢. وقد نقلت عنه دائرة المعارف الإسلامية هذا الرأي عند الكلام على الخليل ج٣ قسم ٢ ص٨٨٨.
٢ مقدمة تهذيب اللغة.
٣ الزهر، فصل الكلام على جمع اللغة.
1 / 4
النظر المختلفة. والذي حداه أن يركن إلى مبدأ التوفيق هو أنه قد وجد نفسه أمام روايات متعددة تختلف في حكمها على الموضوع، فلا بد إذن -على رأيه" من تأويل في بعضها حتى تتفق في جوهرها، وإن اختلفت في مظهرها. وإذا قبلنا هذا من السيوطي، وكان هينًا علينا أن نستمع منه إلى "التوفيق" بين مختلف الآراء التي تعتمد -أول ما تعتمد- على الرواية. فإننا وقد تقدمت في عصرنا طرق البحث العلمي لا يصح أن نلجأ إلى التوفيق تاركين نص كتاب العين ليدلنا على حقيقة أمره، كما فعل بعض الباحثين المعاصرين١.
وإن اختفاء مخطوطة العين مدة من الزمن ليعد السبب الرئيسي لهذا الاضطراب واشتباه الأمر. وآخر من أشار في كتبه أنه رأى نسخة العين من اللغويين العربي هو السيوطي إذ ذكر في المزهر ما يفيد هذا. ومن ناحية أخرى نجد متأخري اللغويين كصاحب القاموس، واللسان والتاج لم يذكروا كتاب العين في قائمة المراجع التي اعتمدوا عليها. ولكنهم جميعًا نقلوا عن الكتاب مصر حين في بعض المواضع باسم الخليل، وقد اقتبسوا هذه النقول عن الأزهري وغيره ممن استعمل كتاب العين في كتابه. حتى في عصرنا الحاضر نجد أن البستاني في معجمه "محيط المحيط"، قد نقل من الخليل في صلب كتابه دون أن يرى كتاب العين.
ومن الشائع الكثير أن نجد القواميس العربية محشوة بالعديد من أسماء الرواة كأبي عبيدة، وأبي عمرو وغيرها، وليس معنى هذا أن صاحب التاج مثلًا حين يذكر لنا "قال أبو عمرو" أنه رأى كتاب أبي عمرو بل إنه نقل عن مصدرآخر كان قد انتفع بآراء أبي عمرو، ودون جزءًا منها في كتابه، وهذا من الأسباب التي بها تشابهت تعبيرات أصحاب المعاجم حين شرحهم للمفردات. ويمكن بالمقارنة إرجاع هذه التعبيرات إلى الأصل الأول، وهو كتاب العين للخليل مع فارق يسير.
_________
١ مجلة المجمع العلمي بدمشق عدد ١٨ لسنة ١٩٤١، مثال؟؟؟؟ المعاجم ليوسف عش.
1 / 5
وعندما اكتشفت مخطوطة العين أخيرًا في العراق ابتدأ العلامة أنستاس الكرملي في عام ١٩١٣م في طبع الكتاب، فأخرج قسمًا صغيرًا منه في ١٤٤ صفحة، وهي تعادل ٥٨ صحيفة من مخطوطة ألمانيا البالغ عدد صفحاتها ٨٤٠ صفحة.
ولكن ما حل ببغداد أثناء الحرب العالمية الأولى من اضطراب. كان سببًا في توقف الطبع بل وفي ضياع كثير من النسخ التي طبعت وهذا ما يفسر لنا عدم انتشار الكتاب.
وقد ذكرت دائرة المعارف الإسلامية عند الكلام على الخليل أن كتاب العين في حكم المفقود، وكذلك اقتصر بروكلمان١ على ذكر القسم المطبوع فقط، وقال: إنه لا توجد مخطوطات للعين يعرف مكانها، ولكن توجد لمختصر العين للزبيدي مخطوطات مختلفة، ثم بدأ في سر أماكنها وأرقامها.
وإن سلسلة المعاجم العربية لا تكون كاملة. بدون أول حلقة منها وهي كتاب العين. وكذلك الخلاف على نسبة الكتاب لا يحسم بالطريقة التقليدية، طريقة الرواية، ولا بالانقياد للنظرية التي تقول: إن الخليل كرأس لمدرسة البصرة ليجل مقامه من الخطأ اللغوي الأمر الذي حدا ببعض المتقدمين بناء على هذا الرأي أن يقولوا: إن في الكتاب أشياء ليست من عمل الخليل نفسه، وإن الطريق السديد لهذا هو الحكم على كتاب العين من الكتاب نفسه، من قسمه المطبوع ومن مخطوطاته.
أما القسم المطبوع فقد ذكر العلامة كربنكوف٢ أنه رأى الصبية في بغداد بعد أن أحرقت الحرب معالمها، وهم يبيعون التمر في أوراق من نسخ الكتاب:
ولحسن الحظ توجد نسخة من هذا القسم المطبوع في كل من دار الكتب، والمجمع اللغوي بمصر.
_________
١ بروكلمان تاريخ الأدب العربي ج٢ س١٠٠.
٢ المجلة الأسيوية بلندن العدد الممتاز لعام ١٩٢٤ ص٢٦٠ وما بعدها.
1 / 6
أما بالنسبة للمخطوط، فقد كدنا أول الأمر نيأس من الحصول عليها؛ لأن الأب أنستاس طبع ما طبع بلا مقدمة، أو تصدير فلم يشر للمخطوطة ولا لمكانها، وقد ذكر بروكلمان أن الكرملي كتب بحثًا عن هذا في صحيفة لغة العرب أغسطس سنة ١٩١٣م، ولكن هذا العدد ليس بين أصول الأعداد المحفوظة لهذه المجلة. ولحسن الحظ مرة أخرى عثرنا عليه مترجمًا في إحدى المحلات الألمانية١.
واستمر البحث بعد ذلك في قوائم المخطوطات العربية للمكتبات الشرقية، والأوربية ولم تجد أول الأمر أي إشارة للعين إلا في "كتالوج" مخطوطات برلين المطبوع سنة ١٨٩٣، فقد ذكر أنه توجد قطعتان من معجم مرتب حسب مخارج الحروف بلا اسم أو عنوان، واختار جامع الكتالوج أنهما من كتاب العين المنسوب للخليل. وقد حصلت على مايكروفيلم"٢ لهما وبدراستهما وجدت أنهما من الحكم.
وقد استمر الاتصال بعد ذلك بمراسلة الهيئات التي يعنيها الأمر، وقد كتبت الجامعة العربية رسالة تقول فيها: إن مكتبتها ليس فيها مخطوطة العين، وإنها لا تعرف موضعها كما يسرها أن تحصل على المخطوطة أو صورة منها عند العثور عليها.
واتجه الظن بطبيعة الحال إلى العراق موطن الخليل، فكان الأمل ضعيفًا أول الأمر لعدم وجود فهارس مطبوعة للمخطوطات هناك. ولكن خيوط البحث، والتنقيب ظلت ممتدة، حتى أمكن آخر الأمر بعد الاتصال بالسفارة العراقية في لندن أن تعثر على مكان المخطوطة، ورقمها في المتحف العراقي ببغداد٣.
وما هي إلا فترة وجيزة حتى ورد مايكروفيلم من هناك. وصورت منه نسخة.
_________
١ der islam، xv، s. ٢٠٥
٢ سيأتي تفصيل هذا عند الكلام على مخطوطات العين.
٣ كان الفضل في ذلك للجهود الذي بذله للمستشرق جيوم رئيس قسم الشرق الأوسط بجامعة لندن الذي كنت أدرس عليه.
1 / 7
وأودعت في خزانة المكتبة في معهد الدراسات الشرقية بجامعة لندن كما احتفظت لنفسي بنسخة أخرى، وكم أثلج صدورنا أن نعثر على نسخة أخرى في ألمانيا، ويرجع الفضل في حصولنا عليها للدكتور كريمر إذ تفضل فأهداني نسخة "مايكروفيلم" لمخطوطة ألمانيا، وكان ذلك أثناء مؤتمر المستشرقين الدولي في مدينة كمبردج عام ١٩٥٤.
وقابلت كذلك هناك المستشرق "ريتر" رئيس القسم العربي في فرانكفوت بألمانيا، فذكر كيف أنه سافر إلى بغداد عقب الحرب العالمية الأولى، وأشرف على شراء ونقل كثير من المخطوطات النادرة التي كان أهمها العين، وقد أودعت في مكتبة برلين، ولكنها نقلت من هناك إلى مكتة جامعة "نيوبنجن" خوفًا عليها من إغارات الحلفاء عندما صوبوا أهدافهم نحو برلين.
ولا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن عدم وجود كتالوج مطبوع لمخطوطات المتحف العراقي ببغداد يعد عاملًا كبير فيما ظنه بروكلمان. كذلك دائرة المعارف الإسلامية من أن المخطوطة مفقودة. وما ورد لألمانيا حديثًا بعد أن طبع الكتالوج الكبير في آخر القرن التاسع عشر مما لم يطبع بعد لم يتمكن بروكلمان رغم ولوعه بالبحث، والتنقيب من العثور عليه١ ومخطوطة بغداد تقع في ٨٠٠ صفحة أما مخطوطة برلين فتزيد عنها بحوالي أربعين صفحة. وقد قدر العلامة الكرملي أن الطبع قد يستغرق ثلاثة أضعاف الخطوطة، ووضع عدد الصفحات ٢٥٠٠ من القطع المتوسط هذا طبعًا عدا جزء خاص بالفهارس.
والآن وقد أصبحت المخطوطة بين أيدينا، فإنه يمكنا الاعتماد عليها في بحث ومناقشة المسائل التي أثيرت حول تأليف الكتاب، كما يمكننا أن نرى إلى
_________
١ وننتهز هذه المناسبة لتبعث برجالنا إلى الجامعة العربية أن توفد إلى ألمانيا، وإنجلترا وغيرهما بعثاتها لتصور أهم المخطوطات خصوصًا التي التي لم يرد لها ذكر في الكتالوج المطبوع. كما فعلت ذلك مشكورة. حين نقلت لمكتبتها في القاهرة كثيرًا من مخطوطات الحجاز، واستانبول وغيرهما.
1 / 8
أي حد اتبع اللغويون المتقدمون طريقة "العين"، وإلى أي حد اختلف اللغويون المتأخرون منها.
ولنشرع الآن في ذكر المراحل التي مر بها وضع المعجم العربي، وهي تتلخص في ثلاث مراحل:
أ- طريقة التقليب "ANAGRAMATICAL ORDER".
وهي الطريقة التي ابتكرها الخليل وسار عليها من بعد ابن دريد، والأزهري والتالي والزبيدي وابن سيده وغيرهم.
ب- طريقة القافية: وتعني تنظيم الكلمات حسب أواخرها. وقد سار عليها الجوهري والفيروزآبادي، وابن منظور والزبيدي وغيرهم.
ج- الطريقة الأبجدية العادية. وهي التي نظمت فيها الكلمات حسب أولها وثانيها وثالثها، وقد سار عليها إلى حد ما ابن فارس كما التزمها الزمخشري، والبستاني والشرتونى وغيرهم.
1 / 9
الباب الأول: المرحلة الأولى في تنظيم المعجم العربي مرحلة التقليبات
نبذة عن حياة الخليل
...
نبذة عن حياة الخليل:
رغم شهرة الخليل١ بالبصرة فإنه قد ولد في مدينة أخرى -هي مدينة عمان على شاطئ الخليج الفارسي عام ١٠٠هـ، ولكن نشأته بالبصرة؟؟؟؟ وتلقيه العلم بها تلميذًا، ورياسته لمدرستها شيخًا جعلته يشتهر بهذا اللقب، وقد كان الخليل من أولئك العلماء القلائل الذين انحدروا من أصل عربي صرف إذ ينتسب إلى بطن فرهود من قبيلة الأزد، وهو وإن عرف أيضًا بالفراهيدى إلى أن بعضهم يصر على تصحيح النسبة إلى الفرهودي.
لم يكن الخليل على حظ كبير من الغنى والسعة، فقد رضي وقنع بعيشته الزهيدة المتواضعة. وذلك لكثرة انشغاله بالعلم والتفكير، ولرضاه النفسي بحالته كما هي. وهذا ما يفسر لنا السبب في رفضه أن يكون مؤدبًا لولد الأمير سليمان بن عبد الملك حينما طلب منه ذلك، وفي هذا يقول الخليل نفسه:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
وقد ظهرت شخصية الخليل قوية واضحة في تأليفات تلاميذه. فهذا سيبويه ينقل في كتابه الكثير عن الخليل. بل إن كثرة هذا النقل بدرجة ملحوظة جعلت بعض النقاد يعتبرون أن سيبويه قد جمع فقط آراء شيوخه الذين كان أهمهم الخليل، ودونها في سجل هو ما عرف بعد باسم "الكتاب"، ويميل بعض المستشرقين إلى أن يعدهما معا رأس مدرسة البصرة كما يعدون القراء، والكسائي مما رأس المدرسة الكوفية٢.
ولم يبرز الخليل في العلوم اللسانبة من نحو ولغه، وشعر فحسب بل كان له دراية
_________
١ اختصرنا ترجمة الخليل هنا كما سنختصر ترجمة أصحاب المعاجم الذين وردوا بعده؛ لأنه يمكن الرجوع إلى ذلك في كتب الطبقات.
٢ مقدمة الإنصاف للمستشرق قابل weil ص٦٩.
1 / 13
واسعة بالعلوم الشرعية والعلوم الرياضية، وأكثر من هذا كان بارعًا في الموسيقى والنغم، وإن نظرة واحدة إلى الطريقة التي وضع بها علم العروض الذي اتفق الجميع على أنه هو الذي ابتدعه دون سابق مثال لتدلنا على أن الخليل كان ذا عقلية مبتكرة. وقد روى لنا في هذا أنه كان قد مر يومًا بمداد، فاستهواه دق المطرقة المنتظم، فلما حاول أن يربط بين هذه النغمات الرتيبة وبين الأوزان في الشعر العربي تم له ذلك باختراع علم العروض. وكانت التفصيلات التي استعملها الخليل كموازين للشعر، وتقطيع الأبيات على حسب تلك الموازين الذي يؤدي أحيانًا إلى شطر الكلمة الواحدة، أو ضم كلمة مع جزء أخرى لتكون وحدة عروضية معينة، كانت كل هذه الأشياء الجديدة على اللغويين الأول أشبه شيء بالألغاز. فقد ذكر لنا أن بعض علماء اللغة رحل إلى الخليل ليتعلم منه فنه الجديد، ولما لم يجد الخليل عنده الاستعداد الكافي لتقبله أراد أن يصرفه عنه بإشارة لطيفة حيث طلب منه أن يقطع هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئًا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
ففطن ذلك اللغوي إلى غرضه، وترك علم العروض الذي لم يستطع تفهمه. حتى طبقة المثقفين من غير العلماء كانت تستغرب هذا الشيء الجديد الذي لم يكن مألوفًا ولا متعارفًا. فقد روي أن الخليل كان يومًا منشغلًا بتقطيع بعض الأبيات، فدخل عليه ابنه فاستوضح منه هذا الأمر، فما كان من الخليل إلا أن ترك له بطاقة مسجلًا عليها هذان البيتان:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت أعلم ما تقول هذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
ومع الاتفاق على نسبة هذه الأبيات وغيرها للخليل، فإننا لا نستطيع أن نعده شاعرًا بالمعنى الكامل للكلمة. هذا علاوة على ما في البيتين السالفين من سمة التقسيم المنطقي الذي ينبئ على أن قائلهما عالم لا شاعر.
1 / 14
وبالإضافة إلى براعة الخليل في اللغة، والموسيقى نجد أنه كان أيضًا رياضيًّا عارفًا بعلم الحساب إلى حد يعتبر فيه سابقًا لأوانه، فقد ذكر أنه وضع محاولة ابتكر فيها وضع نظام حسابي خاص يكون من السهولة بحيث لو عرفته الجارية، وذهبت به إلى السوق، فإنه لا يستطيع أحد أن يغالطها الحساب.
وإن عقلية فذة كعقلية الخليل لا يستبعد أن يكون صاحبها مبتدعًا لأسس العروض، ومبتكرًا للتنظيم المعجمي. بل إن أحد المستشرقين١ من فرط إعجابه بنظريات الخليل صرح بأن نظام العين ليس غريبًا أن يكون من عمل الخليل بل الغريب ألا يكون منسوبًا إليه.
ونظرًا لما أثير حول نسبة كتاب العين إلى مؤلفه الحقيقي، فقد رأينا أن نفرد هذا بموضوع خاص يأتي فيما بعد:
أما مؤلفات الخليل الأخرى فلم يصلنا منها شيء، وقد وردت أسماؤها متناثرة في كتب الطبقات، وقد جمعتها دائرة المعارف الإسلامية في ستة كتب هي:
١- النقط والشكل.
٢- النغم.
٣- العروض.
٤- الشواهد.
٥- الإيقاع.
٦- الجمل.
_________
١ براونلتش الذي كتب مقالًا في ذلك في مجلة إسلاميات الألمانية islamica، ٢.
1 / 15
ولقد لقي الخليل تقديرًا وإكبارًا يليقان بمركزه العلمي من الأدباء واللغويين المتقدمين، فهذا ابن المقفع، يقول:
"لقد لقيت فيه رجلًا عقله أكبر من علمه"، وهذا خلف بن المثنى١ يخبرنا أنه قد اجتمع في البصرة في وقت واحد عشرة من أكابر العلماء في مختلف الفنون أولهم الخليل بن أحمد اللغوي، وثانيهم بشار بن برد الشاعر. إلخ ومدحه حمزة بن حسن الأصبهاني بقوله: إنه لم يكن للمسلمين أذكى عقلًا من الخليل. ويكفينا دلالة على تفوق الخليل في العلوم الإسلامية أنه تخرج على يديه ثلاثة أئمة في فنونهم أولهم سيبويه في النحو، وثانيهم النضر بن شميل في اللغة، وأما الثالث فهو مؤرج السدوسي في الحديث.
_________
١ النجوم الزاهرة ج٢، ص٢٩.
1 / 16
طريقة الخليل في "العين":
إن المبادئ الرئيسية التي بنى عليها الخليل ترتيبه في كتاب العين يمكن حصرها إجمالًا في أمور أربعة:
أولًا: رتبت الكلمات ترتيبًا أبجديًا -والمراد بالترتيب الأبجدي المعنى الواسع لهذا التعبير. فقد شهد عصر الخليل كتيبات سجلت فيها الكلمات بحسب موضوعاتها ومعانيها.
أما الخليل فقد رأى أن هذا غير عملي بالنسبة لحصر جميع المفردات اللغوية في كتاب خاص، ورأى أن ترتيب الكلمات حسب حروفها يكون أفيد وأدق. ولكنه لم يختر لذلك الأبجدية المألوفة على نظم الحروف حسب مخارجها إلى مجموعات تبدأ بالمجموعة الحلقية التي أولها في رأيه العين، وتنتهي بالمجموعة الشفوية التي ختمها بالميم، وتنظيم الكلمات حسب هذا المبدأ ظل متبعًا فترة من الزمن ثم عدل عنه.
ثانيًا: نظمت الكلمات تبعًا لحروفها الأصلية فقط بقطع النظر عن الأحرف الزائدة فيها. وهذا المبدأ ظل متبعًا في كل مراحل تطور المعجم العربي من وقت الخليل إلى يومنا هذا.
ثالثًا: إن تبويب الكلمات خضع لنظام الكمية. فمثلًا في باب العين الذي عالج فيه الكلمات المشتملة على حرف العين نجده قد سجل الكلمات حسب التقسيم الآتي:
١- الثنائي.
٢- الثلاثي الصحيح.
٣- الثلاثي المعتل.
٤- اللفيف.
٥- الرباعي.
٦- الخماسي.
٧- المعتل.
أما الثنائي فقد قصد به الخليل ما اجتمع فيه حرفان من الحروف الصحيحة، ولو مع تكرار أحدهما في أي موضع فيشمل هذا كلمات قد، قد، قد قد فكلها تعالج في موضع واحد، وأراد بالثلاثي الصحيح ما اجتمع فيه ثلاثة حروف صحيحة على أن تكون من أصول الكلمة أما الثلاثي المعتل، فقصد به ما اجتمع فيه
1 / 17
حرفان صحيحان وحرف واحد من حروف العلة، سواء كان حرف العلة في الأول أو الوسط أو الآخر وبعبارة أخرى يشمل هذا ما عرف عند الصرفيين بالمثال والأجوف والناقص.
وأما بالنسبة للفيف فقصد به ما اجتمع فيه حرفا علة في أي موضع، فيشمل على هذا اللفيف المقرون والمفروق. ومن هنا نعلم أن اسطلاحات أصحاب المعاجم تخالف من بعض الوجوه اصطلاحات الصرفيين.
وأما من حيث الرباعي والخماسي فلم يختلف فيه تعبير الفريقين. أما القسم الأخير وهو المعتل فقد أدخل فيه أصحاب المعاجم الذين اتبعوا طريقة الخليل -إجمالًا- الهمزة بحجة أنها قد تسهل إلى أحد الحروف المعتلة.
رابعًا: عولجت الكلمة ومقلوباتها في موضع واحد فمثلًا نجد الكلمات:
ع ب د، ع د ب، د ب ع، د ع ب، ب ع د، ب د ع كلها يمكن أن تعالج نظريًّا تحت عنوان واحد بقطع النظر عما نطقت به العرب منها فعلًا وعما لم تنطق به، فالنوع الأول سماه الخليل "مستعملًا"، والنوع الثاني سماه "مهملًا" ويعرف هذا التنظيم باسم "التقليبات"، ويمكن الرجوع إلى هذه المفردات مثلًا تحت حرف العين مجموعة "ع د ب"؛ لأن العين أسبق الجميع في الأبجدية الصوتية التي وضعها الجليل تليها الدال ثم الباء.
وجميع من تبع نظام العين سار في التقليب على قاعدة وضع المفردات المأخوذة من أصل ثلاثي واحد تحت الحرف الذي هو أسبقها من حيث المخرج ما عدا ابن دريد الذي اتبع في تقليباته نظام وضع المفردات المتحدة الأصل تحت الحرف الذي هو أسبقها في الأبجدية العادية. فهنا مثلًا نجده وضع تلك المفردات الستة المذكورة سابقًا تحت مجموعة "ب د ع"، فهذا اختلاف فرعي يجعلنا نعتبر ابن دريد صاحب جمهرة اللغة أيضًا من المؤلفين الذين اتبعوا في ترتيبهم نظام كتاب العين.
1 / 18
اللغويون الذين ساروا على نهج الخليل في المشرق:
لقد كان لتأليف كتاب العين صدى كبير بين العلماء اللغويين حتى إنهم حذوا حذوه في تأليف كتبهم على نسق كتاب أستاذهم الخليل، وبعض هذه الكتب أتت عليه يد الزمن، فلم يرد لنا منه إلا ما كان من تعليق، أو وصف موجز في ثنايا الكتب الأخرى. والبعض الآخر أمكن رغم صروف الدهر، ورغم الفتن الكبرى التي انتابت الإمبراطورية الإسلامية في مختلف عصورها، أمكن أن يصل إلى أيدينا، وإن كان أكثرها لا يزال مخطوطًا ينتظر دوره في التحقيق والطبع والنشر.
أما أشهر الكتب التي تعتبر مفقودة فهو:
١- المدخل إلى العين وضعه تلميذ الخليل، النضر بن شميل المتوفى ٢٠٣هـ.
٢- التكملة للخزرجي المتوفى ٣٤٨هـ.
٣- الحواصل لأبي الأزهر البخاري المتوفى ٣٥٠هـ.
٤- الموعب للتياني المتوفى ٤٣٣هـ.
أما أهم المعاجم التي سارت على نظام العين، وبقيت حتى وصلت إلينا فمنها ما وضعه الشرقيون، ومنها ما ألف في الأندلس إبان ازدهار الحضارة الإسلامية في أسبانيا.
أما معاجم المشرق فأهمها:
الجمهرة لابن دريد، وتهذيب اللغة للأزهري.
وأما معاجم المغرب فأهمها:
البارع لأبي علي القالي، ومختصر العين لأبي بكر الزبيدي١، والمحكم لابن سيده.
_________
١ بضم الزاي على صيغة التصغير، وهو خلاف الزبيدي "بفتح الزاي" صاحب تاج العروس.
1 / 19
أولًا- جمهرة ابن دريد:
هذا هو ثاني معجم وصل إلينا بعد كتاب العين من المعاجم التي اتبعت نظام التقليبات.
أما مؤلفه فهو محمد بن الحسين بن دريد البصري. وقد كان أبوه من أعيان التجار في مدينة البصرة. واستطاع أن يؤدب ولده بآداب العصر الذي عاش فيه، وابن دريد كالخليل من أصل عربي جنوبي -وكان ابن دريد مشهورًا بسعة الحفظ، وقوة الذاكرة، فقد روي عنه أنه كانت تقرأ عليه دواوين العرب فيحفظها من أول مرة١. كما قد أخبر هو عن نفسه بأن شيخه كلفه يومًا بحفظ معلقة الحارث بن حلزة حتى يرجع من غدائه، فلما رجع الشيخ وجد التلميذ قد حفظ الديوان بأجمعه. وقد أمكنه أن يستغل ذاكرته في ملء كتبه بالألفاظ الغريبة خصوصًا ما يعرف باسم النوادر، وقد ظهر هذا جليًّا في مؤلفيه "كتاب الاشتقاق وكتاب الملاحن".
كتاب "الاشتقاق":
اهتم ابن دريد في هذا الكتاب بعقد الصلة بين الاسم العلم، وبين ما يشابهه مادة من الصفات أو الأفعال. وقد أداه شغفه بالاشتقاق إلى أن يفترض أن الأعلام كلها منقولة، وأن لها دلالات أخرى بجانب دلالتها على مسمياتها. فمن أمثلة ذلك قوله٢ "الحتات بن يزيد: حتات فعال من قولهم: حتتُّ الورق عن الشجر إذا نفضته، ويقال: فرس حتيت أي سريع".
_________
١ بغية الوعاة ص٣١.
٢ الاشتقاق ص١٤٨.
1 / 20
كتاب الملاهي:
وهذا الكتاب له صلة بعلم الفقه إذا عقد فيه فصولًا كثيرة عما يعرفه الفقهاء باسم الحيل. فكان الرجل إذا حلف يمينًا ألا يفعل شيئًا معينًا وهو يريد أن يفعله، فإن ذلك الشيء الذي حلف عليه -وله معان كثيرة في نظر ابن دريد- يخرج الشخص من دائرة اللحن إذا ادعى أنه لم يقصد المعنى المتعارف بل قصد إلى معنى آخر من معاني ذلك اللفظ، والذي يعنينا هنا إنما هو معجم الجمهرة الذي سار فيه ابن دريد على الأسس الرئيسية التي بني عليها كتاب العين، إذ أنه التزم فيه من بين ما التزم التقسيم الكمي للكلمة، فشرح الثنائي فالثلاثى وهكذا كما أنه التزم أيضًا نظام التقليبات، فوضع كل الصيغ الست الممكن تفرعها من اجتماع ثلاثة أحرف في موضع واحد.
وقد خالف ابن دريد الخليل في النظام الأبجدي فلم يتبع ترتيب الحروف بحسب مخارجها بل رتبها بحسب الترتيب العادي. فمثلًا المجموعة التي تتألف من حروف "د ع ف" نحو كلمة "قعذ وعقد" نجدها في كتاب العين تحت حرف "ع"؛ لأنها أسبق الثلاثة مخرجًا، ونجد أن الخليل وضع المجموعة كلها تحت الأصل "ع ق د"، أما ابن دريد فقد وضعها تحت حرف "د" إذ هو أسبق الثلاث في الأبجدية العادية.
ونجد في العناوين الفرعية التي وضعها ابن دريد -كما كنا نتوقع- اختلافات، وتفصيلات حينما نقارن بين الجمهرة والعين، فمثلًا نجد ابن ديد رغم اتباعه طريقة النقليات قد أدخل بعض التعديل في ترتيب الثنائي، فهو لم يدمج كل الكلمات التي يدخل في تركيبها حرفان صحيحان فيضعها في موضع واحد. بل إنه فضل في ذلك فذكر الثنائي غير المضاعف وحده، ثم الثنائي المشدد الآخر أو ما يسميه الصرفيون بالثلاثي المضاعف مثل دق، ثم ذكر الثنائي الذي كرر
1 / 21
فيه المقطع مرتين أو ما يسميه الصرفيون الرباعي المضاعف.
أما في المعتل فإنه لم يفصل بينه وبين الصحيح كلية وكذلك لم يدمجه فيه كلية، فنجده قد عقد فصولًا خاصة في بعض الأحيان لما يعرف عنه الصرفيين بالأجوف كما أنه لم يلتزم طريقة واحدة بالنسبة لحرف الهمزة، فلم يعتبرها من حروف العلة كلية كما فعل متقدمو اللغويين، ولا من الحروف الصحيحة كلية كما فعل المتأخرون فمثلًا ذكر في باب الثنائي الأصول: أب، أت، أث، إلخ. وعندما جاوز الثنائي إلى غيره أغفل ذكر الهمزة كحرف صحيح.
وكان ينبغي على ابن دريد -حيث اتبع نظام التقليبات أن يسير على ترتيب أبجدية الخليل الصوتية حيث إن نظام التقليبات مبني على أساس صوتي، إذ يعرف به المستعمل من المهمل بواسطة القوانين الصوتية التي يخضع لها تأليف الحروف في الكلمات العربية.
ومن الغريب أن ابن دريد وضع بعض الكلمات المشتملة على تاء التأنيث تحت ما أصله الهاء مثل: حبة، عفة ولكنه ذكرهما أيضًا مع المجموعين ح ب، ع ف، ويقول المستشرق كرينكو الذي حقق الجمهرة: إن الدافع لابن دريد في ارتكاب هذا هو جهل الناس في عصره فلم يكونوا يستطيعون أن يفرقوا بسهولة بين ما فيه الهاء أصلية وبين ما فيه زائدة للتأنيث، فتعمد وضع الكلمة وشرحها في كلا الموضعين أو أحدهما، ولكنا لا نرى هذا سببًا معقولًا لذلك التجاوز، والانحراف عن عرف اللغويين، ولا يمكن أن يتخذ جهل الناس وسيلة لارتكاب مثل هذا الخطأ.
كما أن ابن دريد جاوز المألوف أيضًا حين ذكر كلمة تبوأ، وما تفرغ منها مثل يتبوأ تحت المجموعة "ب ت + وا ي" مع الكلمات التوب والأبت والبيت. وقد يكون الدافع لهذا الخلط في هذا الموضوع هو ما سبق أن ذكر مع هاء التأنيث.
1 / 22
وإذا قبلنا منه هذا العذر فعلى أنه تطبيق عملي لمبدئه الذي ذكره في المقدمة من أنه سوف لا يلتزم حرفيًّا ترتيب الخليل حتى يمكن للجمهرة من الناس أن ينتفضوا بكتابه١.
أما من ناحية الاشتقاق فنرى ابن دريد قد تعسف أحيانًا في توضيح معاني بعض الكلمات من حيث اشتقاقها، وعلى الأخص في أسماء الأعلام المنقولة التي حاول أن يربط بينها وبين وما نقلت عنه، ولو اضطر إلى التعقيد أحيانًا، ولكنها لا تبلغ مبلغ منهجه في كتاب الاشتقاق.
وهذه الهنات وأمثالها في الجمهرة قد جعلت ابن جني يرى ابن دريد بأنه لم يكن دقيقًا في الاشتقاق اللغوي، ورأى ابن جني٢ فيه أنه قد ارتكب أخطاء كبيرة في الاشتقاق، وأن ابن جني عندما وقعت له إحدى نسخ الجمهرة أراد أن يكتب عليها بعض التعليقات، ولكن كثرة الأخطاء التي لاحظها جعلته يستحيي أن يذكرها لأحد؛ لأن ابن دريد قبل كل شيء في نظر ابن جني لم يكن له دراية كاملة بعلم الصرف الذي هو أساس الاشتقاق، وبالتالي أساس تأليف المعاجم.
وهذا بالطبع مبالغة كبيرة من ابن جني في حق الجمهرة.
ومهما بلغ رأي ابن جني فيه من الصواب، فإن ابن دريد لم يكن ليخلق الكلمات اختلافًا، أو يصنعها صنعًا كما نعته بذلك معاصره الأزهري في تهذيب اللغة إذ قال عنه٣: "وممن رمى بافتعال العربية في زماننا ابن دريد".
وفي آخر الجمهرة نجد بابًا عقده المؤلف لما سماه النوادر، وقد قسمه إلى أبواب بحسب الصيغة كما فعل ابن السكيت في "إصلاح النطق"، وهنا لم يراع ابن
_________
١ مقدمة الجمهرة ص٣.
٢ الخصائص ص١٧٠.
٣ مقدمة التهذيب "مخطوطة".
1 / 23