أحيانًا، عندما يستعمل هذه العبارة، كأنه يستعملها في معرض بحث عام عن حقوق أي مجتمع من المجتمعات وواجباته. فيصبح معنى حب الوطن لديه، أحيانًا، كمعنى العصبية في عقيدة ابن خلدون، أي شعور التضامن الذي يجمع بين أبناء المجتمع الواحد ويشكل أساس القوة الاجتماعية. غير أنه يستعملها، أحيانًا أخرى، بمعنى أضيق وجديد، فيلح، في ضوئه، لا على واجب المواطن السلبي في الخضوع للسلطة، بل على دوره الإيجابي في بناء مجتمع متمدن حقًا، ولا على الواجبات المتبادلة بين أبناء الأمة الإسلامية وحدهم، بل أيضًا على الواجبات المتبادلة بين الذين يعيشون في البلد الواحد. وهكذا يتخذ لديه حب الوطن معنى خاصًا هو الوطنية الإقليمية بالمعنى الحديث، ويصبح الوطن الأم قطب تلك الواجبات التي تجمع، في نظر الفقهاء، ما بين أعضاء الأمة، ومحور ذلك الشعور الطبيعي الذي اعتبره ابن خلدون العنصر الموحد بين الناس الذين تربطهم روابط الدم.
ويمكن ملاحظة الانتقال إلى هذا النوع من التفكير في مقطع من «مناهج الألباب»، حيث يتحدث الطهطاوي عن الأخوة في الدين، فيروي الحديث: «المسلم أخ للمسلم»، ثم يضيف:
«المؤمن أخ المؤمن ... فجميع ما يجب على المؤمن لأخيه المؤمن يجب على أعضاء الوطن في حقوق بعضهم على بعض لما بينهم من الأخوة الوطنية فضلًا عن الأخوة الدينية. فيجب أدبًا أن يجمعهم وطن واحد التعاون على تحسين الوطن وتكميل نظامه فيما يخص شرف الوطن وإعظامه وغنائه وثروته» (٢٧).
ما هي هذه الجماعة الطبيعية، هذا الوطن الذي يشير إليه الطهطاوي؟ إنه الوطن المصري، لا الوطن العربي. نعم، إن ظل فكرة العروبة، لا زال يلوح في ذهنه، لكن ذلك لم يكن إلا من رواسب تفكيره القديم لا الجديد. فهو يثني على الدور الذي لعبه العرب في تاريخ الإسلام ويدافع عنه (٢٨)، غير أنه يرمي، عندما يتحدث عن حب الوطن، لا إلى ذلك الشعور المشترك بين
1 / 103