ولكن هل صحيح أن الفن عامة - والموسيقى خاصة - نشاط نفسي تخمد فيه الإرادة الفردية؟ إنه ليبدو - لمن يتأمل هذه المسألة بمزيد من الدقة - أن الفن يقوي - أحيانا - شعور المرء بشخصه وبإرادته، وليس صحيحا أن الفن في كل الأحوال ينسينا فرديتنا بحيث نصبح في حالة تأمل لا صلة له بالإرادة الفردية، والأهم من ذلك أن موضوع الفن نفسه لا يفقد دائما فرديته في حالة التأمل أو الخلق الفني؛ فالفنان لا ينظر في موضوعه إلى «المثال الأفلاطوني»، بل إنه في معظم الأحيان يتجه إلى تأمل هذا الموضوع من حيث هو فردي محدد، ونستطيع أن نقول إن صفة الفردية المحددة هي التي تميز موضوع الفن عن موضوع العلم، الذي لا يتناول من الأشياء إلا أوجهها العامة المشتركة بين كل الأفراد، وإذن فمن المشكوك فيه أن يكون شوبنهور قد أصاب حين وصف موضوع الفن بأنه موضوع تنتزع فرديته ... وإنما العكس هو الذي يبدو صحيحا؛ لأن عين الفنان الفاحصة هي التي تضفي الفردية على موضوعات لا نلاحظها في حياتنا المعتادة، أو نكتفي بالنظر إليها على أنها مجرد أمثلة لنمط واحد متكرر، وربما كانت أهم صفات الفنان هي قدرته هذه على أن يكتشف ما هو منفرد - لا يتكرر - في كل شيء يتخذه موضوعا لفنه. •••
ولنلاحظ - بعد هذا - أن شوبنهور يحدد العلاقة بين الفن والحياة بطريقة قد لا ترضي الكثيرين، فهل صحيح أن الفن وسيلة لتحرير الإنسان من إرادة الحياة؟ الواقع أن كثيرا من المفكرين والفنانين يأبون - بناء على تجاربهم الخاصة - أن يربطوا بين الفن وبين التخلص من الرغبات والمشاعر الحية، وهذه في الواقع هي نقطة بداية تفكير «نيتشه» في المشكلة الفنية؛ فالفن عنده ليس على الإطلاق وسيلة لإماتة إرادة الحياة، بل إنه هو في الواقع النشاط الذي يؤكد الحياة ويعليها ويقف منها موقفا إيجابيا، والنشاط الخلاق في الفن هو من أبرز مظاهر تأكيد إرادة الحياة في الإنسان، والأفكار الفنية لا ترتبط بعالم فوق المحسوس، وإنما هي من صميم هذا العالم، وهي لا تفهم إلا إذا ربطت بهذه الحياة وبهذه الأرض.
ولكي يعبر نيتشه عن آرائه هذه تعبيرا أوضح، وضع في كتابه المبكر «ميلاد المأساة من روح الموسيقى» تقابلا أساسيا بين نوعين من الفن، أطلق على كل منهما اسم إله من آلهة اليونان، هما الفن الأبولوني والفن الديونيزي، أما الأول فهو الفن الذي يظهر الموضوع فيه محدد المعالم، ويتميز بالتناسق والوضوح والشفافية، وتكون الحالة النفسية السائدة فيه - سواء عند الفنان الخالق وعند المشاهد المتذوق لهذا الفن - هي حالة التأمل والتعبير الهادئ، أما الثاني فيتسم موضوعه بشيء من الغموض، وقد يفتقر إلى التناسق ووضوح النسب، ولكن الحالة المصاحبة له تكون حالة من النشوة والسكرة، والشعور بزوال كل الحواجز، وبأن المرء قد اتحد - بطريقة شبه صوفية - مع الماهية الباطنة للعالم، وعلى حين أننا في النوع الأول نقف من الحياة موقف المتأمل المشاهد، فإنا من النوع الثاني نندمج في الحياة اندماجا كليا، ونصبح وإياها شيئا واحدا، ومن أمثلة النوع الأول - الأبولوني الهادئ من الفن - التصوير والنحت، أما الموسيقى فهي خير ما يعبر عن الفن الديونيزي؛ إذ لا يعود موقفنا فيها هو موقف التأمل، وإنما يصبح موقف الاندماج التام في الأنغام، وفيما تكشفه لنا من ماهية باطنة للعالم.
ولا شك في أن هذا التقسيم متأثر بتفرقة شوبنهور بين الموسيقى وبين الفنون الأخرى، على النحو الذي عرضناه من قبل، ومع ذلك فينبغي ألا ننسى أن نيتشه كان أكثر اتساقا مع نفسه من شوبنهور، وذلك حين أنكر تماما أن يكون الفن أداة للهروب من العالم أو للتحرر من أعبائه، وربط - على أقوى نحو - بين الفن وبين تأكيد إرادة الحياة، ولقد كان هذا الاختلاف ضروريا بين فيلسوفين يتخذ أحدهما موقفا مثاليا، وينكر عالم المحسوس بوصفه عالما للظواهر الخداعة التي ينبغي الفرار منها والزهد فيها، ويؤكد الآخر أن هذا العالم هو الوحيد الذي نعرفه، ويمجد المحسوسات ويرى في الفن وسيلة لتأكيدها لا لتحقيرها، ومظهرا من مظاهر إعلاء الحياة لا الهروب منها.
وعلى أية حال فإن نيتشه - رغم عمق تجاربه الفنية، ولا سيما الموسيقية منها - لم يلتزم هذا الموقف من الفن إلى النهاية؛ ففي وسعنا أن نلمح في صراعه الأخير مع فاجنر علامات صراع آخر بينه وبين الفن ذاته، لا كما يتمثل في فاجنر فحسب، أي إن من الممكن القول إن شخصية فاجنر - التي جمعت في ذاتها أوسع وأعمق ما وصلت إليه الفنون في عصرها - هي تلخيص لأقصى ما يستطيع الفن أن يقوم به من أجل العلو بالإنسان، ومن هنا فإن نقد نيتشه المرير لفاجنر - في الفترة الأخيرة من حياته - إنما هو تعبير عن الصراع بين روح البحث عن الحقيقة - التي كانت طاغية لديه - وبين الفن الذي يعد مظهرا من مظاهر الخداع والهروب من مواجهة الواقع. وهكذا يتضح لنا أن نيتشه قد عاد آخر الأمر - بمعنى ما - إلى موقف شوبنهور من الفن، من حيث هو أداة للهروب من الحياة، ولكنه - على عكس شوبنهور - لم يمتدح هذه الصفة في الفن، وإنما حمل عليه وعلى أعظم ممثليه حملة شعواء، رغم عمق شعوره الباطن نحوهما، وذلك إخلاصا منه لروح الحقيقة، وتمسكا منه بهذه الحياة، التي حرص على قبولها وتأكيدها بكل عناصرها، وبكل ما فيها من عناصر مقبولة أو منفرة.
النظرية التعبيرية عند كروتشه
في وسعنا جميعا أن نميز بين طريقتين من طرق معرفتنا للأشياء: طريقة المعرفة المباشرة، التي تكون أشبه بومضة سريعة ندرك فيها الموضوع كاملا، دون حاجة إلى جهد أو تفكير في علاقات الموضوع بغيره، وطريقة المعرفة التدريجية التي نربط فيها الموضوعات بعضها ببعض لنحكم على كل منها من خلال علاقاته بالآخرين، أما المعرفة الأولى فتسمى عند الفلاسفة بالمعرفة الحدسية، والثانية تسمى بالمعرفة العقلية أو المنطقية، والفن عند كروتشه ينتمي إلى النوع الأول؛ فكل حدس مباشر - ينفذ إلى الموضوع الفردي ويتغلغل فيه - ينطوي في ذاته على بادرة القدرة الفنية، وليس الفارق بين الفنان وغير الفنان فارقا في النوع، وإنما الفنان شخص لديه قدرة أعظم - من الوجهة الكمية - على التعبير عن أنواع معينة من الموضوعات التي يدركها بهذا الحدس، ويؤكد كروتشه أننا لا نستطيع أن ندرك طبيعة الشعور الباطن الذي ينتابنا إلا عندما يكون في وسعنا التعبير عنه، كما لا يمكن أن يكون لدينا حدس بمنظر طبيعي إلا إذا كانت تفاصيل هذا المنظر واضحة في أذهاننا، بحيث نستطيع أن نعبر عنه بوضوح لمن يطلب إلينا ذلك، وبالاختصار: فمعرفتنا تظل غامضة مبهمة حتى نعبر عنها؛ فالفن إذن في أساسه تعبير.
والفارق الوحيد - في نظر كروتشه - بين الفنان أو العبقري وبين الإنسان العادي، هو أن للأول قدرة أعظم على التعبير عما يدركه بالحدس، ولكن هذه القدرة موجودة في الوقت ذاته لدى الجميع، وإنما بدرجات أقل، صحيح أننا نقول عن الفنان إنه يكشف لنا أنفسنا، ولكن كيف يتسنى له ذلك لو لم تكن طبيعة خياله وطبيعة خيالنا واحدة، ولو لم يكن الفارق بين الطبيعتين إلا فارقا في الدرجة فحسب؟ من الواضح أن القصيدة الشعرية - مثلا - لا تؤثر في إلا إذا كانت لدي أحاسيس مماثلة لتلك التي كانت لدى مؤلفها، بحيث أهتدي في هذه القصيدة إلى شيء أحس به في نفسي فعلا، وبهذا المعنى أقول إنها عرفتني نفسي أو كشفتها لي، ولو لم تكن قد مرت بنا في حياتنا لحظات مختلفة شعرنا فيها بإحساسات مشابهة لإحساسات هاملت أو ماكبث، لما أحسسنا بإعجاب حقيقي نحو هاتين الشخصيتين، ولكان الشعر الذي يتحدث عنهما مجرد كلمات لا تعني بالنسبة إلينا شيئا.
ولكن علينا أن نحذر فهم فكرة التعبير هذه بأنها تعني أن العمل الأساسي للفنان هو أن ينقل مشاعره للآخرين؛ فهذا المعنى أبعد الأمور عن تفكير كروتشه، وكل ما يود أن يقوله هو أن الفنان يعبر عن أحاسيس باطنة، ويطلق هذه الأحاسيس من عقالها في عملها الفني، ويتحرر منها بمعنى ما في مجهوده التعبيري، وعند هذه المرحلة تنتهي مهمة الفنان، أما من يتذوقون هذا العمل الفني فإنهم لما كانوا يمرون أيضا بأحاسيس مماثلة، ففي وسعهم أن يقدروا هذا العمل ويستمتعوا به جماليا، دون أن يكون الفنان الخالق قد استهدف بعمله متعتهم؛ ذلك لأن عمل الفنان يتوقف ويكتمل - كما قلنا - عند مرحلة التعبير عن انطباعاته الخاصة؛ ففي اللحظة التي يكون فيها الفنان - في داخله - صورة حية لشكل أو لتمثال أو يهتدي إلى لحن موسيقى، يكون التعبير قد تم واكتمل، وهو ليس في حاجة إلى أكثر من ذلك، وحتى الصورة الخارجية التي يتخذها التعبير لا تعد ضرورية على الإطلاق، أعني أن عزف اللحن الذي اهتدى إليه الفنان، أو إمساك ريشة الرسم أو القلم لتدوين التعبير الداخلي بصورة خارجية يدركها الآخرون، كل هذا يعد إضافة إلى العمل الفني الأصلي، وهي إضافة تنتمي إلى المجال العملي، ولا شأن لها بالمجال الجمالي في ذاته، ومن هنا كان كروتشه يرفض التفرقة بين التعبير الداخلي والتعبير الخارجي؛ إذ إن كل عمل فني هو تعبير «داخلي» على الدوام، وما نسميه بالعمل الخارجي ليس هو العمل الفني ذاته.
وبعبارة أخرى فالفن نشاط روحي صرف، وترجمته أو نقله إلى مجال الأشياء الخارجية هو عمل ثانوي يضاف إلى الجهد الروحي الحقيقي، الذي هو التعبير الفني الأصيل، ولو حالت الظروف - على أي نحو - بين الفنان وبين نقل فنه إلى الآخرين أو التعبير عنه بصورة يدركها الجميع، فإن هذا لا ينقص من تجربته الجمالية شيئا، ما دامت هذه التجربة قد عبرت عن نفسها - في داخله - تعبيرا باطنا كافيا، ونقلت مشاعره وانطباعاته الغامضة إلى صورة محددة يستطيع هو ذاته أن يتبين معالمها في داخله بوضوح.
صفحة غير معروفة