أما طبيعة هذا النظام الذي يستطيع الذهن أن يضفيه على تطور التاريخ الفلسفي من خلال دراسته لتفاصيله، والذي يحررنا بالتالي من الوقوع في براثن النقيضة السابقة، فأحسب أنها موضوع له من الأهمية ما يجعله جديرا بمقال قائم بذاته.
حول فكرة الاتصال في تاريخ الفلسفة1
يسود رأي واسع الانتشار، يذهب إلى أن صفة الانفصال هي المميزة لحركة الفكر الفلسفي، وأن المذهب الفلسفي انبثاق فجائي ظهر في ذهن عبقري بفضل قدراته العقلية الخاصة، وكان من الممكن أن يظهر - دون أي تغيير كبير - لو أن هذا الذهن قد قدر له أن يحيا قبل الفترة التي عاشها فعلا أو بعدها بزمان طويل.
تلك النظرة الفردية إلى الفلسفة جزء من منظور فردي أوسع وأعم بكثير؛ فهي في واقع الأمر مظهر من مظاهر نظرة إلى الحياة تجعل الظاهرة الفردية - في تميزها واختلافها وطابعها الفريد - أساسا لتفسير كل شيء، وفي مثل هذه النظرة إلى الحياة يكون التاريخ بأسره - لا تاريخ الفلسفة وحدها - مجموعة من الحوادث المتلاحقة التي يقوم بها «أفراد» ممتازون، ويسود الانفصال المطلق كل ظواهر الحياة الإنسانية، ويكون الزمان الذي تجري خلاله وقائع التاريخ زمانا آليا بحتا، أي سلسلة متعاقبة من اللحظات، وليس على الإطلاق خطا متصلا يمهد أوله لآخره، ولا يفهم اللاحق فيه إلا على أساس السابق.
وجدير بنا أن نشير إلى صفة مميزة للتاريخ الفلسفي، تجعل إدراك عناصر الانتظام والاتصال فيه مهمة شاقة إلى أبعد حد؛ فمن المعترف به أن العلوم الإنسانية بأسرها تعاني من هذه الصعوبة، نظرا إلى تعقد موضوعها وخفائه وصعوبة التزام الموضوعية الكاملة فيه، ولكن هذه المشكلة تزداد تعقيدا في حالة الفلسفة؛ لأن العرض التاريخي لها هو - إلى حد بعيد - «إعادة خلق»؛ فالمشكلات القديمة لا تزال حية لم تندثر، ولا توجد في الفلسفة منذ ظهورها أيام اليونان حتى اليوم مشكلة يمكن أن توصف بأنها ذات أهمية «تاريخية» فحسب، بل إن أبعد المشكلات عن طريقة تفكيرنا الراهنة لا تخلو من عناصر تثير تفكيرنا وتدفعه إلى أخذها مأخذ الجد، ومن هنا لم يكن مؤرخ الفلسفة مجرد راوية يسرد أحداثا لم تعد لها صلة به، بل هو - بمعنى معين - أقرب إلى الشاعر الذي يتمثل مشاهداته ومعلوماته ويعيد خلقها من جديد، وحين تكون إعادة الخلق هذه ضرورة لازمة، لا يعود هناك مفر من أن تتعدد نظراتنا إلى تاريخ الفلسفة وتصوراتنا له، وبعبارة أخرى: فحتى لو لم يكن تاريخ الفلسفة سلسلة من الانبثاقات الفكرية والمنفصلة في أذهان صانعيه، فإنه يغدو على هذا النحو في أذهان رواته وكتابه وشارحيه، وحتى لو كانت طريقة صنع تاريخ الفلسفة متميزة بالاتصال والانتظام، فإن طريقة عرض هذا التاريخ لا يمكن أن تخلو من عنصر الانفصال والعشوائية.
ولنضف إلى العوامل السابقة عاملا آخر ربما كان أهم أسباب انتشار النظرة الفردية العشوائية إلى تاريخ الفلسفة؛ ذلك لأن الكثيرين يتصورون أنهم يحطون من قدر الفلسفة والفلاسفة إذا تصوروا تاريخها على أنه خط متصل يتسم بأي نوع من النظام. إن الفلاسفة هم عباقرة العقل الإنساني، والعبقري لا بد أن يكون متفردا، لا يخضع لقانون حتمي يتحكم في الأحداث ولا يدعها تتحكم فيه، وأي نوع من «المنطق» المنتظم في مسار التاريخ الفلسفي معناه أننا أخضعنا هذه الظاهرة العبقرية لقاعدة خارجة عنها، وأننا بالتالي قد انتقصنا من قدرها، وربما كان أصحاب هذا الرأي على استعداد لأن ينكروا أهمية دور العبقري الفرد في التاريخ العام، أما تاريخ الفلسفة فإنهم لا يتصورونه إلا تاريخ عقول فذة جبارة يصنع كل منها لتفكيره منطقه الخاص، ولكنه يتحدى كل منطق خارجي يفرض على تفكيره مسارا معينا ويحصره في إطار لا يفهم إلا من خلاله.
على أن مثل هذا الفهم ينطوي على قدر غير قليل من السذاجة؛ إذ يفترض أن عبقرية الفيلسوف لا تتجلى على حقيقتها إلا حين يكون تفكيره ظاهرة فريدة منعزلة عما يسبقها وما يليها، وحسبنا أن نجري مقارنة بسيطة مع ميدان آخر غير الفلسفة لندرك مدى خطأ هذا التصور؛ فمن المسلم به أن بيتهوفن كان أعظم عباقرة الفن الموسيقي، وأنه في هذا المجال يعد أصدق ممثل للظاهرة الفردية التي يستحيل أن تتكرر، ومع ذلك فمن المسلم به - بنفس المقدار - أن بيتهوفن يمثل في تاريخ الموسيقى مرحلة محددة لا تفهم إلا في ضوء ما سبقها وما تلاها، ولا يمكن أن ينقص من عبقريته على الإطلاق إدراكنا لموقعه التاريخي، وفهمنا لفنه على أنه مرحلة في تاريخ متصل يتسم مجراه بنوع من الانتظام.
ولا بد أن تؤدي النظرة الموضوعية - التي تعلو على الرومانتيكية الساذجة عند أصحاب نظرية «العبقرية الفردية» - إلى الاعتراف بنوع مماثل من الانتظام والاتصال في تاريخ الفلسفة، وإن كان من المستحيل أن نتصور مثل هذا الانتظام على أنه يسير في خط واحد مستقيم متصاعد تدريجيا كما هو الحال في تطور العلم.
فما هو إذن مصدر هذا الانتظام الذي نعترف بأنه شديد التعقيد إلى حد قد يختفي معه في كثير من الأحيان عن الأعين تماما؟ إن مصدره هو الانتظام في تدرج حياة الإنسان نفسها، واستحالة فصل التاريخ الفلسفي عن التاريخ الإنساني العام، وهكذا يتعين علينا في هذه المرحلة أن نصحح ما يقال عن وجود تقابل شديد قاطع بين طريقة تطور الفلسفة وطريقة تطور العلوم الدقيقة؛ فهناك بالفعل اختلاف كبير بين الطريقتين، ولكن هذا الاختلاف لا يصل إلى حد الانفصال أو التضاد التام، ولو اعترفنا بهذا الانفصال لكان في ذلك تفتيت لوحدة العقل البشري، الذي يستحيل أن يسير تبعا لمنهج دقيق في بعض ميادينه، ويسير دون أي منهج على الإطلاق في بعضها الآخر، فلا بد من الاعتراف بوحدة في الظواهر البشرية، ولا بد من تأكيد التأثير المتبادل بين هذه الظواهر، ولو كان العلم هو وحده الذي يسير بانتظام، والفلسفة لا تتبع أي نظام؛ لكان معنى ذلك أننا لا نعترف بوجود أي تأثير للعلم في الفلسفة أو للفلسفة في العلم، وهذا خطأ يمكن اكتشافه بسهولة إذا تتبع المرء تاريخ العلاقة بين هذين الميدانين، وعلى ذلك فأصل الإشكال هو الاعتقاد بإمكان قيام نوع من الفلسفة يظهر تلقائيا من العقل البشري دون أي تأثر بظروف عصره، وبإمكان انفصال الفلسفة عن سائر ميادين نشاط هذا العقل، وهو اعتقاد باطل كل البطلان؛ لأن الذهن البشري وحدة لا تنفصم، وعلى أية حال فإن كشف التطور الفلسفي - إذا كان أمرا شاقا داخل نطاق الفلسفة ذاتها - يغدو أيسر كثيرا إذا تأملناه من خلال التطور العام للتاريخ البشري في مختلف مظاهره الحضارية والثقافية، وعندئذ يختفي التضاد الشديد بين طريقة تطور الفلسفة وطريقة تطور العلوم، ويكون من الواجب اتباع منهج مشابه في الحالتين، مع اعترافنا بأن كشف مسار هذا التطور في حالة الفلسفة أصعب كثيرا منه في الحالات الأخرى.
الآراء المختلفة في طبيعة التطور الفلسفي
صفحة غير معروفة