ولكن إذا كان موقف من ينتحل لنفسه جهد الآخرين أمرا مؤسفا، فإن الأكثر منه مدعاة للأسف هو موقف المسئولين من أمثال هؤلاء الأشخاص؛ ففي معظم الأحيان يكون أول ما يتبادر إلى أذهان المسئولين هو «ستر الفضيحة» وتجنب إثارة الضجة بأي ثمن، ويتحقق ذلك بإيجاد أي مبرر مفتعل يخفف من وطأة الخطأ الذي ارتكب، ثم تبرئة مرتكبه أو توجيه لوم شكلي إليه، وبذلك يتحقق الهدف الأكبر، وهو التكتم على الفضائح العلمية، أما علاج الظاهرة ذاتها فلا يفكر فيه أحد.
وأبسط علاج في نظري هو الردع الصارم؛ فالتدليل المفرط لمن يرتكب «فعلا فاضحا» في مجال العلم لن يؤدي إلا إلى استفحال هذه الظاهرة والتشجيع على تكرارها، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على أن ضمير من يصدرون الحكم على هذه الحالات لا يزيد في يقظته كثيرا عن ضمير من يحكم هؤلاء عليهم، ولا أظن أنني أقرر شيئا غريبا أو غير مألوف إذا قلت إن أبسط رد فعل على هذه الفضائح ينبغي أن يكون استبعاد من يثبت عليه ارتكابها من أية هيئة علمية استبعادا لا رجعة فيه، ولو كان هذا مسلكنا منذ البداية لأصبح نطاق هذه الظاهرة في وقتنا الحالي أضيق بكثير مما هي عليه الآن.
ومن الطريف أن دفاع مرتكبي هذه الفضائح العلمية عن أنفسهم يتخذ في معظم الأحيان صبغة المغالطة المعروفة التي تشير إلى دوافع من يهاجمونهم، بدلا من أن ينصب على موضوع الهجوم ذاته؛ ففي كل حالة تثار فيها فضيحة كهذه، يؤكد مرتكبها - في معرض الدفاع عن نفسه - أن من أثارها شخص مغرض حقود حسود ... إلخ، وهذه الصفات قد تكون كلها صحيحة، وقد لا تكون دوافع الهجوم علمية على الإطلاق، ولكن هذا كله لا يؤثر في قليل أو كثير على طبيعة الجرم الذي ارتكب في حق العلم؛ فالعبرة إنما هي بمضمون الواقعة ذاتها، لا بدوافعها أو الظروف المحيطة بها.
هذه الملاحظة تؤدي بنا إلى مظهر آخر من مظاهر افتقارنا إلى التقاليد العلمية، وهو الخلط بين الحقائق والأشخاص؛ ففي أكثر مناقشاتنا جدية ننسى - أو نتعمد أن ننسى - الحقائق الرئيسية في الموضوع، ونخلط بين الوقائع الموضوعية وبين الصفات الذاتية للأشخاص، وبدلا من أن نناقش الرأي في ذاته، نتهرب من المناقشة - عمدا أو عن غير عمد - بالطعن في شخصية صاحب الرأي، أو بالتشكيك في دوافعه، وما أكثر ما نستخدم في جدلنا العلمي عبارة «إذا كان بيتك من زجاج فلا تقذف الناس بالحجارة» أو ما يشابهها، لكي نتخلص بواسطتها من المناقشة الموضوعية للآراء، ونستعيض عنها بالمهاترات الشخصية، أو - على أحسن الفروض - بمحاولة إثبات أن الخصم ذاته ليس أفضل منا، وكأن خطأ الآخرين يعفينا من أي خطأ ثبت أننا ارتكبناه.
ولكن لعل أوضح مظاهر افتقارنا إلى الأخلاق العلمية موقفنا من النقد العلمي؛ ففي الأوساط العلمية بجميع بلاد العالم المتمدين، استقر مفهوم النقد العلمي منذ عهد بعيد، وأصبح جزءا من الحياة العقلية لهذه البلاد يستحيل الاستغناء عنه، ولا يمكن لأحد أن يجد فيه مسبة أو عارا، بل إن العلماء والمفكرين أنفسهم يرحبون بالنقد ويطلبون إلى الآخرين بإلحاح أن ينقدوهم؛ إذ إن مثل هذا النقد هو الوسيلة الوحيدة لاختبار الأثر الذي يحدثه العمل العلمي في عقول الآخرين، وهو معيار نجاح العمل أو إخفاقه، والنقد الموضوعي - سواء أكان مدحا أم ذما - له في الحالتين فائدته؛ فهو يحفز الناقد على التفكير بإمعان فيما يقرأ، ويخلصه من داء القراءة السطحية المتعجلة، أما ذلك الذي يوجه إليه النقد فسوف يعلم - إذا تلقى المديح - أنه سار في طريق الصواب، وإذا عيب عليه عمله - كله أو بعضه - أدرك أن عليه مراجعة خطواته، وبذلك يتدارك خطأه قبل فوات الأوان، ويغير خط سيره قبل أن يتمادى في اتجاه البطلان.
النقد الموضوعي إذن جزء لا يتجزأ من الحياة العقلية في البلاد ذات التقاليد العلمية الراسخة، أما في بلادنا فهو - على مستوى الأشخاص - لا يقل خطورة عن إعلان الحرب بين الدول، إنه يؤخذ على أنه مظهر خصومة ودليل على العداء، لا على أنه سعي متبادل إلى بلوغ حقيقة تعلو على الأشخاص، ولا يستطيع الفرد الواحد - أيا كان - أن يبلغها بجهوده الخاصة.
ولكي نحلل موقفنا من النقد ينبغي أن نتأمله في ضوء أطرافه الثلاثة: الناقد والمنتقد والجمهور الذي يحكم بينهما، وسوف يظهر لنا بجلاء أن هؤلاء الأطراف الثلاثة يسيئون - في معظم الأحيان - فهم مهمة النقد، ويفتقرون بذلك إلى عنصر أساسي من عناصر الأخلاق العلمية.
فالناقد كثيرا ما يكتب لإرضاء أغراض شخصية لا توخيا لأغراض موضوعية، ودليل ذلك أن أبحاثنا ومقالاتنا النقدية تحتشد عادة بالألفاظ والتعبيرات التي تبعد كل البعد عن الروح العلمية السليمة، فلا يكاد الناقد يلتقط خطأ حتى يسارع إلى الصياح والتهليل، ويتعجب من «جهل الكاتب» و«غروره» وربما «غبائه» و«افتقاره إلى الفهم السليم»، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تبعد بالنقد عن وظيفته الأصلية، وتحوله إلى مباراة في السباب، ويستطيع المرء أن يقول مطمئنا إن النقد الحاد اللهجة المشحون بالانفعالات الصبيانية أكثر شيوعا من كتاباتنا من النقد الهادئ الذي لا يستهدف إلا إظهار الحقيقة وحدها، وكثيرا ما يتخذ النقد ذريعة لشفاء الغليل من عدو، أو إساءة سمعة منافس، أو الانتقام من خصم، وفي كل هذه الحالات تنطق سطور النقد ذاته - بما تحفل به من انفعال وتشنج - بأن هدفه إنما هو تصيد الخطأ بطريقة مصطنعة متكلفة، وليس تنبيه المنتقد إلى الصواب.
أما موقف المنتقد فيختلف من النقيض إلى النقيض تبعا لنوع النقد، فإن كان النقد مدحا، تملكه الغرور حتى لو كان هذا المدح من قبيل التملق والنفاق الرخيص، أما إذا كان النقد ذما، فإن أبعد الأمور عن ذهنه هو التفكير الموضوعي في مضمونه النقد. إن جهوده كلها تنصرف عندئذ إلى البحث عن دوافع ذاتية وشخصية لدى الناقد، يتصور أنها هي التي دفعته إلى «تجريحه»، وحتى لو كان النقد موضوعيا خالصا، لا يشوبه أي انفعال، ولا ينطوي على أي لفظ ينم عن السعي إلى التشنيع أو التهويل، فإن المنتقد ينظر إلى الناقد - إذا كان قد كشف له عن أخطاء جسيمة في عمله العلمي - كما لو كان قد ارتكب في حقه جريمة «السب العلني»، وينسى تماما مضمون النقد، ويغفل تماما ما قد يكون فيه من حقائق موضوعية، وينظر إلى الأمر كله من وجهة النظر الشخصية الضيقة.
وحين يتخذ رد الفعل مثل هذا الطابع، تضيع الحقيقة التي استهدف النقد بلوغها في غمار الانفعالات الحامية، ويغمض المنتقد عينيه عن الأخطاء التي وقع فيها، ولا يعود له من هدف سوى رد كرامته التي يتصور أنها أهينت، وتتجسم أمام عينيه انتقادات الآخرين كما لو كانت جرائم لا تغتفر، بينما ينسى أخطاءه الخاصة أو يتناساها وسط ضباب الغضب العارم، بل إن هذا الغضب يتخذ في بعض الحالات المتطرفة طابع السلوك الدفاعي اللاشعوري؛ إذ يصرف ذهن المنتقد عن مظاهر النقص التي كشف عنها النقد، ويحوله إلى اتجاهات لا يضطر المرء فيها إلى توجيه اللوم إلى ذاته، وربما كان الغضب الذي ينصب على «الآخر» في هذه الحالة شكلا لا شعوريا من أشكال الغضب على الذات، والاستياء مما وقعت فيه من أخطاء، أما السعي إلى الارتقاء الذاتي، وإلى اتخاذ الأخطاء الماضية عبرة للمستقبل، وإلى الإفادة إيجابيا من السلبيات التي نبه إليها النقد، فهو آخر ما يخطر ببال من يواجه الانتقادات بهذه الروح العدائية.
صفحة غير معروفة