كل هذه الفئات إذن تمثل اتجاهات في النقد الاشتراكي تفتقر إلى الاكتمال أو النضج بدرجات متفاوتة، والواجب أن يتسع الفكر الاشتراكي لكل نوع من النقد ما دام هذا النقد مخلصا لا يصدر بدافع الاصطياد المتعمد للأخطاء، بل إن قوة الفكر الاشتراكي وحيويته - في هذه الفترة التي نمر بها من تاريخ العالم - تتوقفان على مدى قدرته على مراجعة ذاته، ومقارنة أسسه النظرية بطبيعة الواقع الذي أصبحت هذه الأسس تطبق عليه، وتعديل هذه الأسس على النحو الذي يقطع على الخصم طريق استغلال أي تناقض بين الفكر النظري والممارسة العملية. •••
في ضوء هذا المبدأ العام - أعني الاعتراف بأن المراجعة المستمرة ضرورة حيوية للفكر الاشتراكي، بل هي الموقف الذي يتمشى بالفعل مع أسس هذا الفكر - يصبح من واجب الكاتب ألا يتردد في الإدلاء برأيه فيما يرى أنه تعديلات لا بد من إدخالها على الفكر الاشتراكي حتى يكون أقدر على مواجهة الخصومة العنيدة للفكر الرأسمالي، وعلى أن يحقق إيجابيا رسالته الإنسانية الرفيعة.
ومن المحال أن يتسع مقال كهذا - بطبيعة الحال - لأية مناقشة مفصلة لموضوع على هذا القدر من الخطورة، فضلا عن أن هذه المسألة يمكن - بمعنى معين - أن تعد المحور الذي يدور حوله كل ما يصدر من دراسات عن الاشتراكية، ولن يستطيع المرء في مثل هذا الحيز أن يضع رءوسا لمسائل تستحق أن تكون موضوعا لتفكير أكثر تعمقا وتفصيلا؛ فالنقاط التي سنشير إليها في هذا المقال لا تعدو أن تكون طرحا لأسئلة تحفز على مزيد من التفكير، أما الإجابات ذاتها فإن الزمن والتجربة والممارسة هي الكفيلة بأن تضع لها أفضل صيغة ممكنة.
فكرة الصراع الطبقي
مفهوم الطبقة من المفاهيم الأساسية في التفكير الاشتراكي، والتقسيم الطبقي الثنائي التقليدي - أعني تقسيم المجتمع إلى من يملكون ومن لا يملكون أو المستغلين والمضطهدين - هو واحد من الأسس الكبرى التي يقوم عليها التفسير الاشتراكي لتطور العلاقات الاجتماعية، ولقد كان الفهم التقليدي للطبقات، في النظرية الاشتراكية، فهما مبسطا إلى حد ما، يرتكز على وجود ثنائية تتخذ أشكالا متباينة في مختلف فترات التطور الاقتصادي، ويقوم بين طرفيها تناقض حاد هو الذي يحرك التاريخ، وآخر أشكال هذه الثنائية في العصر الرأسمالي هو التضاد بين الطبقة البورجوازية والبروليتاريا أو الطبقة العاملة، وعلى أساس الصراع بين هاتين الطبقتين في عصرنا هذا تحدد نتيجة الكفاح من أجل تحقيق الاشتراكية.
ولقد ظهر بوضوح - منذ تجربة الثورة الاشتراكية الرائدة في روسيا - أن مفهوم الطبقة هذا يحتاج إلى بعض التعديل؛ إذ إن الثورة ظهرت في بلد لا يمثل العمال فيه نسبة غالبة أو قوة ضاغطة تستطيع بمفردها أن تحمل على أكتافها عبء الثورة، وكان اشتراك العمال والفلاحين في الثورة الروسية مؤديا إلى إدخال تعديل على مفهوم الطبقة، وعلى طبيعة الصراع الطبقي في العصر الحديث، وسميت هذه «المراجعة» المبكرة باسم «النظرية اللينينية» التي أصبحت عنصرا جديدا مضافا إلى النظرية الاشتراكية، وإن كان نجاحها على المستوى العملي، واندماجها في التيار الرئيسي للفكر الاشتراكي، قد حال دون النظر إليها على أنها «مراجعة» بالمعنى السيئ لهذه الكلمة.
على أن التطورات الأخيرة للتجربة الاشتراكية في مختلف أنحاء العالم قد أضفت على مفهوم الطبقة تعقيدا هائلا، بحيث أصبحت الثنائية التقليدية مجرد إطار خارجي عام، توجد في داخله اتجاهات متشابكة ومعقدة يتحتم على الفكر الاشتراكي أن يواجهها ويعمل لها حسابا إذا شاء أن يحتفظ بقدرته على فهم حركة المجتمع الإنساني والتحكم فيها.
فالفكر الاشتراكي التقليدي يرتكز إلى حد بعيد على فكرة وحدة الطبقة العاملة في مختلف أنحاء العالم، ومع ذلك فإن هذه الوحدة بعيدة كل البعد عن التحقق في وقتنا الحالي؛ ذلك لأن الفارق بين مستوى الطبقة العاملة في البلاد الغنية، ونظيرتها في البلاد الفقيرة، يبلغ من الضخامة حدا يحول دون تصور أية وحدة في المصالح بينها، ويجعل من الضروري إعادة النظر في الدعوة إلى اتحاد «عمال العالم» من أجل تحقيق الثورة الاشتراكية.
ففي البلاد الرأسمالية الكبرى، أصبح العمال في مجموعهم على مستوى شبه بورجوازي، بحيث غدا من الصعب التأثير فيهم عن طريق الإشارة إلى حالة الفقر التي تزداد سوءا في ظل النظام الرأسمالي، ومن الواجب أن ننبه - كما قلنا من قبل - إلى أن هذا الارتفاع في مستوى معيشتهم ليس ناجما عن تطور داخلي في النظام الرأسمالي نفسه، أو عن ميزة يتسم بها هذا النظام وتؤدي به إلى رفع مستوى العمال في داخله، بل إنه في واقع الأمر محاولة دفاعية من النظام الرأسمالي لحماية نفسه، وبالتالي فهو نتيجة غير مباشرة للدعوة الاشتراكية ذاتها، ومن ذلك فإن الأمر الواقع - الذي ينبغي على الفكر الاشتراكي أن يواجهه - هو أنه لم يعد من الممكن مخاطبة العامل في الدول الرأسمالية المتقدمة عن طريق تنبيهه إلى حالة البؤس التي يعيش فيها، وبعبارة أخرى فإن شعار «أيها العمال، ليس لديكم ما تفقدونه إلا أغلالكم» لا يمكن أن يكون قوة محركة للعامل الأمريكي أو الألماني الغربي مثلا؛ إذ إن لديه - إلى جانب أغلاله - الكثير مما يخشى أن يفقده، ولا بد للفكر الاشتراكي من أن يبحث عن وسيلة أخرى لمخاطبة مثل هذا العامل.
ومن جهة أخرى، ففي البلاد المتخلفة يمكن أن يؤدي الفقر الشديد وانتشار الجهل والانحلال العام الذي يولده تراكم البؤس جيلا بعد جيل، إلى ضياع قدر كبير من صلابة الطبقة العاملة وإصرارها على الكفاح، بحيث يسهل وقوع العمال أو وقوع الأقلية المتزعمة لهم فريسة للإغراءات والمساومات، وتصبح الطبقة العاملة في عمومها قوة أقرب إلى السلبية، يسهل التسلط عليها وتوجيهها في اتجاهات تتعارض مع مصالحها الحقيقية، وفي هذه الحالة قد يكون من المفيد التفكير في إعطاء دور أكبر للقوى المثقفة، التي يمكن أن يؤدي وعيها وفهمها العام للأمور إلى إكسابها مزيدا من الصلابة في الكفاح من أجل تحقيق الاشتراكية.
صفحة غير معروفة