وعلى ذلك فإن أية نظرة متكاملة إلى الإنسان - أعني نظرة تضم أوجه النشاط الإنساني كلها في وحدة واحدة، ولا تضع بينها حواجز ولا تفرق بين مراتبها - ينبغي أن تدخل الفن والشعر والميتافيزيقا وطقوس العبادة في عالم المعنى، عالم التجارب التي تضفي ثراء على حياة الإنسان، وتوسع أفقه الروحي، وتزيد من فهمه لنفسه وللعالم المحيط به، ولكي يتحقق هذا الهدف، فلزام علينا أن نعيد النظر في فكرة المعنى والدلالة ذاتها، وفي المجال الذي يصح أن يقال إن نشاطنا فيه يوسع نطاق معرفتنا وفهمنا للأمور، أي أن نتأمل عقل الإنسان ونشاطه الروحي من منظور جديد. •••
إن الإنسان كائن يعيش في عالم من الرموز والمعاني، أكثر مما يعيش في عالم من الإحساسات؛ «ففي استطاعة شخص مثل هيلين كيلر، حرم السمع والبصر، بل شخص لا يملك إلا حاسة واحدة هي اللمس، أن يعيش في عالم أوسع وأغنى من ذلك الذي يعيش فيه أي حيوان يملك كل حواسه المرهفة.»
وهكذا يمكن القول إن أهم ما يميز الإنسان عن الحيوان هو قدرته على صنع الرموز، وهي القدرة التي تتبدى أساسا في اللغة، التي خلقت للإنسان عالما فريدا لا يشاركه فيه كائن آخر، وفتحت أمامه أبواب السيطرة على الكون. إن عملية صنع الرموز هي النشاط الرئيسي المميز للإنسان، وهي العملية الذهنية الأساسية التي تستمر بلا انقطاع.
وإذا كانت عملية خلق الرموز وإضفائها على العالم مستمرة لا تنقطع، فليس لنا أن نقصرها على وجه واحد من أوجه فاعلية الذهن البشري كالتفكير؛ ذلك لأن للذهن أوجه نشاط أخرى غير التفكير، وإن يكن هذا الأخير هو أهم هذه الأوجه وأبعدها أثرا في حياة الإنسان، وكل هذه الأوجه الأخرى حافلة بالمعاني، وإن تكن هذه المعاني من نوع مخالف لذلك الذي ينتجه الذهن المفكر؛ فالإنسان في سعي دائم إلى التعبير عن نفسه، وإذا كان التعبير الفكري هو أوضح مظاهر هذا السعي فليس معنى ذلك أنه الوحيد، وإنما يعبر الإنسان عن نفسه في مظاهر أخرى متعددة، منها ما يتم في اليقظة، ومنها ما يتم في المنام، وقد لا يكون لنشاطه هذا أي غرض عملي ملموس؛ لأن الطاقة الذهنية الفائضة، والثروة المختزنة في الروح الإنسانية ستنطلق، سواء أكان لانطلاقها هدف علمي أم لم يكن.
وعلى ذلك فإن عالم المعاني أوسع نطاقا بكثير من عالم اللغة؛ فمع اعترافنا بأن اللغة هي أهم مظاهر نشاط الذهن البشري في اتجاهه إلى التعبير عن نفسه تعبيرا ذا معنى، ينبغي أن نعترف في الوقت ذاته بأن نطاق التعبير ذي المعنى - في الإنسان - أوسع كثيرا من نطاق اللغة. إن الحلم ذاته قد يكون تعبيرا له معناه - من خلال رموز معينة - عن تجارب بشرية حقيقية، وما كشوف التحليل النفسي بأسرها إلا تأكيد لهذه الفكرة، أعني فكرة ضرورة إدخال الأحلام ضمن أوجه النشاط البشري ذات المعنى والدلالة، وعدم الاستخفاف بها أو استبعادها بحجة أنها أخيلة جوفاء متخبطة لا دلالة لها.
صحيح أن تعبير الحلم لا يقاس بمقاييس المنطق اللغوي؛ لأنه لا يتضمن «قضايا» يمكن تطبيق معايير التحقيق عليها، غير أن المنطق اللغوي كما قلنا لا ينتظم مجال المعنى بأسره، وبالتالي فإن معاييره ليست هي الحدود القصوى للمعقولية، وهكذا يتفتح أفق جديد ضخم أمام العقل البشري في اللحظة التي يبحث فيها احتمال كون عالم المعنى أوسع من عالم الفكر اللغوي أو المقالي
discursive ، وحين يبدأ في تأمل نواتج الروح البشرية على أنها تعبيرات لها معناها، ولكن بطريقة خاصة غير لغوية، عن تجارب إنسانية أصيلة، وليست مجرد رجوع إلى حالة سابقة على المنطق، أو مظاهر لعالم غامض مبهم من التجارب المجهولة التي لا يدركها وعينا، ولا يمكن نقلها إلى وعي الغير. •••
فلنتأمل ما يحدث بين الشعوب البدائية حين يقوم أفرادها بنشاط مثل أداء الشعائر والطقوس، إن هذا النشاط ليس في هذه الشعوب لهوا ولا مرحا على الإطلاق، وإنما هو نشاط جاد تماما، وقد يتخذ صورة قاسية عنيفة، كما في احتفالات الوصول إلى سن البلوغ، حيث يمر الشبان بمحن أليمة قد تودي أحيانا بحياتهم، كذلك فإنه ليس نشاطا يستهدف غاية عملية مباشرة في حياة هذه الشعوب، وإنما هو أساسا محاولة بدائية ساذجة لفهم العالم والتماس التوجيه في السلوك، وهو مظهر لبداية التفكير الجاد في العالم، وعلامة على بزوغ التبصر الخلاق للناس بالحياة، إنه ينبثق عن حاجة أساسية لدى الإنسان، وهو نشاط تلقائي صرف، لا يدفعه شيء سوى النزوع إلى التعبير الرمزي عن تجارب لا يمكن التعبير عنها بأية وسيلة أخرى؛ فهو إذن حافل بالدلالة، جدير بالانتماء حقا إلى عالم المعنى.
ومثل هذا يقال عن الأساطير؛ فهي ليست مجرد مظاهر لقصور العقل أو لسيادة الجهل في شعب بدائي، وإنما هي محاولة للإطلال على الحياة والكون من خلال أفكار سياسية كالقوة والإرادة والموت والحياة. وهكذا يرى الإنسان البدائي في كل موضوع يحيط به معاني رمزية، فينسب إلى هذا الموضوع دلالة صوفية، ويراه بالفعل معبرا عن مخاوفه أو آماله أو مثله العليا.
إن العالم يتحول - من خلال الأسطورة - إلى مجموعة من المعاني الذاتية التي هي أساسا مظاهر لنزوع الذهن - في أول مراحله - إلى الفهم.
صفحة غير معروفة