كان الوباء إذا انتشر في بلدة لا يبقي من سكانها ولا يذر، وفي الغالب أن يعقب الأوبئة قحط؛ لقلة العاملين في الحقول، فيهلك الناس بمئات الألوف، وما كانت هذه الأمراض الوافدة تنتشر في القرن مرة أو مرتين، بل تحصد الأرواح في كل عقدين أو ثلاثة، فقد انتشر وباء في الشام في القرن الخامس، وأعقبه قحط وإضاقة في العيش، مع ما هنالك من مظالم ومغارم لا يكاد يتصورها ابن هذا العصر، فأكل الناس الكلاب والسنانير والفيران ثم أكل بعضهم بعضا، ونزل سكان دمشق إلى ثلاثة آلاف إنسان وكانوا من قبل خمسمائة ألف، ومثل ذلك كان في مصر سنة 463ه؛ أفنى القحط العظيم الناس، وأكل الإنسان الإنسان وبلغ إردب القمح مائة دينار، وخرجت امرأة في القاهرة وبيدها مد جوهر فقالت: من يأخذ هذا بمد قمح، فلم يلتفت إليها أحد، فألقته في الطريق وقالت: ما نفعتني وقت الحاجة فلا أحملك، قالوا: والعجب أنه ما كان له من ملتقط، ووجه إلى مصر أحد ملوك الأندلس عام سبعة وأربعين وأربعمائة، وهو عام الجوع الأعظم بمصر، بمركب كبير مملوء طعاما فرجع إليه المركب مملوءا ياقوتا وجوهرا وذهبا وذخائر، هكذا كانت حال الناس قبل أن يكشف الغرب الجراثيم ويفيد بني الإنسان والعرب منهم بهذا المكتشف العظيم.
وكم كانت الأوبئة والطواعين والحميات والوبالة وجميع الأمراض الوافدة والأمراض العضالة كالكلب ونحوه تهلك عشرات الألوف من الخلائق، ولا يعرف دواء لها ولا من يفكر في تخفيف ويلاتها، ومنهم من يعزو ذلك إلى أسباب سماوية؛ يغضب الديان على الإنسان فيرسل عليه هذه المهلكات، أو يقوى سلطان الجن على الإنس فيأخذهم أخذ عزيز مقتدر، أو يحل بهم نكد الطالع فتساورهم النقم وتتخطاهم النعم، ولكم أفضل الغرب علينا بكشف طعم الجدري، وكان يهلك به كل سنة جزء عظيم من الأطفال، وكم من عيون دعجاء به قلعت، ومن خدود جميلة بتأثيره تشوهت!
عرف الغربيون حقيقة البول السكري والصرع والتشنج وغيرها من الأمراض فوصفوا لها الأدوية وأقاموا لها حواجز تحول دون آلامها وأخطارها فخفت وطأتها، وخففوا بما اخترعوا ويلات الأمراض الزهرية والكزاز (تيتانوس) والخناق والنقرس الحاد، ووفقوا إلى إتقان فن الجراحة إتقانا لم يكتب مثله للبشر؛ فأفادوا الإنسانية وقللوا من أوجاعها، ورقوا الطب على اختلاف ضروبه، وبلغوا بالأقرباذين ما ارتقت به الصيدلة أي رقي، ولو لم يكن لهم غير الكينا وصبغة اليود والراديوم لكفى في خدمتهم الإنسانية، وانتفعوا ونفعوا بالكيمياء حتى تحقق لهم من التفنن فيها ما هو غريبة الأيام والليالي. وإذا نقلت أوروبا إلى آسيا وأمريكا وجزء من إفريقية الحمى التيفوئيدية وبعض الأمراض الزهرية، فقد نقلت آسيا إلى أوروبا الكوليرا أو الهواء الأصفر، ومع هذا قاتلته بعلمها وبحثها حتى قتلته وأخاه الطاعون.
علمنا الغرب طب الحيوان والدواجن، ومكافحة الحشرات وكانت تعبث بالأشجار والنبات والزروع، واستفدنا منه أصنافا من البقول والأزهار والثمار لم يكن لنا بها عهد، وعرفنا طيورا ودجاجا وأسماكا جديدة، واستطعنا بالأخذ بوسائطهم القضاء على الجراد ولطالما أفقر أقطارا وأمصارا. وتعلمنا استعمال الأسمدة الكيماوية، والتفنن في تطعيم الغرسات والاستكثار من المعرشات، ومعالجة الآلات الحراثة والبذارة والحصادة والرجادة والدراسة والذراية، بل والخياطة والطرازة وكل ما يقلل من عمل الأيدي ويوفر على الخلائق راحتهم ويقتصر لهم طرق الانتفاع بما تنبت الأرض وتجود السماء.
تعلمنا من الغرب تمديد الخطوط الحديدية، وفتح الأنفاق وبناء الجسور والطرق والمرافئ والخزانات والمنائر وحفر الآبار الإرتوازية وإقامة الدور ذات الطبقات الكثيرة، وما عرفت في التاريخ في غير مدينة القاهرة والإسكندرية وبعض سواحل الشام، وعلمنا توليد الكهرباء ومد أسلاكها والهاتف واللاسلكي والسلك البحري ثم الراديو، وتعلمنا تنظيم المدن والبلديات وفتح الشوارع والساحات، ورصف الطرق وتذليل العقبات، وجر المياه النقية في أنابيب ومناهل، وتجفيف الأصقاع المستنقعة، وتخفيف ويلات أمراض العين وكان يعمى بها طوائف من الناس.
الألمان أنشئوا سكة حديد بغداد وسكة حديد الحجاز لتقريب المسافات بين الشمال والجنوب، والفرنسيس فتحوا ترعة السويس فربطوا الشرق بالغرب، والإنجليز أقاموا خزانات أسوان لتستفيد مصر من نيلها، وغدا ينظمون ري العراق ليستفيد من مياه الرافدين دجلة والفرات على ما كان على عهد ملوك بني العباس، إلى غير ذلك من أعمالهم في معظم الأقطار التي دخلوها في آسيا وإفريقية، وهم اليوم يستخرجون نفط الموصل، وقد مضت القرون وهو لا يعرف ولا يستثمر، وغدا يستفيدون من المعادن الغريبة المخبوءة في صدر البحر الميت.
اقتبسنا عن الغرب أصول الجندية، وتنظيم المراكب البخارية، وتدوين الدواوين وأسلوب الجباية والخراج وإدارة المصارف والجمارك، وأبدلنا أساليب التجارة بأساليبهم القريبة المأخذ، المضمونة النتيجة. ولم نعرف قبلهم المصارف ولا المصافق، ولا الشركات المساهمة والمضاربة والمغفلة، ولا كل ما يسهل على التاجر عمله، وعلى الصانع صناعته، ويوفر للناس أموالهم وكأن الأدوات والآلات هي خاصة من خاصات المدنية الحديثة؛ لتفرد الغرب بالفحم الحجري وضروب المعادن ومن أهمها الحديد؛ ولأن الإخصاء في العلوم جرى تطبيقه على الصناعات عندهم.
ومن الغربيين أخذنا أصول الدعوة ، والإعلان عن كل بضاعة، وطرق المفكرات والجزازات والإحصائيات، بله تأليف المؤتمرات والمؤامرات، ومنهم اقتبسنا استخدام المعاصر والمحالج والمغازل والمناسج والمطافئ والمضخات، ونسجنا على أساليبهم في إنشاء الجمعيات الخيرية والأحزاب السياسية، والشركات الصناعية، وإقامة حدائق لتربية الحيوانات، ومغارس لتربية النباتات والأزهار والأشجار، واستفدنا مسائل أخرى كثيرة نجهد لوضع أسماء تقابلها بالعربية، ولم نعرف قبل الغربيين إقامة المستشفيات والمصاح والملاجئ لليتامى والزمنى والصم والبكم والمسلولين والمعتوهين، على هذا الطراز من العناية والطهارة.
هم حرروا الرقيق فكان ذلك من موجبات فخرهم، وأزالوا بذلك وصمة عار عن الإنسانية، وأبطلوا النخاسة، وكانت أفظع تجارة، وأحط عمل شائن في استعباد البشر، هم علموا السود حتى ألحقوهم بالبيض، ودربوا الحيوان حتى قام بكثير من أعمال الإنسان، فاستفادوا من كل قوة ادخرتها الطبيعة وانتفعوا من كفاءة كل كفؤ، وفضل كل قريحة في هذا المجتمع العظيم.
بتعليم الغربيين أصبح للمرء قيمة، وللعالم العامل مقام، وبمدنيتهم الحديثة أصبح العلماء على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم يؤلفون أسرة واحدة، لا يبحثون على الأغلب إلا لجلاء الحقائق، بمعزل عن المصالح التافهة في المجتمع الإنساني، ولقد أثر علماء الغرب في أرواح الشرقيين وعقولهم من حيث يدرون ولا يدرون؛ وذلك بفضل ما يبثونه كل يوم من معارف جامعاتهم ومدارسهم وأنديتهم ومعاملهم ومخابرهم، وبفضل ما كشفوه واخترعوه وحققوه وصححوه من العلوم، وبثوه من الأفكار الجديدة، فقلبوا بأوضاعهم أوضاعنا، وبدلوا بتصوراتهم أشكال تصوراتنا، وبدلوا من أساليب الفكر في رجالنا الدارسين وغير الدارسين؛ فتغيرت مادة أحاديثنا ودوافع أهوائنا، ولطفت أذواقنا وبعض المستهجن من عاداتنا، ولم يكن لذلك كبير أثر قبل اختلاطنا بهم، وتسهيل المواصلات بيننا وبينهم. ومنذ رفعنا من أذهاننا أننا أرقى منهم في كل شيء أصبحنا، ولا يصعب على عزة نفوسنا، أن نقر بضعفنا فنعالجه، باتخاذهم أساتيذ لنا في معظم مطالب الحياة، وسنظل كذلك زمنا آخر حتى نستوي أمة ناهضة من كل وجه، على ما استوت اليابان الشرقية في القرن الماضي. •••
صفحة غير معروفة