واشتدت الدول المستعمرة في تلقين مناحيها ولغتها وأصولها للأمم التي غلبتها على أمرها على اختلاف طرائق استعمارها، وتمازج الغربي بالشرقي في الأرض العربية، وصارت كل دولة غربية تصدر عن رأي نظارة مستعمراتها ونظارة خارجيتها في معاملة البلاد المستعمرة أو المحتلة، بطريقة من طرق التدخل، وانتشرت الفرنسية والإيطالية والإسبانية والإنجليزية في الأقطار العربية، وحذقها أفراد من العرب حذق أهلها لها، وانتشرت أساليب تفكير الأمم وأنظمتهم المدنية والتجارية والزراعية، وبها عرف العرب العالم، وكانوا غفلوا عن التعرف إليه قرونا، وأدركوا أن من ذرائع نجاحهم في العلم والتجارة والسياسة إتقان إحدى اللغات الحية الكبرى، وكثر اختلاط أهل البلاد بجماعات من تجار المستعمرين من الغربيين ومعلميهم ومبشريهم ودعاتهم وأرباب الصحافة منهم، وكانوا قبل ذلك لا يعرف فريق عن فريق إلا ما لا بال له.
واقترب الناس بعضهم من بعض في البلاد التي اختلطت بالأجانب، وزالت تلك الجفوة القديمة بين العرب والإفرنج، وتقاربت العقليتان الشرقية والغربية، وسرت عادات الغالبين وأخلاقهم وتراتيبهم إلى المغلوبين وقلدوهم في كثير من أوضاعهم وأزيائهم، وزالت الفروق التي كانت ظاهرة كل الظهور منذ قرن بين المتحضر الحديث والمتحضر القديم، وتمثلت الطبقة الأولى ما يقربها من الطبقة التي على شاكلتها عند الأمم الغربية، وكان حظ التونسيين والمصريين والشاميين أجزل من حظ غيرهم في هذا الشأن، والسبب فيه أن بلادهم عامرة وقد تأصلت فيها الحضارة العربية وتسلسلت دهرا طويلا؛ ولأن في أرض الشام معهد النصرانية واليهودية ومنها نشأ المسيح وموسى وكثير من الأنبياء؛ ولأن آثار الفراعنة والرومان واليونان في مصر والشام تغري السائحين والعلماء بنزولها للزيارة والبحث، وسنعرض لذلك بتوسع أكثر في بعض المحاضرات المقبلة.
ورجاء كل عاقل أن ينتج من هذا التعارف بين الشرق والغرب تعاطف جميل يكون فيه حظ الأثرة والعدوان أقل من القليل، يحترم فيه الضعيف القوي ويرحم القوي الضعيف، فتكون حضارة كل أمة شرقية مشابهة من بعض الوجوه لحضارة الأمة التي تأخذ عنها من أمم الغرب، على أن يحتفظ المتأخر أمام المتقدم بعاداته وأخلاقه، فمبتدعات المدنية وقف على كل أمة تريدها، وليس في حسناتها ما يضر، بل الضرر كل الضرر ما يأتي من الوقوف والجمود، وما وقفت أمة إلا تراجعت ولا جمدت إلا هلكت، سنة الله في خلقه.
أثر علوم العرب وفنونهم وما كشفوه واخترعوه
يدين العرب لكثير من خلفائهم وأمرائهم بالأخذ من المدنية الفارسية والهندية واليونانية، وممن كان لهم الفضل الأول في ذلك عمر بن عبد العزيز والمنصور والرشيد والمأمون وخالد بن يزيد وأولاد موسى بن شاكر وضرباؤهم، وما عتم العرب بعد أن كانوا تلاميذ الأقدمين أن أصبحوا أساتيذ في كل الفنون التي وجهوا إليها قواهم العقلية، وزادوا فيها أو هذبوا ورتبوا في أصولها وذيولها، ومن أول ما فكروا فيه علوم الفلك وتقويم البلدان والرياضيات والطب، وجاءت الفلسفة بعد ذلك وما أفلحوا فيها كثيرا.
وفي التاريخ العام، ولا يسع المنصف أن ينكر أن قسط العرب من العلوم كان أعظم من قسط غيرهم؛ فلم يكونوا واسطة نقلت إلى الشعوب الجاهلة في إفريقية وآسيا وأوروبا اللاتينية معارف الشرق الأدنى والأقصى وصنائعه واختراعاته، بل أحسنوا استخدام المواد المبعثرة التي كانوا يلتقطونها من كل مكان، ومن مجموع هذه المواد المختلفة التي صبت وتمازجت تمازجا متجانسا، أبدعوا مدنية حية مطبوعة بطابع قرائحهم وعقولهم، وهي ذات وحدة خاصة وصفات فائقة. وقال العلامة درابر: «من موجب الأسف أن الأدب الأوروبي حاول أن ينسينا واجباتنا العلمية نحو المسلمين، فقد حان الوقت الذي ينبغي لنا أن نعرفهم، فإن قلة الإنصاف المبنية على الأحقاد الدينية، وعلى العنجهية القومية، لا تدوم أبد الدهر.»
يقول لبون: «إن تحمس المسلمين في دراسة الحضارة اليونانية واللاتينية مدهشة حقيقة، وقد ضاهت العرب شعوب كثيرة، وربما لم يقم من الشعوب من تقدمهم في هذه السبيل.» وقال توفنر: «إن أوروبا قضت قرونا حتى بلغت الغاية التي وصل إليها عرب إسبانيا في قرن واحد.» وذكر بريس دافن أنه بعد سقوط الدولة الرومانية لم يكن في الأرض شعب يستحق أن يعرف غير الشعب العربي؛ وذلك لكثرة فحول الرجال الذين نشئوا منه، ولما أحدثته فنون هذا الشعب وعلومه من التقدم العجيب في العالم قرونا عديدة، لا جرم أن العرب عرفوا صنائع السلم كما عرفوا صناعة الحرب وخاضوا عباب كل علم وفن بحسب ما ساعدهم محيطهم وبيئتهم.
قلنا إن من أول العلوم التي عانوها علم الأفلاك لعلاقتها بالصلوات؛ وذلك لأنه كان من المألوف عندهم وعند غيرهم في تلك العصور أخذ الطالع من الكواكب، ونشأ علم الفلك عند العرب من توسع الرياضيين في الحساب؛ لأنهم اخترعوا أساس حساب المثلثات، وحقق العرب طول محيط الأرض بما كان لهم من الأدوات، وأخذوا ارتفاع القطب ودور كرة الأرض المحيطة بالبر والبحر، وحققوا طول البحر المتوسط الذي قدره بطليموس ب «12» درجة، فأرجعوه إلى «54» أولا ثم إلى «42»؛ أي إلى الصحيح من مقداره تقريبا، فقالوا بكروية الأرض منذ أول سلطانهم، وجمع المأمون بعض حكماء عصره على صنعة الصورة التي نسبت إليه، ودعيت الصورة المأمونية، صوروا فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره وعامره وغامره ومساكن الأمم والمدن إلى غير ذلك، وهي أحسن مما تقدمها من جغرافيا بطليموس وجغرافيا مارينوس، ووضع له علماء رسم الأرض - وكانوا سبعين رجلا من فلاسفة العراق - كتابا في الجغرافيا أعان عمال الدولة على معرفة البلاد والأمم التي أظلتها الراية العباسية، والفزاري أول من استعمل الإسطرلاب من العرب، وهو فلكي المأمون، وأقاموا المراصد الفلكية في بغداد والرقة ودمشق والقاهرة وسمرقند وقرطبة وفاس، ونظروا في المجسطي لبطليموس في الفلك.
ويقول العلامة غوتيه إن الشريف الإدريسي الجغرافي كان أستاذ الجغرافيا الذي علم أوروبا هذا العلم لا بطليموس، ودام معلما لها مدة ثلاثة قرون، ولم يكن لأوروبا مصور للعالم إلا ما رسمه الإدريسي، وهو خلاصة علوم العرب في هذا الفن، ولم يقع الإدريسي في الأغلاط التي وقع فيها بطليموس في هذا الباب، ووصل علماء الجغرافيا منهم إلى بلاد لم تطأها من قبل غير أقدامهم وحوافر قوافلهم في آسيا وإفريقية. ولا تزال بقايا تلك الكتب، وأكثرها مما طبعه الغربيون وتنافسوا في الأخذ منه، شاهدة على تلك الهمة الشماء والعلم الغزير المنقح وأنهم كانوا في فن الجغرافيا مبتدعين لا متبعين، وأن كثيرين من علماء الجغرافيا فيهم طافوا العالم قبل أن يدونوا كتبهم فوضعوا ما وضعوا عن عيان ومشاهدة.
ولقد كشف العرب منابع النيل قبل أن يتصدى الإفرنج لها، وقام في أذهانهم أن في الأرض أقطارا لم تعرف حتى قال أحد عارفيهم قبل كولمبس بقرن ونصف: «لا أمنع أن يكون ما انكشف عنه الماء من الأرض من جهتنا منكشفا من الجهة الأخرى، وإذا لم أمنع أن يكون منكشفا من تلك الجهة لا أمنع أن يكون به من الحيوان والنبات والمعادن مثل ما عندنا أو من أنواع وأجناس أخرى.»
صفحة غير معروفة