كان روجر أول ملك نورماني استخلص صقلية من العرب هو واضع أساس هذا التسامح مع المسلمين، وهو الذي استقدم إليه من بر العدوة - وبر العدوة ما سامت الأندلس وصقلية من شمالي إفريقية، ويعنون بالعدوة المغرب الأقصى والأوسط والأدنى - الشريف الإدريسي وبالغ في إكرامه، وطلب إليه أن يبقى في صقلية وأن يحقق له أخبار البلاد بالمعاينة لا بما ينقل من الكتب، وندب لذلك أناسا ألباء وجهزهم «روجر» إلى أقاليم الشرق والغرب والجنوب والشمال وسير معهم قوما مصورين ليصوروا ما شاهدوه عيانا، فكان إذا حضر أحدهم بشكل أثبته الشريف الإدريسي حتى تكامل له ما أراد وجعله مصنفا سماه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، وهو من أجل كتب الجغرافيا التي بقيت من تآليف العرب، وعمل الإدريسي لروجر كرة أرضية من الفضة كانت من أجمل ما ابتدعته قريحة عربية، رسم فيها العالم ببحره وبره وجباله وسهوله وأنهاره وبحيراته ومدنه وممالكه.
كان تأثير العرب في صقلية بعلمهم أكثر من تأثيرهم بمبانيهم ومصانعهم، وكان الروح فيها عباسيا ثم فاطميا؛ لأن بني الأغلب أمراء إفريقية، أي تونس، للعباسيين تولوا ذلك منها أولا، ثم جاء الفاطميون فخضعت لسلطانهم، أما في الأندلس فكان الروح أمويا بحتا لا سلطان فيها لغير العرب، يقول العلامة آماري المستشرق الصقلي إن صقلية مدينة للعرب وإيطاليا مدينة لصقلية بابتكار الشعر الوطني، بمعنى أنه منذ قلد البلاط الصقلي البلاط الملكي الإسلامي بدأت العناية بقرض الشعر تلك العناية التي كانت السبب في نهوض الشعر الإيطالي. وقال رينالدي لم يساعد العرب فقط على إنهاض الشعر الصقلي والإيطالي، بل إنهم أمدوا القصص الإيطالية بشكلها ومادتها، وفي بلرم التي اتخذها العرب عاصمة صقلية وعمرت عمرانا غريبا، أنشأت العرب أول مدرسة للطب وما عهد مثلها في جميع أوروبا؛ فقد أنشئت مدارس الطب في الغرب بعد مدرسة صقلية العربية بأعوام، ومنها انتشر هذا الفن في بلاد إيطاليا، وساعد أن الباباوات كانوا رحلوا إلى أفنيون من أرض فرنسا فخلا الجو للعلم العربي، ثم تفرغ العرب بعد ذهاب سلطانهم من الجزيرة إلى العلم والتجارة، فكانوا نحو قرنين آخرين بعد خروج صقلية من أيديهم رجال المال والأعمال فيها، بل كانوا سادتها بالفعل، ومن كان له العلم والمال لا ينقصه شيء من القوى.
أخرجت هذه الجزيرة في العهد العربي عظماء من الرجال في العلم والأدب، وكان عددهم بالقياس إلى من أخرجت الأندلس قليلا، وقل فيهم النوابغ في علوم العقل على نحو ما كان في الأندلس، ولكن عمل صقلية في التمدين لم ينقص كثيرا عن الأندلس؛ فإذا كانت هذه الجزيرة غذت غربي أوروبا بضعة قرون بمدنيتها، فإن صقلية كانت مدة رسالتها ثلاثة قرون ترسل أشعة المدنية العربية إلى أواسط أوروبا. ولعل ما دعا صقلية إلى أن تكون دون الأندلس في هذا المضمار كون العرب فيها قلائل وأكثر من نزلوها من البربر، بخلاف الأندلس التي كان فيها العرب كثرة غامرة هاجروا إليها وطابت لهم مستقرا ومقاما.
وقصارى القول أن العرب في الأندلس وصقلية بما كان لعنصرهم من المرونة لتقبل كل نافع بقبول حسن؛ كتب لهم الإبداع في صنائعهم ومصانعهم وشعرهم وأدبهم وعلمهم وعملهم، كأن هواء الغرب علمهم أن يغيروا ما حملوا معهم من مدنية الشرق بما يلائم تلك البيئة الجديدة، وحببوا من دون إكراه ما نقلوه إلى أهل البلاد فطبعوهم بطابعهم وصاغوهم الصياغة التي لا تنافي تعاليمهم ونظمهم؛ فقربوهم من مناحيهم ومنازعهم ووقفوهم على سر حضارتهم وتفوقهم، وسرى النور من كل أرض احتلوها إلى أرض بعيدة عنهم، ومن شعوب تمثلوا فيهم بعض الشيء إلى شعوب ما وسعها إلا أن تجاريهم فيما لا يخرجهم عن الاحتفاظ بمقوماتهم من جنس ولغة.
أثر الحضارة العربية في الحروب الصليبية وأثر الحضارة الغربية على عهد الاستعمار
الحديث
لما صحت عزيمة البابا على إخراج العرب من أرض البرتقال، دعا الفرنسيس والإنجليز والنورمانيين والألمانيين والبلجيكيين إلى معاونة البرتقاليين لنزع سلطة العرب عن بلاد البرتقال، ولما أراد البابا القضاء على دولة الموحدين في الأندلس (605ه) نادى بالحرب المقدسة فخفت جيوش النصرانية من إيطاليا وفرنسا وألمانيا، واتحدت قواتها بقوات إسبانيا. ولما أزمع أن يأخذ القبر المقدس من أيدي المسلمين في فلسطين دعا النورمانيين والإيطاليين والفرنسيس والألمانيين والنرويجيين والسويسريين والإنجليز وغيرهم من شعوب الغرب إلى حمل الصليب والذهاب إلى أورشليم.
وفي سنة 490ه/1096م اجتمع مئات الألوف من غزاة الصليبيين في القسطنطينية، وبعد أن خربوها، وكان صاحبها حليفهم، ساروا إلى آسيا الصغرى فضلوا طريقهم، وأخذوا يخربون ويقتلون إلى أن بلغوا الرها وأنطاكية والمعرة فالقدس، وقتلوا من أهل هذه المدينة المقدسة فقط سبعين ألفا، ومن أهل المعرة مائة ألف، وظهروا بمظهر من التوحش لا يغبطون عليه، وملك المسلمون اعتدالهم فما خرجوا عن حدود شريعتهم فيما أمرت به من الرفق بالناس في دار الحرب ودار السلم، أما الصليبيون فارتكبوا كل محرم في دينهم بأن قتلوا المعاهد والمخالف، وقضوا على اليهود قبل أن يغادروا بلاد الغرب طمعا بأموالهم.
وظلت الحرب سجالا عشرات من السنين حتى قام صلاح الدين وقضى على الصليبيين في القدس، ثم قام من أخلافه ثم من المماليك المصريين من استأصلوهم في أدوار مختلفة. وبلغت الحملات التي وجهها الصليبيون على الديار الشامية ثماني حملات، منها ما عد جنده بمئات الألوف، وهلك من الفريقين خلائق يصعب إحصاؤهم، ورجع الغربيون ولم يربحوا من غزواتهم غير ما نحن ذاكرون من الفوائد المادية والمعنوية، وأخذ العجب المهاجم والمدافع مما رأى من عدوه، وأثبت الأول انحطاطه، وسجل الثاني ترقيه، رأى الصليبيون من حسن أخلاق نور الدين وصلاح الدين وغيرهما من أمراء المسلمين ما أعجبوا به؛ رأوا صلاح الدين يوم استرجاعه القدس يكتفي بأن يضرب على كل رجل منهم عشرة دنانير، وعلى كل امرأة خمسة، وعلى كل طفل دينارين، وعجز بعضهم عن أدائها فأدى أخوه أبو بكر بن أيوب فدية عن ألفي صليبي، ثم أعفى صلاح الدين كثيرين من هذه الغرامة، وأغضى عن جواهر الصليبيين وناضهم من الذهب والفضة، وعامل نساء الإفرنج معاملة لطف وظرف، وسهل سبيل الخروج لملكتين عظيمتين من ملكاتهم بما معهما من جواهر وأموال وخدم، وسمح للبطريرك الأكبر أن يسير آمنا بأموال البيع وذخائر الجوامع التي كان غنمها الصليبيون في فتوحهم الأولى؛ فأثرت هذه المحاسنة من صلاح الدين في جمهور الصليبيين. وظل الملوك والباباوات على عنادهم وعدائهم حتى قال شاعره عبد المنعم الجلياني من قصيدة يصف حرمة الصليبيين له:
فخطوا بأرجاء الهياكل صورة
صفحة غير معروفة