وأول مؤلفاته، الذي طبع الطبعة الأولى في عام 1913م، وأعيد طبعه بعد مراجعته في عام 1919م، وهو مؤلف في علم النفس، يشير إلى التحول في مركز اهتمامه من علم النفس إلى الفلسفة، ويصف الآراء والنظرات العالمية التي تقع في حدودها الحياة العقلية للفرد، كما يصف الإطارات العقلية التي تمثل «ما هو نهائي وكامل في الإنسان، من الناحية الذاتية كخبرة من الخبرات وقدرة وعقيدة، ومن الناحية الموضوعية كعالم مركب من الأشياء.» وأكثر مؤلفاته اتباعا لطريقة موحدة كتابه «الفلسفة» الذي أخرجه في ثلاثة مجلدات، ونشر في ألمانيا في عام 1932م. وفي عام 1947م ظهرت له دراسة ضخمة للمنطق الوجودي. غير أن صيت ياسبرز يتسع ذيوعه في أوساط قراء الإنجليزية من مقالاته الفلسفية ذات المجال الفسيح، مثل «الوجودية والإنسانية»، و«العقل واللاعقل في زماننا»، و«المجال الدائم للفلسفة»، و«منشأ التاريخ وأهدافه».
وقد ولد كارل ياسبرز في أولدنبرج بألمانيا في الثالث والعشرين من شهر فبراير من عام 1883م من أسرة «متحررة محافظة» من الطبقة العليا، والآن وهو في منتصف سبعينياته نراه يتدبر في «الشيخوخة»، يقول: «عندما يبلغ المفكر سن الشيخوخة يكون شعوره ببلوغ النهاية أقل منه في أي وقت مضى. قال «كانت»: إذا ما تقدمت شوطا بعيدا واضحا بحيث لا نستطيع حقا أن نبدأ من جديد، وجب علينا أن ننسحب ونترك الأمر في أيدي الناشئين ... غير أن قوة العقل الممتدة لا تنحصر في دائرة الحياة البيولوجية. وقد تسيطر على المرء حالة عقلية - تتناقض مع سن الشيخوخة - تجعل البصر يمتد إلى آفاق جديدة بفضل ما لدى المرء من تجارب روحية».» (1) إنسانية جديدة
كارل ياسبرز (1-1) عصر تغير أساسي
كلنا يعلم أن عصرنا قد غير مجرى التاريخ تغييرا أساسيا أكثر مما فعل أي عصر آخر مما نعرف، وهو يكاد يشبه العصر المجهول الذي أشعلت فيه جذوة النار الأولى، والذي اخترعت فيه الآلات، والذي أنشئت فيه أقدم الدول. أما ما استحدث من وقائع فهو التكنولوجيا الحديثة وما ترتب عليها من وسائل العمل عند الإنسان وفي المجتمع، ووحدة الكرة الأرضية التي خلقتها وسائل الاتصال الحديثة، والتي جعلت الأرض أصغر من الدائرة الأرضية - مثلا - التي عرفها الرومان، والحد الأصغر المطلق الذي يتمثل في ضآلة الكوكب الذي نعيش عليه، والتناقض القائم بين الحرية والعمل المثمر، والشخصية والجمهرة والنظام العالمي والحكومات المستقلة، والأهمية القصوى لازدياد السكان، الذي تحول من أمم إلى جماهير تستطيع في الظاهر أن تدرك التطورات وأن تسهم فيها، في حين أنها قد تحولت في الواقع إلى رقيق مستغل، وانهيار كل المثل العليا في النظام القديم، والحاجة إلى إيجاد نظام إنساني جديد ينقذنا من تفاقم الفوضى، والتشكك في كل القيم التقليدية، التي يجب أن تثبت على صحتها أو أن تتغير، ثم في الموقف السياسي الملموس، الذي تتحكم فيه القوى العالمية، والولايات المتحدة وروسيا، وقارة أوروبية ممزقة من داخلها، يتضاءل حجمها فيزداد ابتعادها عن إدراك وجودها، ويقظة الجماهير الضخمة في آسيا، وهي في طريقها إلى أن تكون عوامل فعالة في القوى السياسية.
وقد سار بنا مجرى الأمور من عصر بورجوازي يتوافر فيه الرضا والتقدم والتربية، ويشير إلى ماض تاريخي دليلا على أنه حقق الأمن، إلى عصر حروب مدمرة، والموت الجماعي والقتل الجماعي (مصحوبا بجهل لا ينفد من الجماهير الجديدة)، عصر يقوى فيه الإحساس بالخطر إلى درجة مزعجة، عصر تتبدد فيه الإنسانية، ويسود فيه الانحلال والفوضى كل أمر من الأمور فيما يبدو.
فهل كل ذلك ثورة روحية؟ أو هل هو عملية خارجية لا مناص منها، مصدرها التكنولوجيا وما ترتب عليها من نتائج؟ هل هو كارثة وأمر ضخم محتمل لا تتضح بعد معالمه، وشيء يقتصر على الهدم حتى يتيقظ الإنسان ويصبح قادرا على مقابلته، حتى يتبين له أنه وسط ظروف وجوده الجديدة كل الجدة ولا ينكر هذه الظروف على غير وعي منه؟
وصورة المستقبل أكثر اهتزازا وأشد غموضا، ولكنها ربما كانت مبشرة ومثبطة في آن واحد أكثر من أي وقت مضى. وإذا كنت أدرك واجب الإنسانية، لا فيما يتعلق بحاجات الوجود المباشرة، ولكن فيما يتعلق بالحق الأبدي، فلا مندوحة لي عن البحث فيما يتصل بموقف الفلسفة. ماذا ينبغي للفلسفة أن تفعله في الموقف العالمي الراهن؟
إن مذهب العدم يتخذ في الواقع صورا متعددة؛ فمن الناس من يتخلى عن كل أمر باطني، ولم يعد لأي شيء عندهم قيمة، يتخبطون في عالم المصادفة بين لحظة وأخرى، يموتون بغير مبالاة ويقتلون بغير مبالاة، ولكنهم فيما يبدو يعيشون في صور ذهنية عددية تخدر أعصابهم، وفي عصبية للرأي عمياء يتنقلون بها من أمر إلى أمر، تدفعهم عواطف بدائية غير معقولة غلابة ولكنها سريعة الزوال، وينساقون في نهاية الأمر بدافع غريزي نحو متعة اللحظة التي هم فيها.
وإذا نحن استرقنا السمع إلى الألفاظ التي تخرج من الأفواه وسط هذا الخضم بدت لنا كأنها استعداد للموت مستور. وقد جعلت تربية الجماهير الناس عميانا بغير فكر، جديرين بأي شيء في غيبوبة أذهانهم، حتى أمسوا في نهاية الأمر يقبلون الموت والقتل، وبات الموت الجماعي في الحرب الآلية أمرا عاديا.
غير أن أشد الفلسفات وضوحا يستهدف كذلك تمكين الإنسان من مجابهة الموت. إن الفلسفة تسعى إلى إيجاد قاعدة لا يكون الموت على أساسها - بالتأكيد - مقبولا من الناحية العقلية، وإنما يكون محتملا في معمعان الآلام، لا في شيء من عدم المبالاة باللذة أو الألم، ولكن في ثبات الراغب الواثق.
صفحة غير معروفة