وبمرور العصور الجيولوجية يتضح لنا أنه لم تنقض إلا برهة منذ ظهر الجنس البشري، ولم تمر سوى طرفة عين منذ اخترع الإنسان فنون الحضارة. ولا يحتمل أن يبيد الجنس البشري نفسه تماما بالرغم مما يشعر به بعض الناس من مخاوف. وما دام الإنسان موجودا، فنحن على يقين من أنه سوف ينجو عاجلا أو آجلا مهما كان ما يقاسيه في فترة ما، ومهما انطفأ ما لديه من بريق، وربما نجا وهو أكثر قدرة وأشد قوة بعد فترة من فترات الركود العقلي؛ فالكون فسيح، وليس الناس سوى ذرات دقيقة فوق كوكب عديم الأهمية. ولكنا كلما أدركنا صغارنا وعجزنا إزاء قوى الكون، ازددنا إعجابا بما أنجزه الإنسان.
ويجب أن يشتد إيماننا بما يستطيع الإنسان أن يؤديه. وبهذه العقيدة نستطيع أن نحتمل المتاعب اليسيرة التي يعانيها هذا العصر المضطرب الذي نعيش فيه. ما أعظم الحكمة التي يجب أن نتعلمها، وإذا كنا لا نتعلمها إلا عن طريق المحن، فيجب أن نحاول احتمال المحن بكل ما لدينا من جلد. أما إذا استطعنا اكتساب الحكمة عاجلا، فقد لا تصبح للمحنة ضرورة، وقد يمسي مستقبل الإنسان أسعد من أي وقت مضى من حياته.
إن عصرنا بحاجة إلى بعض الأشياء يكتسبها، وبعضها الآخر يتجنبه؛ فهو بحاجة إلى الرأفة وإلى الميل في سعادة الإنسان، وهو بحاجة إلى حب المعرفة، وإلى العزم على الحذر من أثر الأساطير الخلابة، وهو - فوق كل شيء - بحاجة إلى الأمل الباسل وإلى الدافع إلى الابتداع والخلق. أما ما يجب عليه أن يتحاشاه، وما أدى به إلى حافة الهوية، فهو القسوة، والحسد، والجشع، والمنافسة ، والبحث عن العقائد الذاتية التي لا تتفق مع العقل، وما يسميه أتباع فرويد بالرغبة في الموت.
8
ولب الموضوع شيء غاية في البساطة ومعروف من قديم الزمان، وقد بلغ من البساطة ما يكاد يجعلني أخجل من ذكره، خشية من بسمة السخرية التي يقابل كلماتي بها الحكماء الساخرون. وهذا الشيء - وأرجو أن تقبلوا عذري في ذكره - هو المحبة، المحبة المسيحية، أو الرحمة؛ فإن أحسست بها كان لديك دافع إلى البقاء، ومرشد إلى العمل، وسبب للشجاعة، وضرورة ملحة إلى الأمانة العقلية. إن أحسست بالمحبة امتلكت كل ما يحتاج إليه أي امرئ من الدين، وقد لا تجد السعادة، إلا أنك لن تعرف ذلك اليأس القاتل الذي يحسه أولئك الذين تخلو حياتهم من الهدف والغرض؛ لأن هناك دائما شيئا تستطيع أن تؤديه لتخفف من عبء البؤس البشري الثقيل.
9 (1-7) التعقل الفلسفي
كنت آمل في شبابي أن أجد في الفلسفة ما يشبعني من الناحية الدينية ... وكنت دائما شديد الرغبة في أن أجد تبريرا للعواطف التي تثيرها بعض الأشياء التي كانت تبدو منفصلة عن الحياة البشرية، وتستحق الشعور بالرهبة. ويحضرني في هذا الصدد أشياء غاية في الوضوح، كالسماء ذات النجوم، والبحر العاصف على الشاطئ الصخري. ويحضرني من ناحية أخرى اتساع عالم العلوم، سواء في الزمان والمكان، إذا قورن بحياة الإنسان. ويحضرني أيضا بناء الحقيقة غير الشخصية، وبخاصة تلك الحقيقة التي لا تكتفي بوصف العالم الذي وجد بالمصادفة كالحقيقة الرياضية مثلا. إن أولئك الذين يحاولون أن يجعلوا من الإنسانية دينا لا يعترف بشيء أعظم من الإنسان لا يشبعون عواطفي، ولكني - برغم ذلك - لا أستطيع أن أصدق أن هناك شيئا - في العالم كما نعرفه - بوسعي أن أجعل له قيمة خارج الكائنات البشرية، وخارج الحيوان بدرجة أقل بكثير. إن السماء ذات النجوم ليست لها روعة إلا بمقدار ما لها من أثر في الإنسان المدرك، والإعجاب بالكون لضخامته سخف وصغار، والحق المجرد غير البشري وهم من الأوهام. وهكذا ترى أن عقلي يساير الإنسانيين، في حين أن عواطفي تثور عليهم بعنف وشدة. و «عزاء الفلسفة» في هذا الصدد لا يشفي غلتي.
أما في الأمور التي يشتد إمعانها في التجريد العقلي، فقد وجد - على نقيض ذلك - في الفلسفة اقتناع نفساني بقدر ما يتوقع أي إنسان عاقل. كم موضوع حيرني في شبابي لغموض كل ما كان يقال عنه، أصبح اليوم سهل الخضوع لطرائق في البحث دقيقة، تجعل نوع التقدم الذي ألفناه في العلوم ممكنا. وحيثما تكن المعرفة الدقيقة مستحيلة التحقيق، فمن الممكن أحيانا التدليل على عدم إمكان التحقيق، وبالإمكان عادة صياغة فروض دقيقة متعددة، كلها يتفق مع الدليل القائم. إن أولئك الفلاسفة الذين اتبعوا الطرق المستمدة من التحليل المنطقي يستطيعون أن يتبادلوا الجدل، لا بالطريقة القديمة غير الهادفة، ولكن بالتعاون، بحيث يستطيع الجانبان أن يلتقيا بالنسبة إلى النتيجة.
10
إنهم يعترفون صراحة بأن العقل البشري يعجز عن إيجاد إجابات حازمة عن كثير من المسائل ذات الأهمية القصوى للإنسان، ولكنهم يرفضون الاقتناع بأن هناك وسيلة للمعرفة «أسمى» نستطيع أن نكشف بها عن الحقائق التي تخفى على العلم وعلى العقل، وقد كان جزاؤهم على هذا الرفض اكتشافهم أن كثيرا من المسائل - التي كانت فيما مضى تختفي في غموض الميتافيزيقا - يمكن أن يجاب عنها في دقة وبوسائل موضوعية لا تستعين بشيء من استعداد الفيلسوف سوى رغبته في الفهم والإدراك. خذ هذه المشكلات مثلا: ما هو العدد؟ ما هو المكان وما هو الزمان؟ ما هو العقل وما هي المادة؟ ولست أزعم أننا نستطيع على الفور أن نعطي إجابات حاسمة عن كل هذه المشكلات القديمة، ولكن أزعم أننا قد اكتشفنا طريقة نستطيع بها - كما استطعنا في العلم - أن نقترب من الحقيقة شيئا فشيئا، طريقة كل خطوة جديدة فيها تنبني على الخطوة السابقة، ولا تقوم على أساس نبذ كل ما سبق.
صفحة غير معروفة