وبأسلوبه الذي لا يحاكى كتب رسل عن حياته يقول: «ماتت أمي ولم أبلغ من العمر عامين، ومات أبي وأنا في الثالثة من عمري، فتربيت في بيت جدي، لورد جون رسل، الذي أصبح فيما بعد إيرل رسل، ولم أكد أسمع شيئا عن والدي، اللورد والليدي آمبرلي، وكل ما ترامى إلي كان من الضآلة بحيث أحسست إحساسا غامضا بوجود سر غامض، ولم أتعرف إلى الخطوط الرئيسية في حياة أبوي وآرائهما إلا عندما بلغت الحادية والعشرين من عمري. عندئذ تبين لي - في شيء من الحيرة - أني مررت بنفس المراحل العقلية والعاطفية تقريبا التي مر بها أبي.» وما يشير إليه رسل هنا خاصة هو أن أباه - طبقا للتقاليد العائلية - كان يرجى له أن يشتغل بالحياة السياسية، ولكن معتقداته المتحررة وميوله التي لا يرعى فيها المألوف كانت لا تتفق والنجاح السياسي، وكان أبواه صديقين وتلميذين لجون ستيوارت مل، وقد رفضت كلاهما أن يساير الحشمة التي كان يتطلبها الفضلاء في عهد فيكتوريا. ويستطرد رسل قائلا: «وأراد أبي لي ولأخي أن ننشأ على التفكير الحر، وعين اثنين من أحرار الفكر ليتوليا أمرنا، إلا أن محكمة تشانسري - نزولا على ما طلب أجدادنا - أهملت الوصية، وتهيأت لي نشأة مسيحية أستمتع بما فيها من فوائد.» وقد يكون في هذا التعليق الأخير سخرية بمعنى من المعاني؛ إذ إننا نجد رسل يصدر في شبابه نشرة تحت عنوان: «لماذا أنا لست مسيحيا؟» وبمعنى آخر، كان تقدير الحياة، والحب، والتسامح، والنزاهة الخلقية التي نعتقد أنها من ثمار هذه التربية، من القضايا التي خدمها رسل خلال حياته العملية كلها.
كان إنتاج رسل العقلي ضخما جدا، وجانب من ثبت مؤلفاته ومقالاته ينيف على أربعين صفحة مطبوعة. وهناك ما لا يقل عن خمسين كتابا من هذا الإنتاج العلمي الضخم تمثل أهم مؤلفات رسل، وكثير منا يعرف هذه الكتب معرفة الأصدقاء القدامى المألوفين: مشكلات الفلاسفة (1912م)، معرفتنا بالعالم الخارجي (1914م)، التصوف والمنطق ومقالات أخرى (1918م)، الطريق إلى الحرية (1918م)، مقدمة للفلسفة الرياضية (1919م)، تطبيق البلشفية ونظريتها (1920م)، تحليل العقل (1921م)، تحليل المادة (1927م)، مقالات في الشك (1928م)، الزواج والأخلاق (1929م)، النظرة العلمية (1931م)، التربية والنظام الاجتماعي (1932م)، الحرية والنظام، من 1814م إلى 1914م، (1934م)، السلطان: تحليل اجتماعي جديد (1938م)، بحث في الصدق والمعنى (1940م)، تاريخ الفلسفة الغربية (1945م)، آمال جديدة في عالم متطور (1951م)، والمجتمع البشري في الأخلاق والسياسة (1955م). وقد تشمل هذه القائمة غير ذلك من الكتب .
وإذا كان رسل في هذه الرحلة العقلية التي كان الذهن فيها قويا والبصر ثاقبا لا يتقلب في رأيه، بل ولا يتناقض، ولا يتنكر لما آمن به، ولا يؤمن بما تنكر له، إذا كان رسل لا يفعل ذلك لثارت في نفوسنا الدهشة والعجب. والمحاضرات العلمية التي تلقى في موقف رسل من الفلسفة تعاني دائما من بسط الموضوع في نفس الوقت الذي قد يكون رسل منكبا فيه على تأليف كتاب يهدم فيه موقفه السابق. ونسوق هنا مرة أخرى تعليقا لرسل يلائم هذه الصفة فيه، قال: «إنني لا أخجل البتة من تغيير آرائي. أي عالم طبيعي كان نشطا في عام 1900م يحلم بالفخر بأن آرائه لم تتغير في نصف القرن الماضي ... ولكن الفلسفة في عقول الكثيرين تتشابه مع الدين أكثر مما تتشابه مع العلم، وعالم الدين ينطق بالحق الأبدي، والمذاهب باقية كما هي منذ «مجلس نيقوه»؛ فحيثما لا يعرف المرء شيئا، فليس هناك ما يدعو إلى تغيير الرأي.»
كان رسل جادا في اهتمامه بالتاريخ والسياسة، وإن كان يتصف فيهما بالتقلب والتناقض نفسيهما اللذين نلمسهما في فلسفته للمعرفة. كان رسل من دعاة السلم في الحرب العالمية الأولى، ولبث في السجن من أجل ذلك ستة أشهر، وكان وسيطا قبل الحرب العالمي حينما شهد ظهور الحكم الدكتاتوري المستبد، ثم أمسى في السنوات القلائل الماضية قائدا من قواد الحملة العالمية التي تستهدف تحريم صناعة القنابل الهيدروجينية في أية دولة ما عدا الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، مع إرغام الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على تحريم الأسلحة النووية وتحطيمها تحت رقابة دولية. وقد قال رسل في أحد بياناته إنه لو أرغم على أن يختار بين شيوعية العالم وإبادة الجنس البشري في حرب نووية، اختار الأولى. وصاحب هذا البيان بنصيحة خطرة قال فيها إن الاتحاد السوفيتي إذا لم يوافق على رقابة نزع السلاح، فواجب الديمقراطية البريطانية والأمريكية أن تبدأ بالتخلي عن الأسلحة النووية من جانبها. ودار عقب ذلك جدل بين رسل وسدني هوك على صفحات «القائد الجديد» في عام 1958م، وهو جدل لا يزال من أقيم المناقشات في قيم الحرية المنشودة والبقاء المطلوب في الأدب المعاصر. (1) التعقل الفلسفي في عالم متغير
برتراند رسل (1-1) أسباب الحيرة في عصرنا الحاضر
إن الإحساس السائد في عصرنا الحاضر هو الشعور بالحيرة العاجزة؛ فنحن نرى أنفسنا سائرين نحو حرب يكاد لا يرغب فيها أحد من الناس، وهي حرب - كما نعلم - لا بد أن تنتهي بالكارثة على الأكثرية العظمى من الناس. ولكنا نحدق في الخطر دون أن نعلم ماذا نصنع لكي نتفاداه، كالأرانب التي تقف مذهولة أمام الحية، نتبادل الحديث عن القصص المفزعة للقنابل الذرية والقنابل الهيدروجينية، وعن إبادة المدن، والحشود الروسية، والمجاعة والوحشية في كل مكان. ولكن بالرغم من أن العقل يهدينا إلى وجوب الفزع من مثل هذا المصير، فإن هناك جانبا في نفوسنا يستمتع به، فلا نجد العزيمة الثابتة لتفادي الكارثة، كما أن هناك هوة سحيقة في نفوسنا تفصل بين الجانب العاقل والجانب غير العاقل. وقد يهجع الجانب غير العاقل في أوقات الهدوء خلال النهار ولا يتيقظ إلا في الليل. أما في أوقات مثل هذا الوقت فقد يغزو هذا الجانب ساعة اليقظة أيضا، ويفتر كل تفكير عاقل وينفصل عن الإرادة. وعندئذ ترتكز حياتنا على فرض حاد كالصراط المستقيم. إن اشتعلت الحرب كانت طريقة من طرق الحياة معقولة، وإن لم تشتعل كانت طريقة أخرى من طرق الحياة معقولة كذلك. وهذا الوجود الفرضي مقلق للضمير غير محتمل للغالبية العظمى من الناس، فنراهم في حياتهم العملية يتخذون أحد الغرضين، دون الإيمان التام به، فالشاب الذي يجد التربية المدرسية مملة يقول لنفسه: «فيم الاهتمام؟ فسوف أقتل في إحدى المعارك في وقت قريب.»
وبعض الآباء يتشكك في قيمة التضحية التي تتطلبها تربية الأبناء، ما دام الأرجح أن عبثها سوف يثبت. وأولئك الذين يملكون لحسن حظهم مالا وافرا يميلون إلى إنفاقه في حياة صاخبة، ما داموا يتنبئون بأزمة طاحنة تنخفض فيها قيمة العملة حتى تصبح عديمة القيمة. وبهذه الطريقة يقف الشك عقبة تصد الدافع إلى كل جهد شاق، ويولد شعورا بمرح اليائس نحسبه خطأ لذة حقيقية، يظهر في العالم الخارجي وينقلب بغضا لأولئك الذين نظنهم السبب فيه. وعن طريق هذا البغض يقربنا هذا الشك يوما بعد يوم من الكارثة التي نخشاها، وكأن مصيرا محزنا يحيق بمختلف الأمم، وكأن الآلهة التي أسأنا إليها تعميها، كما كانت تعمي الأشخاص في المسرحية اليونانية. وبهذا الغموض العقلي الذي يخيم على الأمم فيوقعها في الارتباك والحيرة، نراها تسير نحو الهوة وهي تتخيل أنها تبتعد عنها.
1
إن في استعمال القنبلة الذرية والقنبلة الهيدروجينية خطرا جديدا، خطرا ليس جديدا في نوعه فقط، ولكنه أعظم من أي خطر سبق في أية حرب سالفة؛ فنحن لا نعرف تماما ماذا عسى أن تكون آثار إطلاق تيارات ضخمة من النشاط الإشعاعي. هناك من يعتقدون أنه قد يؤدي بنا إلى إبادة الحياة كلها فوق هذا الكوكب، ومن هؤلاء أينشتين. فإذا لم يكن هذا، فقد تتحول مساحات شاسعة خصبة من الأراضي إلى أراض قاحلة لا تسكن، فيمحى من الوجود سكان كثير من البلاد. ولا أقول بأن ذلك سوف يحدث إذا استخدم النشاط الذري في الحرب، فليس هناك حتى اليوم من يعرف أهذا سوف يقع أم لا يقع، غير أن خطر وقوعه ماثل أمامنا، ولات ساعة مندم إن هو وقع.
في فن الحرب ذبذبة بين قوة الهجوم وقوة الدفاع. والعصور السعيدة هي تلك التي يقوى فيها الدفاع، والعصور التعسة هي تلك التي يتغلب فيها الهجوم. وفي عصرنا العلمي خطر دائم بأن يكتسب الهجوم في أية لحظة من اللحظات الغلبة القاصمة حقا؛ فالحرب البكتيريولوجية - على سبيل المثال - قد تبيد العدو، ولكنها قد تبيد في الوقت عينه البادئين بها. وازدياد المهارة العلمية يجعل الحرب خطرة في جملتها، حتى إن كانت أقل فتكا في أية لحظة من اللحظات.
صفحة غير معروفة