وهذه النظرة الحديثة إلى الإيمان جاءت بعد نضال طويل المدى ضد سلطة الكنيسة وادعائها حق السيطرة على أي لون من ألوان التفكير؛ ومن ثم فإن الشك فيما يتعلق بالإيمان يرتبط بتقدم العقل نفسه. غير أن هذا الجانب البناء من جوانب الشك الحديث له جانب آخر يقابله، وقد أهمله الناس.
إن إنعام النظر في بناء شخصية الإنسان الحديث والعلاقات الاجتماعية المعاصرة يؤدي بنا إلى أن ندرك أن انعدام الإيمان السائد المنتشر على مدى فسيح لم يعد له الوجه التقدمي الذي كان له منذ أجيال. كان النضال ضد الإيمان في تلك العصور السحيقة نضالا في سبيل التحرر من القيود الروحية، كان نضالا ضد الاعتقاد الذي لا يستند إلى عقل، وكان تعبيرا عن الثقة في عقل الإنسان وفي قدرته على إقامة نظام اجتماعي تحكمه مبادئ الحرية والمساواة والإخاء. أما اليوم فإن انعدام الإيمان إنما هو تعبير عن اليأس والاضطراب الشديد. كان الشك وكان التعليل العقلي في وقت من الأوقات قوى تقدمية تعمل على تطوير الفكر، أما اليوم فهما تبرير لنسبية الفكر وعدم الثقة. وقد أمسى الاعتقاد في أن ازدياد جميع الوقائع سيؤدي حتما إلى معرفة الحقيقة خرافة من الخرافات؛ فالحقيقة نفسها ينظر إليها - في بعض الأنحاء - على أنها صورة ذهنية ميتافيزيقية، وواجب العلم ينحصر في جمع المعارف. إن وراء اليقين العقلي المزعوم شكا عميقا يعد الناس لقبول أية فلسفة تفرض عليهم أو للتوافق مع هذه الفلسفة.
هل يستطيع الإنسان أن يعيش بغير إيمان؟ وهلا ينبغي للرضيع أن «يجد الإيمان في صدر أمه»؟ وهلا ينبغي لنا جميعا أن نؤمن بزملائنا، وبأولئك الذين نحب وبأنفسنا؟ هل نستطيع أن نعيش بغير إيمان في صحة أنماط معينة من الحياة؟ حقا إن الإنسان بغير إيمان يمسي عقيما، يائسا، خائفا في أعماق نفسه.
إن تاريخ العلم مليء بأمثلة من الإيمان في العقل ورؤية الحق. كان كوبرنكس وكبلر وجاليليو ونيوتن متشبعين بإيمان لا يتزعزع في العقل؛ ومن أجل هذا أحرق برونو، وعانى اسبينوزا من نقمة الكنيسة عليه وحرمانه منها. إن «الإيمان» ضروري في كل خطوة من تخيل الصورة العقلية إلى صياغة النظرية؛ الإيمان بالصورة باعتبارها هدفا سليما من الناحية العقلية تنبغي متابعته، والإيمان بالفرض باعتباره رأيا محتمل الصدق معقولا، والإيمان بالنظرية النهائية، على الأقل، حتى نبلغ مرحلة الإجماع العام في صحتها. إن هذا الإيمان تمتد جذوره إلى خبرة الفرد، وإلى ثقته في قدرته على التفكير، والملاحظة والحكم. وإذا كان الإيمان الذي لا يستند إلى العقل هو قبول أمر من الأمور على اعتبار أنه صادق لسبب واحد فقط، وهو أن سلطة من السلطات - أو أكثرية الناس - تقول به، فإن الإيمان الذي يستند إلى العقل تمتد جذوره إلى العقيدة المستقلة التي تقوم على أساس الملاحظة والتفكير المنتج للفرد.
وليس التفكير والحكم وحدهما هما ميدان التجربة الذي يظهر فيه الإيمان الذي يستند إلى العقل؛ فإن الإيمان - في مجال العلاقات الإنسانية - صفة لا غنى عنها لأية صداقة أو محبة لها أهميتها؛ فإيمانك بشخص ما معناه ثقتك في الاعتماد عليه وفي ثباته على اتجاهاته الأساسية، وثقتك في لب شخصيته. ولست أعني بهذا أن الشخص قد لا يعدل عن آرائه، وإنما أعني أن دوافعه الأساسية تبقى كما هي، وأن تقديره - مثلا - لكرامة الإنسان واحترامه لها جزء من نفسه، لا ينحرف ولا يتغير.
وبنفس هذا المعنى عندنا إيمان بأنفسنا، فنحن على وعي بوجود نفس، بوجود لب في شخصيتنا لا يقبل التغير، ويبقى ثابتا خلال حياتنا برغم تغير الظروف وبغض النظر عن بعض التغيرات التي تتناول الآراء والمشاعر، هذا اللب هو الحقيقة التي تكمن وراء كلمة «أنا»، والتي على أساسها تقوم الثقة في تحقيق الشخصية. وما لم يكن لدينا إيمان في ثبات النفس تزعزع شعورنا بتحقيق ذاتيتنا، وأصبحنا نعتمد على غيرنا من الناس الذين تصبح عندئذ مصادقتهم أساس شعورنا بإدراك ذواتنا. ولا يستطيع أن يخلص للآخرين إلا من كانت له بنفسه ثقة؛ لأنه وحده يستطيع أن يثق بأنه سوف يكون هو بعينه في المستقبل كما هو اليوم، ومن ثم يحس ويعمل كما يتوقع الآن أن يفعل. إن ثقة المرء بنفسه شرط من شروط قدرتنا على الوعد بأمر ما. وما دام الإنسان - كما أشار نيتشه - يمكن أن يعرف بقدرته على الوعد، كان ذلك شرطا من شروط الوجود البشري.
ومعنى آخر من معاني توافر الإيمان بشخص ما يتعلق بما لدينا من إيمان بإمكانيات الآخرين، وبإمكانياتنا، وإمكانيات البشرية. وأبسط صورة يوجد عليها هذا الإيمان هي الإيمان الذي يتملك الأم إزاء وليدها الجديد، إيمانها بأنه سوف يعيش وينمو ويمشي ويتكلم. ومهما يكن من شيء فإن نمو الطفل بهذا المعنى يحدث بدرجة من الانتظام تجعل توقع حدوثه بغير حاجة إلى الإيمان فيما يبدو. غير أن الأمر يختلف عن ذلك فيما يتعلق بالإمكانيات التي قد لا تنمو، ومن ذلك قدرة الطفل الكامنة على أن يحب، وأن يكون سعيدا، وأن يستخدم عقله، والإمكانيات الأخرى الأخص من هذه مثل المواهب الفنية؛ فهي البذور التي تنمو وتزدهر إذا توافرت لها الظروف الملائمة لنموها ، والتي تذوي إذا لم تتوافر هذه الظروف. ومن أهم هذه الظروف أن يكون عند الأشخاص ذوي الأهمية في حياة الطفل إيمان بهذه الإمكانيات، ووجود هذا الإيمان هو الذي يحدد الفارق بين التربية ومجرد تناول الطفل؛ فالتربية معناها معاونة الطفل على أن يحقق إمكانياته، ونقيض التربية هو مجرد التناول، الذي يرتكز على أساس انعدام الإيمان بنمو الإمكانيات، وعلى الاعتقاد بأن الطفل لا يستقيم إلا إذا زوده الكبار بما يحبون، ومنعوه مما يبدو لهم غير محبوب، وليست بنا حاجة إلى الإيمان بالإنسان الآلي ما دام ليس به حياة.
والإيمان بالآخرين يبلغ ذروته في الإيمان بالجنس البشري. وقد عبر أهل الغرب عن هذا الإيمان بطريقة دينية في العقيدة اليهودية المسيحية، أما من الناحية الدنيوية فقد التمس هذا الإيمان أقوى تعبير له في الآراء السياسية والاجتماعية التقدمية خلال الأعوام المائة والخمسين الماضية. وهذا الإيمان بالبشرية - كالإيمان بالطفل - يستند إلى الرأي الذي يقول بأن إمكانيات الإنسان مهيأة على صورة تجعلها قادرة على بناء نظام اجتماعي تتحكم فيه مبادئ المساواة والعدالة والمحبة، إذا توافرت لها الظروف الملائمة. ولم يتمم الإنسان بعد بناء مثل هذا النظام الاجتماعي؛ ولذلك فإن الثقة بأنه يستطيع بناءه تحتاج إلى الإيمان. وهذا الإيمان - ككل إيمان عقلي آخر - ليس أمنية من الأماني، ولكنه يقوم على دليل ما أنجزه الجنس البشري في الماضي، وعلى التجربة الباطنية لكل فرد، على ممارسته للعقل والمحبة.
إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بغير إيمان، والنقطة الهامة لجيلنا وللأجيال القادمة هي: هل يكون هذا الإيمان إيمانا غير معقول بالقادة، والآلهة، والنجاح، أو إيمانا معقولا بالإنسان يستند إلى ممارستنا لنشاطنا المنتج الخاص؟ ⋆
المصادر ⋆
صفحة غير معروفة