غير أن الإدراك قد تم بعد ذلك في بطء وفي عسر خلال السنوات التالية، وما فتئت حتى يومنا هذا أفكر فيما أدركت، وأحاول أن أزداد له فهما. وإن كنت قد ألفت الكتب فلم يكن ذلك إلا محاولة مني للفهم، ولأن أجعل غيري كذلك يفهم. ولست البتة على يقين بأني بلغت غاية جهدي، والحقيقة هي أن اليوم الذي تركت فيه الحزب الشيوعي كان بالنسبة إلي يوما حزينا، كان كأنه يوم حداد، حداد على شبابي الضائع. وقد نشأت في إقليم يلبس أهله فيه الحداد فترة أطول منها في أي إقليم آخر. وليس من اليسير على المرء أن يتحرر من تجربة عميقة كتلك التي مرت بي في المنظمة السرية للحزب الشيوعي. إن شيئا من تلك التجربة يبقى في النفس ويترك في سلوك المرء أثرا يدوم ما دام على قيد الحياة. ويستطيع المرء في الواقع أن يلحظ كيف أن الشيوعيين السابقين يمكن تمييزهم، إنهم يؤلفون طائفة منفصلة، كما يؤلف رجال الدين السابقون والضباط المتقاعدون، وما أكثر الشيوعيين السابقين اليوم! ولقد قلت مرة لتجلياتي مازحا من عهد قريب: «إن المعركة الأخيرة سوف تنشب بين الشيوعيين والشيوعيين السابقين ...»
إن إنعام النظر في التجربة التي مررت بها ساقني إلى تعميق الدوافع إلى انفصالي الذي يرجع إلى أبعد من البواعث الطارئة التي أدت إليه. غير أن إيماني بالاشتراكية (الذي أستطيع فيما أحسب أن أقول إن حياتي كلها تشهد به) بقي أشد حيوية عندي من أي عهد سبق. ويرجع هذا الإيمان في صميمه إلى ما كان عليه حينما ثرت أول الأمر على النظام الاجتماعي القديم، وهو رفض الاعتراف بوجود قدر مقسوم، ومد الدوافع الخلقية من محيط الفرد والأسرة المحدود إلى مجال النشاط الإنساني بأسره، والحاجة إلى الأخوة الفعالة، وتأكيد سمو الإنسان الفرد على كل النظم الاقتصادية والاجتماعية التي تتعسف به. وأضفت إلى ذلك بمر السنين الشعور اللدني بكرامة الإنسان والإحساس بتقدير ذلك الحافز في الإنسان الذي يسعى دائما إلى التجاوز عن حدوده، ويرجع في أساسه إلى شعوره الأزلي بعدم الاطمئنان. ولست أحسب أن هذا الضرب من الاشتراكية خاص بي وحدي على أية صورة من الصور. وإن هذه «الحقائق المتهورة» التي ذكرتها لترجع إلى ما قبل ماركس. وقد وجدت في النصف الثاني من القرن الماضي ملاذا لها في حركة العمال التي تولدت عن الرأسمالية الصناعية، وما فتئت مصدرا من مصادر وحيها الدائمة. ولطالما عبرت عن رأيي في العلاقة بين الحركة الاشتراكية والنظريات الاشتراكية. وهذه العلاقة ليست جامدة ولا ثابتة على الإطلاق؛ فالنظريات - مع تطور الدراسات الجديدة - قد تصبح بالية أو منبوذة، ولكن الحركة تواصل سيرها. وليس من الدقة في شيء على أية حال - بالنسبة إلى الصراع القديم بين أصحاب المبادئ وأصحاب التجارب في حركة العمال - أن أعد من بين أعضاء الطائفة الثانية. ولست أتصور السياسة الاشتراكية مرتبطة بأية نظرية من النظريات، إنما هي مرتبطة بالإيمان. وكلما اشتد تدعيم النظريات الاشتراكية بأنها «تقوم على أساس علمي» كانت أقرب إلى صفة الزوال، في حين أن القيم الاشتراكية دائمة. وليس التمييز بين النظريات والقيم ملحوظا بدرجة كافية، ولكنه أساسي جذري. فعلى مجموعة من النظريات يستطيع المرء أن يؤسس مدرسة من المدارس، في حين أنه على مجموعة من القيم يستطيع أن يؤسس ثقافة من الثقافات، أو مدنية من المدنيات، أو طريقة جديدة يعيش عليها الناس معا. ⋆
المصادر ⋆
كل المقتطفات مقتبسة مما أسهم به أجنازيو سيلون في مجموعة المقالات التي صدرت تحت عنوان «المعبود الذي أخفق»، والتي جمعها رتشارد كروسمان.
الفصل الرابع
إ. م. فورستر
(1879م-...)
يمكن تعريف فورستر تعريفا صحيحا بأنه إنساني ترجع أصوله الفلسفية إلى أرازمس ومونتيني. وينبغي لنا أن نضيف إلى هذه الأصول التي تتصف بشيء من الشك البارد يسري في عروقها دفعة قوية من الرومانتيكية المعدلة وميلا شخصيا بحتا لا يسبب للقارئ ضيقا نحو البر والمحبة. كان ينعت فورستر بأنه «من أعقل الكتاب الأحياء». وإذا أمكن للعقل أن يخلو من كل أثر من آثار الغباء، كان هذا الوصف ملائما له كل الملائمة. وروايته «رحلة إلى الهند» التي نشرت في عام 1924م ربما كانت أشهر ما عرف وأكثر ما قدر له في أمريكا. ومع ذلك فبعض النقاد يرون أن روايته الأولى «حيث تخشى الملائكة أن تطأ»، التي قدم بها أهم موضوعاته وآياته الكبرى «هواردز إند»، من الأعمال الفنية التي لها قيمة أسمى.
إن إ. م. فورستر هو في الواقع أكثر من أن يكون واحدا من الكتاب الذين يتكلمون الإنجليزية في هذا العهد؛ فهو شخصية أدبية يسمونه «أستاذا» في مدرسة كمبردج بلومزبري، ويمكن أن يعد من تلاميذه صديقته الكبرى المرحومة فرجينيا وولف والروائية الموهوبة إليزابث بوين. وفورستر - كغيره من الكتاب المعاصرين المتنوعين الآخرين - اهتم اهتماما كبيرا بالنقد، وإن يكن ما أداه في هذا الباب لا يقاس إلى ما أداه ت. س. إليوت.
كان فورستر بمثابة الناقد والضمير اللاذع للطبقة الإنجليزية الوسطى المرتفعة التي تخرج أبناؤها في المدارس الخاصة، وكانوا نماذج بشرية ل «القلب الذي لم يتطور». وكان جانب من عمل فورستر يتجه نحو إثارة الوادعين، وإرغامهم على مواجهة «المنبوذين» اجتماعيا من المجتمع غير الإنجليزي أو من الطبقة الدنيا الإنجليزية. كما يتجه نحو إثارة الشعور الصحيح والتصرف التلقائي الذي ينبغي أن يحطم الوجود البشري الذي ينقسم طبقات. وبرغم هذا فليست لدى فورستر رسالة ذات صبغة «اجتماعية»، ولم يهدف إلا إلى إنسانية أغنى وأكثر اعترافا بالفرد. وقد بلغ حبه لبلاده - إنجلترا - من العمق والثقة ما جعله يوجه إليها أشد الأسئلة إقلاقا للضمير (كما فعل في روايته «رحلة إلى الهند») دون أن ينسى أنه يشغل نفسه في هذا أساسا ب «مشكلة عائلية». وربما كان ما ارتآه فورستر من عهد باكر جدا وعده الخلل المؤلم في الضمير المستبد، و«الوحشية المنطوية على الغباء التي تحطم المشكلات بدلا من أن تعمل على حلها»، ربما كان ذلك ما قوى إيمانه في وسيلة أخرى هي وسيلة الحرية والتسامح، دون أن يقع في الوهم المألوف بأن هذا المزيج المركب من الخير والشر في طبيعة البشر يمكن أن يتحلل إلى عنصرين منفصلين لا يشوب أحدهما الآخر؛ ومن ثم فهو يحيي الديمقراطية مرتين بدلا من ثلاث.
صفحة غير معروفة