والعنصر الثالث من عناصر الفلسفة هو الاهتمام بالقيم الأساسية للإنسان والمجتمع؛ فالتفكير الفلسفي يجمع بين البحث في المعرفة والقيم لكي يرفع من شأن الحياة. وليس من شك في أن كل فرد منا يشغل نفسه بهذا النوع من أنواع التقويم، والفيلسوف في هذا رجل أقوى نقدا وأشد استنارة من أي منا. وربما كان ذلك هو السبب في أننا ما زلنا نقرأ سقراط وأفلاطون وأرسطو بالرغم من أنهم من اليونان القدماء، بل إنا لنستمتع كثيرا عندما نطلع على آثارهم ونعجب بها أيما إعجاب. وإلى إدمان البحث في الإنسان - في الطبيعة وفي المجتمع - يرجع الفضل في اطراد التقدم في نظريات الأخلاق والسياسة.
ومن ثم فإن التزام البحث عن الأفكار المتكاملة المسلسلة في كل قضية من القضايا التي تهم الإنسان، هو ما يكسب الفلسفة التقليدية حيوية وجلالا أكثر من أي شيء آخر. وإن الرفع من شأن العقل وحياة العقل هو ما يوحد بين كبار الفلاسفة في سبيل تحقيق هدف واحد، وما يجعلهم قادة الفكر والأخلاق في حضارتنا. (6) علاقة الفلسفة بالأزمة الحاضرة
والآن نتساءل: وما شأن الفلسفة، بهذا المعنى، والأزمة الحاضرة؟ وقد رأينا أن الأزمة قد تكون نقطة تحول في تاريخ الحضارة الغربية التي يتعرض فيها اليوم الفرد وكرامته وحريته في أن يفكر ويعمل ويكتب كيفما شاء، للقيود الشديدة، كما أن وجوده ذاته تحف به المخاطر. وليس من شك في أن الفلسفة بصورتها القديمة لها علاقة كبرى بهذه المشكلة؛ لأنها تتعرض للآراء الأساسية في قواعد الأخلاق، وتشرح المثل والقيم التي تكمن وراء جانب كبير من حضارة الغرب. وقد أبرز فلاسفة الإغريق قيمة العقل، ومعرفة النفس، والثقافة. وصور لنا فلاسفة النهضة العقل والفرد البشري في صورة جديدة. أما فلاسفة عصر النور فقد أكدوا مجموعة جديدة من المثل الاجتماعية والسياسية، وعبروا عنها بنظرية الحكم بموافقة الشعب، كما عبروا عنها بحقوق الإنسان في «الحياة والحرية وتحقيق السعادة».
ثم إنا قد بينا فيما سبق مدى انتشار الصراع السياسي في عصرنا الحاضر. ولكي نفهم الصراع القائم بين الشيوعيين وغير الشيوعيين، وبين المجتمعات الغربية والمجتمعات غير الغربية، يجب على الأقل أن نقدم البرامج والأهداف السياسية التي تتصل بشكل نظم الحكم ووسائل بسط النفوذ لما لها من أثر في المواطن الفرد، كما يجب أن نقوم أيضا العلاقات القائمة في داخل الدولة، والعلاقات الخارجية بين الدول في العالم بأسره. وهذه الأمور في ملابساتها المباشرة من شأن رجال السياسة، ولكن السياسة في الوقت الحاضر أهم من أن تترك للساسة وحدهم. وإذا توغلنا في التحليل بلغنا حدا تكون فيه الحقائق محلا للبحث السياسي المجرد. والفلسفة السياسية تسد حاجة عاجلة لا يمكن للسياسة البحت والتحليل السلوكي أن تسدها؛ لأن كبار الفلاسفة السياسيين كانوا يهتمون بربط السلوك والتنظيم السياسي بأهداف الإنسان، وكانوا يشغلون أنفسهم بأمور ثلاثة رئيسية: تحليل الآراء الأساسية في السياسة، وشرح نظرية العلاقات الأساسية بين الناس، التي تحتاج إلى أشكال من النظم السياسية، وتقويم العوامل السياسية المختلفة في ضوء المعايير الخلقية. وأهمية العمل الذي قاموا به تنحصر في أن كل الآراء السياسية الكبرى وكل البرامج السياسية في المجتمعات المعاصرة تقريبا - سواء كانت حرة أم مرسومة مخططة - هي من نتائج قرائحهم. ويكفي أن نذكر هوبز، ولوك، وروسو، وماركس، ونيتشه، لكي ندرك الأثر الكبير للفلسفة السياسية الماضية فيما يجري في الفترة المعاصرة.
ويمكن أيضا أن ننظر إلى الأزمة على اعتبار أنها أزمة العلم والتكنولوجيا؛ أولا للهجوم الشديد الذي يتعرض له العلم والعقل من نواح عدة، وثانيا للهجوم الشديد على القيم الذي يشنه بعض رجال الدين على النظرة العلمية، وثالثا لتأثير التكنولوجيا الحربية والصناعية في حياة الإنسان. وهذه المشكلات تظهر في حياة الفرد في صورة الشك في أسس المعرفة والعقيدة، وتظهر في الأمور النظرية على شكل فجوة لا يمكن التغلب عليها بين دنيا العلم ودنيا القيم، وتظهر في الحياة الاجتماعية على صورة انعدام التناسب بين الإنسان والوسائل الفنية في تطبيق العلم. وكل هذه الأمور تؤثر تأثيرا عميقا في حياة الناس ومعتقداتهم في جميع أنحاء العالم الذي توحد لا بفعل الأهداف والمثل العليا المشتركة، ولكن بفعل التكنولوجيا الحديثة التي اكتسحت العالم كله. وقد أخذ الفلاسفة على عواتقهم أن يحللوا أسس المعرفة والدور الذي تلعبه العقيدة، وبظهور العلم الحديث وجهوا جانبا كبيرا من اهتمامهم إلى المشكلات التي أثارتها أزمة العلم والتكنولوجيا. ويكفي أن نشير هنا إلى الطريقة التجريبية الإنجليزية، وإلى الطريقة البراجمية أو العملية الأمريكية، وإلى فلسفة العلم الحالية، لكي ندرك علاقة الفلسفة بهذا الميدان.
والأزمة - أخيرا - شاملة من حيث تأثيرها في الفرد، والمشكلات المتعددة التي تثيرها متشابكة مترابطة، ولا يمكن معالجتها إلا بتجاوز حدود التخصص المهني الضيقة . وتشير إلى ذلك بالفعل أزمة القيم، والسياسة، والعلم، والتكنولوجيا. وإنما نذكر هذه المشكلات على سبيل التمثيل؛ إذ إن هناك كثيرا غيرها. والنظريات السياسية التي تحاول أن تعالج هذه المشكلات هي وحدها التي يمكن أن تلقي ضوءا على الحرية في عصرنا الراهن - حاضرها ومستقبلها. وينبغي لنا أن نجاوز حدود التصرفات السياسية ونبحث في طرق الحياة الديمقراطية، باعتبارها مجموعة من المواقف والأهداف التي تتجه إليها الأنظار.
إن الأزمة في مجموعها تؤكد ضرورة النظرة الشاملة التي هي أخص بالفلسفة منها بأي نشاط مهني مستقل؛ لأن صاحب المهنة المختص لا يسمح لغيره أن يتدخل في اختصاصه، ويتردد في ارتياد اختصاص الآخرين. وإذا سار الإنسان في هذا الشوط حتى غايته اتسعت معارفه وضاق مجاله، حتى يكاد يعرف كل شيء عن لا شيء. ويمكن بطبيعة الحال أن نهاجم رجل التعميم بعكس ذلك؛ فإن معارفه تضيق ومجاله يتسع حتى لا يكاد يعرف شيئا عن كل شيء. ولكنا حينما نعالج مجموعة من المشكلات الكبرى التي تتعلق بالوجود البشري في العصر الحاضر، لا يسعنا إلا أن نعالج أمورا تنتمي إلى مختلف الميادين معالجة المسئول صاحب الفكر المنظم. وجلي أنه ليست هناك جماعة مختصة غير جماعة الفلاسفة بالمعنى القديم تستطيع أن ترنو إلى الأمور جميعا بنظرة شاملة.
وعلى هذا الأساس نجد أن تاريخ الفلسفة ذاته يستطيع أن يلقي ضوءا على أزمتنا الحاضرة، ونستطيع أن نتبين ما كان يدور بخلد العقول العظيمة في الماضي فيما يتعلق بالعالم وبالإنسان؛ لأننا حقا تعلمنا صنع كثير من الأشياء كما تعلمنا التحكم فيها، ولكنا لم نكتسب قدرا كبيرا من الحكمة. وما زالت المشكلات التي تتعلق بطبيعة العالم والمعرفة، وبطبيعة المجتمع الطيب والحياة الطيبة تواجهنا ولا بد من إيجاد حل لها. إن إذاعات التليفزيون وصواريخ الفضاء التي تمس حياتنا في العصر الحديث قد تمدنا بإحساسات جديدة وقوى جديدة، ولكنها في الوقت ذاته تزيدنا رغبة في العثور على جواب لهذا السؤال: «ما الغرض من ذلك؟» ومن ثم فإن ما نتعلمه من تاريخ الفلسفة هو ما كان يراه جبابرة العقل بشأن القضايا الإنسانية الكبرى، وليس من شك في أن هذا الدرس الذي نتلقاه عنهم يزيدنا تمكينا من السيطرة على ما لدينا من معارف وقيم. والمقارنة بين ما نحسب أننا نعرفه ونقدره قدره اليوم وبين الأفكار والقيم التي كان يراها كبار الفلاسفة لا بد أن تمكننا من إعادة النظر في مثلنا وتوضيح ما لدينا من نظريات ومعتقدات.
إن الحضارة والثقافة من الأمور التي تنمو تدريجا وتتطور. والعقل المثقف والإنسان المتحضر لا يوجدان في عزلة، وإنما يتطوران بالاشتراك في الخبرات والتحدث إلى العقول المثقفة الأخرى والكائنات المتحضرة الأخرى. وهناك وحدة بين الناس تتمثل في وحدة جهود الإنسان في تفسير العالم ومعرفة نفسه. وتدل على ذلك الأعمال الفنية الكبرى كما تدل عليه طريقة البحث التي ينتهجها العلماء ورجال الأخلاق. وإذا كان الهدف من التربية هو إلى حد ما تزويد المرء بآراء مختلفة يقيس بها وسائل الحياة الكريمة وقيمها، فمن المؤكد إذن أن تاريخ الفلسفة هو جزء لا غنى عنه لاستمرار التربية.
والفلسفة إذا عولجت علاجا صحيحا تحمينا من التفكير التقليدي العتيق، ولا تجعلنا ننظر إلى الماضي نظرة التقديس، فنميز بين النظر إلى تاريخ الفلسفة باعتباره «أمهات الكتب» التي تحوي كل المعارف الثابتة وبين محاولات الإنسان المستمرة في سبيل معرفة العالم ومعرفة نفسه. ومن الواضح أن الحق لا ينحصر فيما تحويه أمهات الكتب، ولا بد من أن نختار لأنفسنا على أساس المعرفة الصحيحة. ولا يقوم الحق على أساس سلطان الماضي، وإنما يقوم على أساس النقد الصحيح والاختبار والتجربة التي يجب أن تكون ضربا من ضروب النشاط الذهني الدائم، ومن الواجب أن ندرك أن الحق لا يصدق على إطلاقه، ولكن ما نتعلمه من البحث الناقد في تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة هو أن بعض الطرق وبعض الوسائل أكثر نجاحا من غيرها من حيث ما توصلنا إليه من نتائج؛ ومن ثم فإن معرفتنا بما كان يفكر فيه أسلافنا، ومعرفتنا بأساس الحكم على صحة معرفتهم أو خطئها، كل ذلك يجعلنا أشد وعيا بحداثة العصر الذي نعيش فيه. (7) علاقة الفلسفة المعاصرة بالأزمة الحاضرة
صفحة غير معروفة