إننا نحب أن نكون على يقين - وسط هذا الانهيار العظيم - مما يتبقى لنا؛ لأنه هو الشيء الدائم. إننا نتدبر نشأتنا الأولى عند الملمات، وعندما يهددنا خطر الموت نبحث عن فكرة تثبت عزائمنا.
وتستطيع الفلسفة حتى في عصرنا هذا أن تمدنا بما أدرك بارمنيدز حينما بنى معبدا للإله شكرا له على هدوء العقل الذي جاءه عن طريق الفلسفة، ولكنا نملك اليوم قدرا كبيرا من الرضا والاطمئنان.
ومن الحقائق المؤلمة اليوم - بالرغم من كل ما يحيط بنا من انقلاب وتدهور - أننا ما زلنا في خطر العيش والتفكير كأن شيئا هاما في الواقع لم يحدث، وكأن كارثة كبرى قد أزعجت حياتنا الطيبة نحن الضحايا المساكين وحسب، ولكن كأن الحياة يمكن الآن أن تستمر على الأسلوب القديم كأن شيئا لم يحدث. وسواء أحسسنا اليوم بالخوف أم بالعجز أم بالغضب، فنحن نتهم غيرنا. وكل من يشعر هذا الشعور لا يزال في الشباك التي لا تجعل في الإمكان سوى هدوء عقلي خداع، وهذا الهدوء ينبغي أن يتحول إلى انعدام الهدوء؛ لأن الخطر الأكبر هو أن ما حدث قد يمر باعتباره ليس إلا كارثة عظمى، دون أن يحدث لنا نحن البشر شيء باعتبارنا بشرا، دون أن نسمع صوتا أبعد عن حدود أنفسنا، ودون أن نبلغ نفاذ البصيرة أو أن نعمل طبقا لهذا النفاذ. والهبوط الشديد في وضوح الإدراك يدفعنا عندئذ إلى التدهور نحو وجود ضيق الحدود.
3 (1-4) من مذهب العدم إلى التقاليد القديمة
إذا أبينا لنفوسنا رضاها، فمعنى ذلك أن مذهب العدم أمر حقيقي ممكن الوقوع في حدود خبرتنا. إننا ندرك انهيار المعايير الصحيحة، وندرك كيف يكون العالم مقلقلا حينما لا يدعو إلى تماسكه إيمان أو وعي جماعي. وقل من الناس من اجتاز هذه التجربة حتى في عهد نيتشه، وبعضهم مر بها منذ عام 1933م، وبعضهم مر بها بعد ذلك، أما اليوم فقلما نجد رجلا مفكرا لم يمر بها، وربما كنا اليوم نقترب من النقطة التي نكون عندها على استعداد لأن نستمع إلى الرسالة التي تحملها إلينا جميع العهود التاريخية التي تدهورت فيها الثقافة ونداء المفكرين في هذه العهود. إن مذهب العدم - كحركة ذهنية وخبرة تاريخية - يصبح تحولا إلى تمثيل أشد عمقا للتقاليد التاريخية. ولم يكن مذهب العدم من عهد قديم هو الطريق المؤدية إلى النشأة الأولى فحسب - ومذهب العدم قديم قدم الفلسفة - وإنما هو كذلك المحك الذي يبرهن على قيمة الحقيقة.
كان في الفلسفة منذ البداية شيء لا يمكن أن يعوض بغيره؛ فهي دائما وسط كل ما يحدث من تغير في الظروف البشرية، وفيما تتطلبه الحياة العملية، وخلال كل تقدم في العلوم، وكل تطور في طرق التفكير وأساليبه، تهتم بإدراك الحقيقة الأبدية الوحيدة في ظل الظروف الجديدة، مع اتباع طرق جديدة، ربما كانت أشد احتمالا في إمكان التوضيح.
ومن واجبنا اليوم وسط مذهب العدم المتطرف أن نثبت هذه الحقيقة مرة أخرى، ويفترض ذلك سلفا أن نتمثل تقاليدنا، ولا يكفي أن نعرفها ظاهرا، وأن نكتفي بالتأمل فيها، وإنما ينبغي لنا أن نستحوذ عليها في الباطن باعتبارها ملكا لنا.
ولكي نحقق هذا الهدف، يجب أن تنبذ الفلسفة أمورا عدة، منها فكرة التقدم، التي تجوز في العلوم وفي وسائل الفلسفة. إن المؤمنين بهذه الفكرة اعتقدوا باطلا أن ما يأتي مؤخرا لا بد أن يتمم ما يأتي مقدما باعتباره أقل شأنا ومجرد خطوة نحو التقدم، وباعتباره ذا قيمة تاريخية فحسب. وبهذا التصور نخطئ فنحسب الجديد باعتباره جديدا هو الحق. وباكتشاف هذا الأمر المستحدث يحس المرء أنه على قمة التاريخ. وقد كانت هذه هي النظرة الأساسية لكثير من الفلاسفة في القرون الغابرة، فكم من مرة اعتقدوا فيها أنهم تجاوزوا حدود الماضي كلها عن طريق شيء جديد كل الجدة، وإن الوقت - بذلك - قد آن في النهاية لبداية الفلسفة الحقيقية.
إذا نحن نزعنا أنفسنا عن الأساس التاريخي في سبيل شيء جديد، وإذا نحن استخدمنا التاريخ كمحجر نستمد منه المادة التي نشكلها في صورة تتفق وما نهوى، إذا نحن فعلنا ذلك كنا على الطريق التي تؤدي إلى ظلام العقيدة في العدم، ولكن ... مذهب العدم - بالجهد الشاق - فسوف يردنا إلى الحق الموثوق في صحته.
لقد انبثقت من العدم طريقة أساسية جديدة تهدينا إلى أن ننظر نظرة أخرى إلى تاريخ الفلسفة. إن ثلاثة آلاف عام من تاريخ الفلسفة تصبح كأنها حاضر واحد؛ فالمذاهب الفلسفية المتعددة تحوي في طياتها الحقيقة الوحيدة. وقد كان هيجل أول من جاهد في سبيل إدراك وحدة هذه الفكرة، غير أنه ما برح ينظر إلى كل أمر سبق كأنه مرحلة تمهيدية وحق جزئي يؤدي إلى فلسفته الخاصة، ولكن الأمر الأساسي هو أن نتمثل ما بلغته الفلسفة في كل عصر من العصور، وذلك بأن نبقى دائما على اتصال متجدد بالأعمال العظيمة التي قام بها الماضي، وأن ننظر إليها كأمر واقع لا كأمر تجاوزه الإنسان.
صفحة غير معروفة