أصل المقاطعات وتكوينها
والواقع أنه ليست لدينا أية وثائق مدونة عن أصل نشأة الشعب المصري القديم إلا ما قصته علينا الخرافات والأساطير التقليدية المتوارثة، وكل ما يمكن معرفته في هذا الصدد هو أن البلاد المصرية على ما يظهر كانت تعيش في زمن العصر الحجري القديم عيشة القوم الرعاة على أديم الهضبتين اللوبية والعربية؛ أي الغربية والشرقية اللتين تكتنفان وادي النيل. ولا بد أنه بعد نهاية هذا العهد قد تكونت طبقات من الغرين على أديم الوادي، حيث كان القوم ينشئون مؤسسات قد كشفت عنها الحفائر التي قام بها العلماء حديثا تحت تربة البلاد على عمق يتراوح بين 20 و30 مترا من سطح الخصب الحالي؛ مما جعلنا نقدر عمر تلك المؤسسات بما يقرب من 16000 سنة على وجه التقريب أو التخمين.
وتدل المعلومات الأثرية التي في متناولنا حتى الآن على أن البلاد المصرية كانت مقسمة إلى أقسام إدارية منذ عصر ما قبل الأسرات؛ مما يدل على أن التقسيم الإداري والسياسي الذي ظهر في العهد التاريخي كان سائدا في البلاد معمولا به قبل ظهور الكتابة؛ فقد وجدنا أن الشارات التي كانت تعتبر فيما بعد أسماء للمقاطعات المصرية في العهد التاريخي مرسومة على أواني الفخار التي عثر عليها من عهد ما قبل الأسرات.
وقد لاحظنا كثرة بعض هذه الشارات عن غيرها؛ مما دل على أنه من الجائز كان لها أهمية تفوق غيرها في المكانة، وذلك ما أثبتته النقوش التاريخية فعلا فيما بعد، يضاف إلى ذلك أن هذه الشارات الرمزية الدالة على تلك الأقسام السياسية قد بقيت طوال عصور التاريخ المصري تدل على نفس الإقليم الذي رمزت له رغم ما حدث في البلاد من تقلبات سياسية وتغييرات إدارية ودينية واجتماعية.
والواقع أن معظم هذه الشارات الدالة على الأقاليم المختلفة التي قسمت إليها البلاد، كانت كل منها في الأصل شارة لعشيرة أو قبيلة كانت قد تكونت في وادي النيل قبل العصر التاريخي، وهذه الشارات كانت إما صور حيوان أو شجر أو شيء آخر يدل على مظهر من مظاهر الطبيعة التي كان يلجأ الإنسان لعبادتها في بادئ الأمر لميزة خاصة امتازت بها، وذلك قبل أن يتكون ضميره، وينظر إلى العالم الداخلي في نفسه، ويفهم معنى الله على حقيقته؛ ولذلك كانت هذه الشارات في بادئ الأمر بمثابة معبودات عند المصري في أول ظهوره على أديم وادي النيل.
والواقع أننا في بداية عصر ما قبل التاريخ نجد أن البلاد المصرية كانت مقسمة إلى عدة أقاليم أو مقاطعات كما سميت بعد. وقد سمى المصري المقاطعة بلغته «سبات»، وهذه اللفظة تعني في الأصل قسما، ونفس كتابتها بالمصرية القديمة يدل دلالة واضحة على معناها؛ إذ هي عبارة عن شكل مستطيل قسم بخطوط متوازية وأخرى عمودية عليها هكذا .
وقد وجدنا عددا عظيما من شارات هذه المقاطعات على فخار ما قبل الأسرات، ووجدنا واحدة منها على لوحة «نعرمر» التي يعد من أوائل ملوك الأسرة الأولى. وقد وجدنا بعض هذه المقاطعات مكتوبة لأول مرة في نقوش أحد كبار رجال الدولة في الأسرة الثالثة وهو المسمى «متن». وفي عهد الأسرة الرابعة عثر الأستاذ «ريزنر» في معبد الملك «منكورع» على عدة مجاميع من التماثيل الثلاثية، كل مجموعة منها تعتبر رمزا لمقاطعة، وكانت كل مجموعة تمثل الملك والملكة، ثم الإله أو الإلهة التي يرمز بها للمقاطعة، ويشاهد على رأس هذا الإله أو الإلهة رسم الشارة التي تدل على اسم المقاطعة؛ مما يدل على أن هذا النظام الإداري في تقسيم البلاد إلى مقاطعات كان متبعا في طول البلاد وعرضها؛ فمثلا نجد أن الأرنب كان يرمز به للمقاطعة الخامسة عشرة من الوجه القبلي «الأشمونين الحالية»، وكذلك الصولجان كان يرمز به للمقاطعة الرابعة وهي الأقصر الحالية. غير أنه مما يؤسف له جد الأسف أن تلك المجاميع المنقطعة القرين التي عثر عليها الأستاذ «ريزنر» ليست كثيرة؛ إذ لم نجد منها إلا أربع مجموعات كاملة، وقطعا من مجموعات أخرى، وتوجد ثلاث من المجموعات السليمة في متحف القاهرة والرابعة في متحف «بوستون». وفي عهد الأسرة الثامنة وجدنا لأول مرة في التاريخ المصري منذ البداية حتى ذلك العهد قائمة تامة بأسماء مقاطعات الوجه القبلي، وعددها 22 مقاطعة، كما وجدناها في القوائم التقليدية الدينية فيما بعد.
هذا، وقد وجدنا بعض أسماء المقاطعات في الوجه القبلي والوجه البحري مذكورة في نقوش «متون الأهرام»، والمتون التي عثر عليها في عهد الدولة القديمة . وقد أشير في متن مقبرة «عنخ بي» مدير الرسائل الذي يرجع تاريخه إلى الأسرة السادسة، بأن هذا العظيم كان يحكم مقاطعات مصر الوسطى؛ أي من المقاطعة الثانية عشرة إلى الثانية والعشرين تقريبا من الوجه القبلي.
والواقع أننا لم نعثر على قائمة تامة بأسماء المقاطعات جميعها في الوجهين القبلي والبحري إلى أن عثر على القائمة التي في معبد «سيتي» الأول بالعرابة المدفونة، وأخرى في معبد «رعمسيس» الثاني في نفس الجهة، وثالثة في معبد «الكرنك» غير أنها مهشمة. على أننا لم نتعرف من تلك القوائم العدد الرسمي التقليدي الذي كان يظن أن البلاد منقسمة إليه منذ عصر ما قبل التاريخ (؟) وهو 42 مقاطعة، منها 22 في الوجه القبلي و20 في الوجه البحري. وهناك طائفة كبيرة من علماء الآثار والتاريخ المصري القديم يظنون - بل يعتقدون - أن هذا هو العدد الأصلي للمقاطعات؛ وذلك استنادا إلى ما جاء في النقوش التي يطلق عليها الآن خطأ اسم «كتاب الموتى»، وهو الذي بدأ يظهر في عالم الوجود في عهد الأسرة الثامنة عشرة؛ إذ يذكر لنا أنه كان يجلس في محكمة «أوزير» يوم القيامة اثنان وأربعون قاضيا، كل واحد منهم يمثل مقاطعة من المقاطعات التي انقسمت إليها البلاد كما يدعون وقتئذ، غير أن ما لدينا ممن القوائم التي عثر عليها من عهد الأسرة التاسعة عشرة لا ينطبق على هذا العدد، وبخاصة فيما يخص الوجه البحري؛ إذ كل ما لدينا من وثائق لا يدل على أن عدد المقاطعات في العهد الفرعوني حتى الأسرة التاسعة عشرة لم يتخط أكثر من 16 مقاطعة. نعم، وجدنا أن قائمة «سيتي الأول» بالعرابة المدفونة الخاصة بالوجه البحري قد رسم عليها ثلاثون شخصا جغرافيا، يمثل كل منها النيل، وكل واحد منها يحمل على رأسه اسما يدل على إقليم أو مكان جغرافي، وذلك بدلا من العشرين مقاطعة التقليدية التي وصلت إلينا من عهد البطالسة، ولكن عندما فحص العالم «دارسي» هذه الأشخاص وما تحمله من أسماء وصل إلى معرفة أن سبعة منها تمثل فروع النيل التي ذكرها مؤلفو اليونان والرومان فيما بعد، وقد بقي من هذه الأسماء ثمانية لم تحقق بعد. وكذلك لوحظ في هذه القائمة أن أسماء المقاطعات 17، 18، 19، 20 لم تذكر في هذه القائمة بين المقاطعات كما نعرف أسماءها فيما بعد. والواقع أن هذه القائمة لم تذكر لنا إلا 16 مقاطعة، وربما كانت السادسة عشرة هي المهشمة في هذه القائمة.
أما مقاطعات الوجه القبلي فقد بقي عددها لا يتغير منذ الأسرة السادسة، ويجوز قبل ذلك؛ وربما يرجع السبب في هذا أن وادي النيل بين «منف» و«أسوان» كان ضيقا، مما ساعد على تثبيت عدد المقاطعات تثبيتا لا تغير فيه من الجنوب إلى الشمال؛ ولا غرابة في ذلك إذ إن الصحراء التي تكتنف الوادي من جانبيه كانت عائقا منيعا، ولا تزال حتى الآن كذلك عائقا في توسيع رقعة الأرض المنزرعة، وتغيير عدد المقاطعات تبعا لذلك، وسنعود إلى الكلام في هذا الموضوع ثانية.
صفحة غير معروفة