كانت روبرتا هي التي شرحت لجورج ظاهرة القمر المحدب؛ ومن هنا جاء وصفه للقمر المحدب بأنه هدية. إن بزوغه هدية لهم الآن، بينما تنطلق بهم السيارة بين حقول القمح المظلمة. «بالفعل، ها هو.»
لا ترفض روبرتا الهدية بصمت، لكنها لا تلقاها بالترحاب أيضا. إنها مهذبة؛ تتثاءب وثمة نبرة خاصة لتثاؤبها. هذا ليس تكتيكا، ولو أنها تعرف أن اللامبالاة جذابة. والواقع جذاب. بإمكان جورج أن يستشف أي زيف في تصرفاتها؛ يمكنه دائما أن يقاوم تكتيكاتها. ولذا يتعين عليها التمادي إلى النهاية، إلى حد اللامبالاة. فيشعر حينها كم صارت منعزلة وخالية من الهموم، فيتجدد حبه لها. إنها تتمتع بقوة؛ ولكن لحظة الشروع في تقييمها، تتسرب من بين يديها. هكذا حدثت نفسها وهي تتثاءب وتتذبذب بين الاهتمام واللامبالاة. وإن استطاعت، فستظل على الحد الفاصل بينهما.
انطلقت الشاحنة التي تسع حمولة من التبغ مقدارها نصف طن - وكانت تحمل جورج وروبرتا في المقدمة وإيفا وأنجيلا في المؤخرة - على طريق الامتياز الثالث لمنطقة وايموث المعروف محليا باسم تليفون رود؛ وهو طريق ممهد بالحصى وعريض وتسير عليه سيارات كثيرة. انعطفوا إليه من طريق ريفر رود الأقل رحابة الذي يمر من أمام بيت فاليري. وتقدر المسافة من منعطف طريق ريفر رود إلى بوابة بيت جورج بميلين وربع الميل تقريبا. ويقطع طريقان جانبيان طريق تليفون رود بزوايا قائمة؛ وعلى هذين الطريقين لافتتان للتوقف مكتوب عليهما: طريق تليفون رود طريق ممتد. عبرت الشاحنة التقاطع الأول بالفعل، وعند التقاطع الثاني، من جهة الغرب، ظهرت سيارة دودج طراز 1969 خضراء داكنة تنطلق بسرعة تتراوح بين 80 و90 ميلا في الساعة. كانت السيارة تقل شابين في طريق العودة من حفل ساهر إلى بيتهما في لوجان؛ أحدهما فاقد الوعي، والثاني يقود السيارة؛ بيد أنه نسي إنارة المصابيح الأمامية، وكان يسترشد في طريقه بضوء القمر.
لم يكن هناك متسع من الوقت لقول كلمة واحدة؛ لم تصرخ روبرتا، ولم يلمس جورج المكابح. عبرت السيارة الضخمة من أمامهم بسرعة البرق وكأنها ومضة مظلمة مهولة، دون أضواء، وفيما يبدو دون صوت. خرجت السيارة من حقول الذرة المظلمة وملأت الفراغ المقابل لهم تماما كما تظهر سمكة مفلطحة ضخمة أمام الناظرين على حين غرة في حوض الأسماك. لم تكن تبعد أكثر من ياردة واحدة عن مصابيحهم الأمامية، ثم اختفت، تلاشت داخل حقول الذرة على الجانب الآخر من الطريق. واصلت الشاحنة طريقها واستمر جورج في القيادة على طريق تليفون رود، ثم انعطفوا إلى الممر، وتوقفت شاحنتهم وهم جلوس فيها، وسط الساحة المقابلة للهيكل المظلم للبيت المرمم نصفه. إن ما شعروا به ليس الرعب أو الامتنان، ليس بعد. ما كان يكتنفهم هو شعور بالغرابة، بتبدل هيئاتهم، بارتقائهم في الأعالي، بانفصالهم عن الأحداث الماضية والمستقبلية؛ شأنهم شأن السيارة الشبحية والسمكة الداكنة اللون. كانت الفروع الخشنة لأشجار الصنوبر تتمايل أعلى رءوسهم، وبزغ ضوء القمر أسفل هذه الفروع فوق الحشائش الضعيفة التي تغطي حديقتهم الجديدة.
قالت إيفا موقظة إياهم: «هل لقيتما حتفكما؟ ألم نصل إلى البيت؟»
السيدة كروس والسيدة كيد
تمتد العلاقة بين السيدة كروس والسيدة كيد إلى ثمانين عاما، وتحديدا منذ روضة الأطفال التي لم يكن قد أطلق عليها هذه الاسم حينئذ، بل كانت تسمى مرحلة التعليم الأساسي. والصورة الأولى التي تحتفظ بها السيدة كروس للسيدة كيد في مخيلتها تتمثل في وقوف السيدة كيد أمام زملائها في الصف وهي تلقي عليهم قصيدة ما، عاقدة يديها خلف ظهرها، ورافعة وجهها الصغير - الذي تزينه عيناها السوداوان - لأعلى ليرتفع صوتها الذي يشي بثقتها في ذاتها. وعلى مدار السنوات العشر اللاحقة، إذا كنت ستذهب إلى أي حفل موسيقي أو أي حدث ترفيهي، كنت ستجد السيدة كيد (التي لم تكن تعرف بالسيدة كيد حينئذ، بل ماريان باذرتون)، بقصتها الداكنة الكثيفة المتدلية باتساق فوق جبينها، ومئزرها المشدود لأعلى بجناحين عريضين متيبسين ومثبتين به، تلقي قصيدة بجدارة عالية وذاكرة حديدية. وحتى ذلك اليوم، ودون أي مبرر، ينطلق لسان السيدة كيد بالشعر وهي تجلس على كرسيها المتحرك:
اليوم اقتحمنا نحن الفرنسيين راتيسبون.
أو تقول:
أين السفن التي عهدناها؟
صفحة غير معروفة