عندما خرجا للتمشية في فصل الخريف في البساتين الجافة، أخبرها الكثير من الأمور التي كان يجب أن تخجل من جهلها بها، حدثها عن الحرب الأهلية بإسبانيا، عن عمليات التطهير في روسيا. استمعت إليه، ولكن ظل انتباهها يشرد متخفيا في أسئلة وأجوبة منطقية، ليركز على عمود سور أو حفرة لخنزير الأرض. فهمت الفكرة العامة التي كان يحدثها عنها، فقد كان يؤمن أن هناك إفلاسا عاما، وأن الحرب - التي كان يعتقد بصفة عامة أنها أزمة ضخمة ولكنها مؤقتة - كانت في الواقع مجرد جانب طبيعي لهذه الحالة. وكلما أشارت إلى أي احتمالية مفعمة بالأمل أوضح لها أنها جانبها الصواب، ولماذا حتى الآن فشلت جميع الأنظمة، وأن التغيرات العنيفة سيعقب أحدها الآخر إلى أن ... «ماذا؟» «إلى أن يحدث انهيار تام.»
كم بدا راضيا وهو يقول هذا! كيف تجادله في رؤية تجلب له هذا السلام والرضى؟
قالت له وهي تقلب يده في يدها: «أنت أسمر البشرة. لم أكن أعلم أن الأوروبيين الشماليين بشرتهم داكنة هكذا.»
أخبرها أن بشرة أبناء فنلندا منقسمة إلى لونين، بشرة المجر وبشرة الاسكندينافيين، وأن منهم السمر والشقر، وشرح لها كيف لا يمتزج لونا البشرة ويحافظ كل منهما على تفرده، لينتجا أجيالا وراء أجيال على الهيئة نفسها في الأحياء نفسها وفي العائلة نفسها.
قال لها: «عائلة جريتا مثال ممتاز؛ فجريتا اسكندينافية الأصل، عظامها ضخمة وطويلة. إنها مستطيلة الجمجمة ...» «ماذا؟» «أي رأسها طويل، وبشرتها بيضاء، وعيناها زرقاوان، وشعرها أشقر. كما أن شقيقتها كارترود خمرية اللون، وعيناها مسحوبتان قليلا وشديدتا السواد. نفس الشيء في عائلتنا؛ فبوبي يشبه جريتا، ومارجريت تشبهني، وروث آن تشبه جريتا.»
كانت فرانسيس تشعر بالإثارة والفضول عندما تسمعه يتحدث عن جريتا، عن «عائلتهما»، لم تسأله أو تتحدث عنهم قط. في البداية، لم يكن يتحدث عنهم هو الآخر، ولكن ثمة أمران قالهما لها ظلا عالقين بذهنها؛ أحدهما أنه وجريتا قد تزوجا وهو لا يزال يدرس في الجامعة، خلال منحته الدراسية، وآنذاك استمرت في العيش مع أهلها في الشمال إلى أن تخرج وحصل على فرصة عمل. جعل هذا فرانسيس تتساءل إن كانت جريتا قد حملت منه قبل الزواج. ألهذا تزوجها؟ الأمر الثاني الذي قاله - بطريقة عابرة بينما كانا يتحدثان عن أماكن يتقابلان فيها - هو أنه لم يكن خائنا قط. ولذا افترضت فرانسيس عدم خيانته لها طوال الوقت، بسبب براءتها أو غرورها، فلم تفترض للحظة واحدة أنها قد تكون حلقة في سلسلة من سيدات أقام معهن علاقات، ولكن كلمة «خائن» (لم يقل حتى «خائن لجريتا») أوحت برابطة ما. وضعت جريتا تحت الضوء أمامهما، وأظهرتها جالسة في مكان ما منتظرة إياه، هادئة وصبورة، وجديرة بالاحترام، ومظلومة. زادتها الكلمة شرفا، بل وزادها هو نفسه احتراما.
في البداية، كان هذا هو الحال، ولكن الآن خلال حديثهما، كانت أبواب هذا الحوار تفتح ولكن لا تلبث أن تنغلق بسرعة مجددا وبعنف. وخلال ذلك اكتشفت فرانسيس ملاحظات خاطفة والتي كانت تخشاها وترغب فيها في آن واحد. فذات مرة، كان يجب أن يترك السيارة مع جريتا لكي تذهب بروث آن إلى الطبيب؛ إذ كانت روث آن تعاني ألما في أذنها، وظلت تبكي طوال الليل. ومرة أخرى علمت أن تيد وجريتا كانا يضعان معا ورق الحائط على جدران الردهة الأمامية. وعلمت أيضا بمرض العائلة بأكملها بعد تناول سجق مشكوك في صلاحيته. رصدت فرانسيس أكثر من مجرد ملاحظات خاطفة، بل إنها كانت تصاب بنزلات البرد التي تصاب بها عائلة ماكافالا؛ لقد بدأت تشعر أنها تعيش معهم في حميمية غريبة وخيالية.
طرحت عليه سؤلا واحدا. «ما لون ورق الحائط الذي وضعته أنت وزوجتك في الردهة؟»
فكر قليلا قبل أن يجيب، ثم قال: «مخطط، خطوط بيضاء وفضية.»
اختيار ورق الحائط جعل جريتا تبدو في نظر فرانسيس أكثر صلابة وذكاء وطموحا مما كانت تبدو في الشارع أو خلال تسوقها في متجر بقالة سوبريور، وهي ترتدي أثوابها باهتة اللون المزركشة بالورود المفتقرة إلى الذوق الرفيع، وسراويلها الفضفاضة مربعة النقش، ومنديل الرأس فوق شعرها. ربة منزل ضخمة شقراء، والنمش يملأ بشرتها. اصطدمت سلة مشترياتها ذات مرة بذراع فرانسيس وقالت لها: «معذرة.» الكلمة الوحيدة التي سمعتها فرانسيس منها على الإطلاق. صوت خجول تعوزه العاطفة ولسان ثقيل النطق باللهجة السائدة، هذا هو الصوت الذي يسمعه تيد كل يوم في حياته، وهذا هو الجسد الذي ينام إلى جواره كل ليلة. خارت قوى فرانسيس وارتعدت مفاصلها، هناك في متجر بقالة سوبريور أمام أرفف كرافت دينر واللحم والفاصوليا، فمجرد الوجود بالقرب من هذه المرأة الغامضة الضخمة، شديدة البراءة والقوة، شوش تفكيرها وجعل جسدها يرتجف. •••
صفحة غير معروفة