قالت أديليد: «الرب ينتقم منه.» وفضحت مشاعر الإثارة والارتياح والرضى نفسها على ملامحها. فقبل زواجها من شقيق فرانسيس الأصغر سنا - الذي كان يتسم بعناده وبراءته - كانت أديليد معروفة بعلاقاتها الجنسية وكانت لها سمعة سيئة بخصوص هذا الأمر امتدت عاما أو اثنين، (وكثيرا ما كانت التوريات الجنسية تختلق على اسمها)، وكانت ممتلئة الجسم، يبدو عليها أنها متزوجة وأم لأبناء، وكانت حولاء قليلا. لم تفهم فرانسيس ما دفعها إلى مثل هذه الصداقة، أو المصاهرة، أو أي ما كان يصلح لتسميتها. كانتا تتحدثان عن الجنس والرجال وهما تجلسان في مطبخ أديليد خلال الليالي التي يخرج فيها كلارك لتدريب فريق الهوكي للشباب، وتضيفان إلى قهوتهما ويسكي كلارك الغالي (ثم تضيفان الماء إلى ما تبقى منه)، بينما تجف الحفاظات إلى جوار الموقد، وعلى الطاولة أمامهما قضبان معدنية رخيصة للعبة القطار، ودمية شنيعة بلا عينين أو ذراعين. ارتياح مخز، وانغماس آثم، وغلطة فادحة. لم يكن الرب يذكر في محادثات أديليد في تلك الأوقات، ولم تكن أديليد - في حديثها عن الجنس والرجال - قد سمعت قط مصطلح «العضو الذكري» وحاولت أن تستخدمه لكنها لم تستطع أن تتعوده، فكانت تستخدم مصطلح «قضيب»، فكانت تقول: «أخرج قضيبه.» باللذة المزعجة نفسها التي قالت بها «على خشبة الموتى.»
قالت لفرانسيس: «لا تبدين بخير، أنا متأكدة، يبدو أن الأمر قد أصابك بصدمة، تبدين مريضة.»
قالت فرانسيس: «عودي إلى البيت.»
كيف سيكون عليها أن تدفع ثمن فعلتها؟
كان هناك رجلان يعلقان مصابيح الكريسماس على أشجار البيسية الزرقاء أمام مكتب البريد. لماذا يفعلان هذا في هذه الساعة؟ لا بد أنهما قد بدآ قبل الحادث، ثم اضطرا إلى تركها. لا بد أنهما قضيا الوقت في احتساء الخمر، على الأقل هذا ما حدث مع أحدهما. كان أحدهما، كال كالاهان، عالقا وسط شبكة من المصابيح يحاول الخروج منها. أما الرجل الآخر، الزعيم كرير - وهو الاسم الذي أطلق عليه من باب السخرية لأنه لم يكن يوما زعيما لأي شيء - فوقف على مقربة منتظرا أن يخلص كال نفسه من شبكة المصابيح في الوقت الذي يلزمه. لم يتعلم الزعيم كرير القراءة أو الكتابة، ولكنه كان يعرف أين سبل السعادة ويسلكها. كانت مؤخرة شاحنتهما مليئة بأكاليل من نبات الإيلكس الصناعي وحبال مصابيح حمراء وخضراء سيتم تعليقها. لا بد أن فرانسيس - بسبب انخراطها في الحفلات الموسيقية وتقريبا كل شيء متعلق بطريقة الاحتفالات العامة التي يمكن أن يفكر فيها البلد - تعلم مكان تخزين الزينة والزخارف، وتعلم أيضا أنها تخزن عاما وراء عام في علية مبنى البلدية منسية، ثم وقت الحاجة إليها يتذكرها أحدهم في مجلس البلدية ويخرجها قائلا: «حسنا، علينا أن نفكر فيما سنفعل احتفالا بالكريسماس.» احتقرت فرانسيس هذين الأحمقين وتجاهلت تعليقهما الحبال والأنوار والأكاليل فوق الشجر. عدم الكفاءة، والأكاليل والحبال رثة المظهر، وجو الكدح العادي، كل هذا يحدث بسبب إدراك لاعقلاني لحدث ملزم يقع بصفة موسمية. وفي وقت آخر، ربما كانت ستعتبر هذه الأشياء مؤثرة، أو مثيرة للإعجاب بعض الشيء. ربما حاولت أن تشرح لتيد، الذي لم يستطع قط أن يفهم مشاعر الولاء التي تكنها لهانراتي. قال إنه يستطيع أن يعيش في مدينة، أو في البرية، أو مستعمرة على الحدود كالتي جاء منها، ولكن ليس في مكان كهذا، مثل هذا المكان الضيق، الذي به من البساطة ما يفتقر إلى امتيازات بساطة البرية، ومن القيود ما يحول دون أي تنوع حضري أو حياة.
ولكنه عاش فيه.
تذكرت فرانسيس أنها شعرت بهذا الاشمئزاز تجاه كل شيء في الصيف الماضي. كان تيد وجريتا وأبناؤهما قد سافروا لمدة ثلاثة أسابيع، متجهين إلى أونتاريو الشمالية لزيارة أقاربهم. وخلال الأسبوعين الأولين من الثلاثة، ذهبت فرانسيس إلى كوخ يطل على بحيرة هورون؛ وكان نفس الكوخ الذي تستأجره دائما. اصطحبت معها والدتها التي جلست تقرأ تحت شجرة بلسان جلعاد، وكانت فرانسيس سعيدة هناك. وفي الكوخ، كانت هناك طبعة قديمة من الموسوعة البريطانية وكانت تقرأ فيها مرارا وتكرارا المقالة غير المحدثة عن فنلندا. فتجلس في شرفة الكوخ ليلا وتسمع صوت تلاطم مياه البحيرة على الشاطئ وتفكر في أونتاريو الشمالية، حيث لم تذهب قط، وتفكر في البرية. ولكنها عندما تضطر للعودة إلى المدينة ولا تجد تيد هناك، تمر بوقت عصيب. كل صباح كانت تذهب إلى مكتب البريد ولا تجد أي رسالة منه، فتقف وتطل من نافذة مكتب البريد على مبنى البلدية، حيث كان يوجد مقياس ضخم بالأحمر والأبيض يسجل تقدم حملة بيع سندات النصر. لم تكن تستطيع تصديق أنه في أونتاريو الشمالية، في منازل أقاربه، يسكر ويأكل الولائم. لقد رحل. يمكن أن يكون في أي مكان، خارج هذا البلد؛ لم يعد موجودا بالنسبة إليها، باستثناء وجوده في الشعور الأحمق بالألم الذي تستحثه ذاكرتها. وقتها كانت تكره الجميع بالفعل، وكانت بالكاد تحدثهم بطريقة متحضرة. كرهت الناس، ودرجة الحرارة المرتفعة، ومبنى البلدية، ومقياس بيع سندات النصر، والأرصفة، والمباني، والأصوات. كانت خائفة من التفكير في هذا لاحقا، لم ترد أن تفكر كيف يعتمد شكل المنازل الجميل الباعث على الطمأنينة أو نبرة الصوت الحانية في التحيات على وجود شخص واحد في حياتها لم تكن تعرفه منذ عام مضى. كيف أدى وجوده في نفس البلدة، حتى عندما لم تستطع أن تراه أو تعرف أخباره، إلى تحقيق التوازن المطلوب لها.
كانت الليلة الأولى التي عاد فيها إلى المدينة هي ذاتها التي ذهبا فيها إلى المدرسة ولطخا نفسيهما بالطلاء الحديث. فكرت وقتذاك أن الحياة من دونه كانت تستحق التجربة، كانت مجرد الثمن الذي يجب أن تدفعه. لكنها نسيت الآن كيف كانت الحياة حينئذ، تماما مثلما يقولون إن المرأة تنسى ألم المخاض بين ولادة وأخرى.
ولكن الآن استطاعت أن تتذكر. كان ما سبق مجرد تمرين؛ شيئا اخترعته لتعذب نفسها به، الآن سيكون حقيقيا. سيعود إلى هانراتي ولكنه لن يعود إليها، ولأنه كان معها لحظة معرفته بأمر ابنه، فسيكرهها. أو على الأقل سيكره التفكير فيها لأنها ستجعله يفكر دائما في الحادث. وإذا افترضنا أن الطفل بطريقة ما ظل على قيد الحياة، قعيدا، فلن يكون هذا أفضل حالا، ليس بالنسبة إلى فرانسيس. سيفضل الزوجان الرحيل عن هنا. لقد أخبرها أن جريتا لم تحب المكان، كان هذا أحد الأمور القليلة التي قالها عن جريتا، وكانت تشعر بالوحدة، ولا تحس بالانتماء إلى هانراتي. وكم سيزداد كرهها لها الآن؟ ما تخيلته فرانسيس خلال الصيف الماضي سيصبح واقعا الصيف الحالي. سيكون في مكان ما خارج البلاد، سيجتمع شملهما هو وزوجته التي ربما تكون في أحضانه في هذه اللحظة، يواسيها ويتحدث معها بلغتهما، لكنه قال إنه لا يتحدث معها بالفنلندية، كان هذا رده على سؤال فرانسيس - وكانت فرانسيس ترى بوضوح أنه لا يحب أن تطرح عليه أسئلة - وقال إنه بالكاد يتحدث الفنلندية، ولكنها لم تصدقه. •••
قرأت فرانسيس أن أصول القبائل الفنلندية الأوغرية محاطة بالغموض، وقد أعجبها هذا التعبير؛ فلم تظن أن أي موسوعة بوسعها الاعتراف بشيء كهذا. كان يطلق على الفنلنديين الهاميون والكاريليون، وقد ظلوا وثنيين حتى القرن الثالث عشر، وكانوا يؤمنون بوجود إله للهواء، وإله للغابات، وإله للماء. حفظت فرانسيس أسماء هؤلاء الآلهة وفاجأت تيد بها: «أوكو، تابيو، أهتي.» لكن كانت هذه الأسماء غير مألوفة بالنسبة إليه؛ فالأسلاف الذين عرفهم ليسوا هم هؤلاء الوثنيين المسالمين، قاطني الغابات المجرية الذين في بعض الأماكن - طبقا للموسوعة - لا يزالون يقدمون قرابين للأشباح. كان أسلافه هم القوميين والاشتراكيين والراديكاليين المنتمين للقرن التاسع عشر، وكانت أسرته قد نفيت خارج فنلندا. لم تكن الغابة الشمالية أو أشجار الصنوبر والبتولا هي التي اشتاق إليها تيد، وإنما ردهات الاجتماعات والمكاتب الصحفية في هلسنكي وغرف المحاضرات وغرف القراءة. لم تعلق بذهنه أي طقوس وثنية (فقد قال إنها هراء عندما أخبرته فرانسيس عن تقديم القرابين إلى الأشباح)، وإنما علق بذهنه زمن انتشرت فيه الصحافة السرية، وتوزيع المنشورات بعد هبوط الليل، والمظاهرات الهالكة، وأحكام السجن المشرفة. كانوا يتظاهرون ضد السويديين، وينشرون فكرهم ضد الروس. فتساءلت فرانسيس بسذاجة لو كانت عائلتك شيوعية ألن تكون إلى جانب الروس؟ لقد اختلطت عليها التواريخ؛ فقد كان يتحدث عن زمن يسبق الثورة. ليس الأمر أن أي شيء قد اختلف الآن؛ فقد غزت روسيا فنلندا، وانحازت فنلندا رسميا لألمانيا، ولكن لم يكن ولاء تيد ليتحول أبدا، لم يكن ولاؤه سيتحول إلى كندا، التي قال إنه فيها بمثابة عدو أجنبي وكان خاضعا للمراقبة من جانب شرطة الخيالة الكندية الملكية، ولكن لم تستطع فرانسيس أن تصدق شيئا كهذا، ولكنه بدا فخورا به.
صفحة غير معروفة