فكرت في شقة دانكن. لم تكن تحتوي على ستائر، وكان المبنى الذي تقع فيه الشقة أعلى من المباني المحيطة. ولم تكن هناك محاولة لتنظيم الأثاث لإعداد المكان، وما كان هناك شيء مرتبط بشيء آخر. ولكن كان هناك اهتمام بمتطلبات خاصة متنوعة؛ فثمة منحوتة معينة توجد في ركن خلف بعض خزانات حفظ الملفات لأن دانكن كان يحب افتراش الأرض والنظر إليها في الظل. وكانت الكتب مكدسة بجوار السرير الذي كان موضوعا بالعرض في الغرفة لكي يصله النسيم من النافذة. وكل الفوضى كانت في الحقيقة تنظيما، تم التفكير فيها بعناية ولا يمكن التدخل فيها. كانت هناك سجادة صغيرة جميلة في نهاية الردهة، حيث اعتاد الجلوس والاستماع إلى الموسيقى. وكان هناك كرسي واحد ضخم ودميم بمسندين، تحفة هندسية، بجميع ملحقاته لإسناد الرأس والأطراف. سألته ليديا عن ضيوفه: كيف يستضيفهم؟ أجاب أنه لا يأتيه ضيوف. كانت الشقة له وحده. لقد كان ضيفا معروفا، وحاد الذكاء، وفاتنا، ولكنه لا يستضيف أحدا، وهذا بدا منطقيا بالنسبة إليه، بما أن الحياة الاجتماعية كانت مطلب الآخرين واختراعهم.
أحضرت ليديا زهورا، ولم تجد وعاء تضعها فيه باستثناء برطمان موضوع على الأرض بجوار السرير. وأحضرت هدايا من رحلاتها إلى تورنتو: أسطوانات وكتبا وجبنا. حفظت دروب الشقة واكتشفت أماكن يمكنها الجلوس فيها. منعت أصدقاءها القدامى، أو أي أصدقاء لها عموما، من الاتصال بها أو المجيء لزيارتها؛ لأنه كان هناك الكثير مما لن تستطيع تفسيره. غير أنهما كانا يقابلان أصدقاء دانكن أحيانا، وكانت تشعر بالتوتر في وجودهم، معتقدة أنهم سيضيفونها إلى قائمة ما، متأملين أمرها. لم تكن تحب أن تراه يمنحهم الكثير من متجر هداياه - من نوادر ومحاكاة ساخرة وذكاء مداهن - الذي كان يستخدمه أيضا لإسعادها. لم يكن يتحمل بلادة العقل. وشعرت أنه يحتقر من لم يكن ذكيا. فعليك أن تكون سريع البديهة لتصبح في مستواه في المحادثة، وعليك أن تكون نشيطا. رأت ليديا نفسها كراقصة تقف على أطراف أصابعها، جسدها كله يرتعش برقة، خوفا من تخييب أمله في المرة القادمة.
سألت الطبيب: «هل تقصد أنك تعتقد أنني لا أحبه؟» «كيف تعرفين أنك تحبينه؟» «لأني أعاني كثيرا عندما يضيق ذرعا بي. ساعتها أريد أن تنشق الأرض وتبلعني. هذا حقيقي؛ أريد أن أختبئ. وعندما أخرج إلى الشوارع يبدو لي كل وجه أنظر إليه وكأنه يحتقرني بسبب فشلي.» «فشلك في أن تجعليه يحبك.»
الآن على ليديا أن تتهم نفسها؛ فانشغالها الكامل بنفسها لا يقل عن انشغال دانكن بنفسه، ولكنه مستتر بصورة أكثر مكرا. إنها في منافسة معه، تتعلق بمن يستطيع أن يحب أفضل من الآخر. إنها في منافسة مع جميع النساء الأخريات، حتى عندما ترى أنه من السخافة أن تفعل ذلك. لا يمكنها أن تطيق سماع كلمة ثناء عليهن أو أن تعرف أنهن في ذاكرته لم يطوهن النسيان. وشأنها شأن كثير من النساء في جيلها؛ فإن فكرتها عن الحب هدامة، ولكنها ليست جادة بشكل ما، ولا تشي بالاحترام. إنها طماعة. كما أنها تتحدث بذكاء وسخرية لتخفي بهذه الطريقة توقعاتها التي يتعذر الدفاع عنها. فكانت التضحيات التي قدمتها لدانكن - في ترتيبات المعيشة، وفي مسألة الأصدقاء، علاوة على إيقاع العلاقة الحميمية بينهما ونبرة الحديث - انتهاكات لم ترتكب على نحو جاد، ولكن بطريقة صارخة. هذا هو ما لم يكن ينم عن الاحترام، هذا هو ما لم يكن لائقا. لقد قدمت له هذه القوة كهدية، ثم أخذت تشتكي لنفسها، ثم له في النهاية على أنه أخذها. لقد عزمت على أن تهزمه.
هذا هو ما تقوله للطبيب. ولكن هل هذه هي الحقيقة؟ «أسوأ شيء هو ألا أعرف الصدق في أي من هذا. إنني أقضي كل ساعات يقظتي في محاولة فهمه وفهمي ولا أتوصل إلى شيء. أتمنى بل وأبتهل. أقذف العملات في آبار الأمنيات. أعتقد أن ثمة شيئا به يقاومني تماما. ثمة شيء به يريد أن يتخلص مني وبالتالي سيجد أسبابا. ولكنه يقول إن هذا هراء، وإنني لو توقفت عن المبالغة في ردة فعلي فإننا سنسعد. يجب أن أفكر أنه ربما يكون على صواب. ربما أكون أنا السبب.» «متى تكونين سعيدة؟» «عندما يكون راضيا عني. عندما يمازحني ويستمتع بوقته معي. لا، لا. ليست السعادة هي ما أشعر به. بل ما أشعر به هو الراحة، وكأني تغلبت على تحد، إنه إحساس بالانتصار أكثر منه إحساسا بالسعادة. ولكنه قادر دوما على إفساد فرحتي.» «إذن لماذا تبقين مع شخص يستطيع دائما أن يفسد فرحتك؟» «ألا يوجد دائما من يفسد فرحتنا؟ عندما كنت متزوجة، كنت أنا من أفسد فرحتنا. هل تعتقد أن طرح هذه الأسئلة ضروري؟ ماذا لو افترضنا أنه الكبرياء وحسب؟ أنني لا أريد أن أعيش وحدي، وأريد أن يعتقد الجميع أنني أعيش مع هذا الرجل الجذاب. ماذا لو افترضنا أنه الإذلال، وأنني أريد أن أشعر بهذه المهانة؟ ما الذي سأستفيده بمعرفتي شيئا كهذا؟» «لا أعلم. ما رأيك؟» «أعتقد أنه لا بأس بهذه المحادثات عندما تكون مهتما ومنزعجا بعض الشيء، ولكن ليس عندما تكون يائسا.» «هل أنت يائسة؟»
شعرت فجأة بالإجهاد بحيث لم تستطع الكلام. كانت الغرفة التي تتحدث فيها مع الطبيب تحتوي على سجادة ذات لون أزرق غامق وأثاث مغطى بفرش مخطط من اللونين الأزرق والأخضر. وكانت هناك صورة لقوارب وصيادين معلقة على الحائط. فشعرت ليديا بمؤامرة تحاك ضدها؛ بطمأنينة زائفة، وراحة مؤقتة، وخداعات جادة. «كلا.»
بدا لها أنها ودانكن في تلك الأيام كانا وحشين متعددي الرءوس. تصدر من فم أحد الرءوس الإهانات والاتهامات، حارة وباردة، ومن فم رأس آخر تصدر اعتذارات زائفة وحجج متملقة، ومن فم رأس ثالث تصدر ثرثرة مراوغة ومنطقية، صادقة وزائفة كتلك التي تخوضها مع الطبيب. لم يكن من فم ليفتح ويصدر منه شيء مفيد، ولم يكن من فم يملك الحكمة ليغلق. وفي الوقت نفسه كانت تؤمن - رغم أنها لم تعرف أنها تؤمن بذلك - أن رءوس الوحشين هذه بحديثها الهدام والسخيف والقاسي يمكن أن تنسحب مجددا، وأن تتراجع وتعود إلى سباتها. لا بأس بما قالته الرءوس، لا بأس. فيما بعد سيصبح بوسعها هي ودانكن - بكل الأمل والثقة والذكريات الممحوة - أن يعيدا تقديم أحدهما إلى الآخر، وأن يستردا السعادة بحالتها الأولى الصافية التي بدآ بها، قبل أن يشرعا في استغلال أحدهما الآخر من أجل أهداف أخرى.
عندما قضت يوما في تورنتو حاولت استرجاع دانكن هاتفيا، واكتشفت أنه قد أسرع بالتصرف؛ فقد غير رقم هاتفه ولم يدرجه في دليل الهاتف، وراسلها عبر مديرها بأنه سيحزم أمتعته ويرسل إليها أشياءها. •••
تناولت ليديا الفطور مع السيد ستانلي. وكان طاقم التليفونات قد تناول طعامه ورحل للعمل قبل ضوء النهار.
سألت السيد ستانلي عن زيارته للمرأة التي كانت تعرف ويلا كاثر.
صفحة غير معروفة