في أثناء حوارنا هذا كنا نسير ذهابا وإيابا عبر صفوف الذرة باحثين عن الحجر. بحثنا في أرجاء الحقل ولم يكن موجودا. قال: إن جانب الحقل بالطبع آنذاك ليس بالضرورة هو نفس جانب الحقل اليوم. لكن الحقيقة أنه ربما خلال زراعة الحقل بالذرة كان الحجر يقف في الطريق، فقرروا جره إلى مكان آخر. قال: إن بوسعنا الذهاب إلى كومة الأحجار الموجودة بالقرب من الطريق لنرى ما إذا كنا سنتعرف عليه.
فقلت له: إننا يجب ألا نزعج أنفسنا بهذا؛ فأنا لست متأكدة من أنني سأتعرف عليه وسط أكوام من الحجارة.
فرد: «ولا أنا.» وكان صوته يحمل نبرة إحباط. سألت نفسي ما الذي كان يتوقع رؤيته، أو الإحساس به.
تساءلت عما أتوقع أنا نفسي أن أراه أو أحس به.
لو كنت أصغر سنا، لتصورت قصة ما: كنت سأصر أن السيد بلاك وقع في غرام إحدى عماتي، وأن إحدى عماتي - ليست بالضرورة من يحبها - تحبه. كنت سأتمنى أن يأتمنهن - أو يأتمن إحداهن - على أسراره، وعلى سبب قضاء حياته في كوخ بمقاطعة هورون، بعيدا عن موطنه. ولاحقا، كان يمكن أن أصدق أنه أراد ذلك، ولكنه لم يسر لهن بهذا ولا بحبه. كنت سأعقد رابطة منطقية ومرعبة بين صمته وطريقة موته. الآن ما عدت أصدق أن أسرار الناس واضحة ويمكن تناقلها، ولا أن مشاعرهم متفتحة ويسهل اكتشافها؛ لا أصدق هذا. الآن أستطيع فقط أن أقول إن عماتي كن يفركن الأرضية بغسول القلى، ويجمعن الشوفان، ويحلبن الأبقار بأيديهن. ولا بد أنهن قد أخذن لحافا إلى الحظيرة ليموت عليه الرجل، ولا بد أنهن قد تركن الماء يقطر من الكوب الصفيح على فمه المعذب. هذه كانت حياتهن. قريبات أمي كن يتصرفن بشكل مختلف؛ كن يتأنقن، ويلتقطن الصور بعضهن لبعض، وينطلقن في رحلات. وكيفما كانت طريقة تصرفهن، فقد متن جميعا. أحمل شيئا منهن داخلي في كل مكان أذهب إليه. لكن الجلمود قد اختفى، وقمة هيبرون اقتطعت من أجل الحصى، والحياة التي دفنت هنا هي حياة يجب أن تفكر مليا قبل أن تندم عليها.
كنافة البحر
في نهاية الصيف، أبحرت ليديا بالقارب إلى جزيرة على مقربة من الساحل الجنوبي لنيو برانزويك، حيث كانت تنوي قضاء الليلة؛ فقد تبقت لها بضعة أيام قبل رحيلها إلى أونتاريو. وكانت تعمل محررة لدى أحد الناشرين بتورنتو، كما كانت أيضا شاعرة، ولكنها لم تكن تذكر ذلك ما لم يكن الناس يعرفونه بالفعل . وطيلة الثمانية عشر شهرا الماضية كانت تعيش مع رجل في كينجستون، ولكن انتهى الأمر الآن؛ حسبما ترى.
كانت ليديا قد لاحظت شيئا انتابها، في هذه الرحلة إلى ماريتايمز، وهو أن الناس لم تعد مهتمة بالتعرف عليها. لم يكن السبب أنها قد أحدثت كثيرا من الجلبة، سابقا، ولكن كان هناك شيء تستطيع أن تعول عليه. كانت في الخامسة والأربعين من العمر، ومطلقة منذ تسع سنوات. وكان ولداها قد استقلا بحياتهما، رغم بعض فترات التراجع والارتباك. لم يزد وزنها أو يقل، ولم يسؤ مظهرها بأية صورة تنذر بالخطر، ولكنها مع هذا انسلخت عن المرأة التي كانت عليها وتحولت إلى امرأة أخرى، وقد لاحظت هذا في رحلتها. لم تفاجأ لأنها كانت في حالة جديدة وغريبة آنذاك. لقد بذلت مجهودات كبيرة، وحاولت محاولات متتالية، وظلت المحاولة تتبع الأخرى إلى أن نجحت في مساعيها. أحيانا كانت توشك على الفشل. وفي أحيان أخرى، كان مجرد ترويها وسيطرتها الظاهرية على ما كانت تفعله، وطريقة حياتها؛ كل ذلك كان يرفع معنوياتها.
وجدت ليديا فندقا سياحيا يطل على رصيف الميناء الذي تنتشر عليه أفخاخ سرطان البحر، بالإضافة إلى المتاجر والبيوت القليلة المبعثرة التي تشكل القرية. وأخذتها امرأة في مثل عمرها تقريبا، كانت تطهو الغداء، إلى غرفة رخيصة وعتيقة الطراز في الطابق العلوي. لم تلحظ ليديا وجود أي نزلاء غيرها، رغم أن الغرفة المجاورة لها كانت مفتوحة وبدا لها أن أحدا يقيم فيها، ربما طفل. أيا كان النزيل، فقد ترك العديد من الكتب المصورة على الأرضية بجوار السرير.
ذهبت للتمشية في الزقاق شديد الانحدار الواقع خلف الفندق، وشغلت نفسها بذكر أسماء الشجيرات والأعشاب. كان نباتا عصا الذهب والزهرة النجمية البرية قد ازدهرا، وبدا نبات خشب البقس الياباني شائعا هنا، رغم ندرته في أونتاريو. وكانت الحشائش فارعة الطول وخشنة، بينما اتسمت الأشجار بالقصر. كان ساحل الأطلسي، الذي لم تره قط من قبل، كما تخيلته تماما: الحشائش المثنية، والمنازل الخاوية، وضوء البحر. فبدأت تتساءل عما سيكون عليه شكل الحياة هنا، سواء ظلت المنازل متدنية الأسعار أو بدأ الناس من الخارج في شرائها كلها. شغلت نفسها في أغلب الوقت خلال هذه الرحلة بحسابات من هذا النوع، وأيضا بأفكار حول كيفية كسب قوت يومها بطريقة جديدة، تختلف عن أي شيء مارسته من قبل. لم تفكر في كسب قوت يومها من كتابة الشعر، ليس فقط لأن دخلها عندئذ سيكون متدنيا جدا، ولكن لأنها فكرت - مثلما فكرت مرات لا تحصى في حياتها - أنها قد لن تكتب قصائد بعد الآن. فكرت في أنها لا تجيد الطهي بدرجة كافية تمكنها من ممارسته مقابل المال، ولكنها تستطيع التنظيف. كان هناك فندق سياحي آخر على الأقل بخلاف ذلك الذي كانت تمكث فيه، كما أنها رأت لافتة تعلن عن استراحة على الطريق العام. كم عدد ساعات التنظيف التي يمكن أن تحصل عليها لو نظفت الأماكن الثلاثة، وما ثمن ساعة التنظيف الواحدة؟
صفحة غير معروفة