عقيدة أهل السنة في الصحابة لناصر بن علي
الناشر
مكتبة الرشد،الرياض
رقم الإصدار
الثالثة
سنة النشر
١٤٢١ هـ/٢٠٠٠ م
مكان النشر
المملكة العربية السعودية
تصانيف
الجزء الأول
الباب الأول: الثناء في القرآن والسنة على الصحابة
الفصل الأول: الثناء عليهم عموما في القرآن والسنة وأقوال السلف
المبحث الأول: الثناء عليهم في القرآن
...
الباب الأول الثناء في القرآن والسنة على الصحابة
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: الثناء عليهم عمومًا في القرآن والسنة وأقوال السلف.
الفصل الثاني: الثناء على أصناف معينة ﵃.
الفصل الثالث: فضل العشرة المبشرين بالجنة.
الفصل الرابع: ما جاء في فضل الصحابة من أهل بيت النبي ﷺ.
الفصل الأول
الثناء عليهم عمومًا
في الكتاب والسنة وأقوال السلف
الفصل الأول
الثناء عليهم عمومًا في الكتاب والسنة وأقوال السلف
وفيه مباحث:
المبحث الأول: الثناء عليهم في القرآن.
المبحث الثاني: الثناء عليهم في السنة.
المبحث الثالث: الثناء عليهم في أقوال السلف.
المبحث الأول الثناء عليهم في القرآن
إن أهل السنة والجماعة يثبتون فضل الصحابة ﵃ الذي نطق به القرآن الكريم المنزل من لدن حكيم حميد على نبيه محمد ﷺ، كما يثبتون جميع ما صح في فضلهم عن رسول الله ﷺ سواء كان هذا الفضل على وجه العموم، أو على وجه الخصوص الكل يثبتونه ويعتقدونه اعتقادًا جازمًا ويسلمون به لأولئك الأطهار الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ وصاغهم أعظم صياغة ليكونوا وزراء لنبيه ﵊، وليحملوا رسالته من بعده، ويبلغوها إلى جميع الناس في هذه المعمورة ولقد أثنى الله عليهم في كتاب الكريم على سبيل الجملة في آيات كثيرة ومواضع شتى منها:
١- قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ ١ هذه الآية الكريمة وجه الله تعالى فيها الخطاب إلى جميع الأمة المحمدية من أولها إلى أن تقوم الساعة وهذا الخطاب يتضمن أنه سبحانه جعلهم خيار الأمم ليكونوا يوم القيامة شهداء على الناس، والوسط في الآية بمعنى الخيار والأجود ولكن أولوية الدخول في هذا الخطاب إنما هو لأصحاب رسول الله ﷺ قبل بقية الأمة الإسلامية إذ هم أول من وجه إليهم هذا الخطاب في هذه الآية وهم الموجودون حين نزوله.
قال العلامة ابن جرير الطبري مبينًا معنى هذه الآية ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾: " كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد ﵊ وبما جاءكم
_________
١ـ سورة البقرة آية / ١٤٣.
1 / 55
به من عند الله فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل كذلك خصصناكم ففضلناكم على غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم أمة وسطًا ... والوسط في كلام العرب الخيار يقال: فلان وسط الحسب في قومه أي: متوسط الحسب إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه وهو وسط في قومه وواسط ... وأرى أن الله تعالى ذكره: إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين فلا هم أهل غلو فيه، غلو النصارى الذين غلوا بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها ... إلى أن قال: القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ والشهداء جمع شهيد: فمعنى ذلك: وكذلك جعلناكم أمة وسطًا عدولًا شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها ويكون رسولي محمد ﷺ شهيدًا عليكم بإيمانكم به وبما جاءكم به من عندي" أ. هـ١
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾: " المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطًا أي: جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم والوسط العدل وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها.
وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ قال عدلًا قال: هذا حديث حسن صحيح٢ وفي التنزيل ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ ٣ أي: أعدلهم وخيرهم ... ولما كان الوسط
_________
١ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن ٢/٨.٦.
٢ـ سنن الترمذي ٤/٢٧٥.
٣ـ سورة القلم آية / ٢٨.
1 / 56
مجانبًا للغلو والتقصير كان محمودًا أي: هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم وقوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ أي: في المحشر للأنبياء على أممهم.١
وقد روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: "يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت فيقول نعم يا رب، فتسئل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقول: من شهودك فيقول: محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون". ثم قرأ رسول الله ﷺ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ قال: عدلًا ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ . ٢
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾: "يقول تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم ﵇ واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسط هاهنا الخيار والأجود كما يقال: قريش أوسط العرب نسبًا ودارًا أي أخيرها وكان رسول الله ﷺ وسطًا في قومه أي: أشرفهم نسبًا ... ولما جعل الله هذه الأمة وسطًا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال تعالى: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ .٣
وقال السفاريني٤ رحمه الله تعالى مبينًا معنى الآية: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
_________
١ـ الجامع لأحكام القرآن ٢/١٥٣-١٥٤.
٢ـ صحيح البخاري ٤/٢٦٨.
٣ـ تفسير القرآن العظيم ١/٣٣٥، والآية رقم ٧٨ من سورة الحج.
٤ـ هو محمد بن أحمد من سالم السفاريني شمس الدين أبو العون عالم الحديث والأصول والأدب ولد سنة أربع عشرة ومائة وألف، وتوفي سنة ثمان وثمانين مائة وألف هجرية، انظر: ترجمته في الأعلام للزركلي ٦/٢٤٠.
1 / 57
أُمَّةً وَسَطًا﴾ الآية أي: أمة خيارًا عدولًا فإن هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإراداتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم فهم شهداؤه ولهذا نوه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم. أ. هـ١
فإذن معنى الآية الكريمة: أن الله تعالى كما جعل قبلة أمة محمد ﷺ خير القبل وجعلها متوسطة بين المشرق والمغرب كذلك جعلهم خير الأمم وسطًا بين الغلو والتقصير فلم يغلوا غلو النصارى حيث وصفوا عيسى ﵊ بالألوهية، ولم يقصروا تقصير اليهود حيث وصفوه بأنه ولد زنا فأخبر - سبحانه - بما أنعم به على أمة محمد ﷺ من تفضيله لها بالعدالة والشهادة على سائر الأمم يوم القيامة، وعلى هذا فلا ريب ولا شك في أن أصحاب رسول الله ﷺ هم أحق من كل أحد من أمته ﵊ بهاتين الصفتين ألا وهما: العدالة والشهادة على سائر الأمم يوم القيامة بأن الرسل قد بلغوا أممهم ما أنزل الله إليهم من الرسالات السماوية.
قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ ٢ وفي هذه الآية الكريمة بين الله تعالى أنه جعل أمة محمد خير أمة أخرجت للناس وذلك بسبب ما اتصفت به من القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما استقر في قلوبهم من الإيمان بالله والصحابة ﵃ هم أول وأفضل من دخل في هذا الخطاب وحاز قصب السبق في هذه الخيرية بلا نزاع لأنهم أول من خوطب بهذه الآية الكريمة قال الزجاج٣ وأصل الخطاب لأصحاب النبي ﷺ وهو يعم سائر
_________
١ـ لوامع الأنوار البهية ٢/٣٨٤.
٢ـ سورة آل عمران آية / ١١٠.
٣ـ هو إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج عالم بالنحو واللغة ولد ببغداد سنة إحدى وأربعين ومائتين وتوفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، انظر: ترجمته في وفيات الأعيان ١/٤٩-٥٠، تاريخ بغداد ٦/٨٩.
1 / 58
أمته.١ وقال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى بعد ذكره لهذه الآية: "وهذا اللفظ وإن كان عامًا فالمراد به الخاص وقيل هو وارد في الصحابة".أ. هـ٢
وقال السفاريني رحمه الله تعالى: " ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قيل: اتفق المفسرون أن ذلك في الصحابة لكن الخلاف في التفاسير مشهور ورجح كثير عمومها في أمة محمد ﷺ وكذلك قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ ٣ وهذا خطاب للموجودين حينئذ" أ. هـ٤
وأخرج الإمام البخاري بإسناده إلى أبي هريرة ﵁: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قال: "خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام".٥
وقال العلامة ابن جرير الطبري: "اختلف أهل التأويل في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ فقال بعضهم: هم الذين هاجروا مع رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة وخاصة من أصحاب رسول الله ﷺ.
قال عبد الله بن عباس ﵄: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قال: هم الذين هاجروا مع النبي ﷺ إلى المدينة.
وعن السدي: أنه قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ قال عمر بن الخطاب: لو شاء الله لقال أنتم
_________
١ـ معاني القرآن للزجاج ١/٤٦٧، زاد المسير ١/٤٣٨-٤٣٩.
٢ـ الكفاية ص/ ٩٤.
٣ـ سورة البقرة آية/ ١٤٣.
٤ـ لوامع الأنوار البهية ٢/٣٧٧.
٥ـ صحيح البخاري ٣/١١٣.
1 / 59
فكنا كلنا ولكن قال "كنتم" في خاصية من أصحاب رسول الله ﷺ ومن صنع مثل صنيعهم كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وعنه ﵁ أنه قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قال: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.
وعن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجة حجها ورأى من الناس رعة١ سيئة فقرأ هذه ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ الآية ثم قال: يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله منها.
وقال الضحاك في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قال: هم أصحاب رسول الله ﷺ خاصة يعني وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم.
وقال آخرون: معنى ذلك كنتم خير أمة أخرجت للناس إذ كنتم بهذه الشروط التي وصفهم - جل ثناؤه - بها فكان تأويل ذلك عندهم كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ... وعن قتادة قال: كان الحسن يقول: نحن آخرها وأكرمها على الله.
وبعد ذكره لأقوال المفسرين في هذه الآية قال: "وأولى الأقوال بتأويل الآية ما قال الحسن ثم ساق بإسناده إلى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ألا إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله". ٢
فابن جرير رحمه الله تعالى رجح حمل الآية على عموم الأمة وأيد العموم
_________
١ـ قال الأصمعي: الرعة الهدي وحسن الهيئة، أو سوء الهيئة يقال: قوم حسنة رعتهم أي: شأنهم وأمرهم وأدبهم وأصله من الورع وهو الكف عن القبيح. أ. هـ لسان العرب ٨/٣٨٨، وانظر: النهاية في غريب الحديث ٥/١٧٥.
٢ـ جامع البيان ٤/٤٣-٤٥.
1 / 60
بحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده وهذا الحديث عند الترمذي١ وابن ماجه٢ والحاكم٣ بلفظ: "أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله".
قال الحافظ في الفتح وله شاهد مرسل عن قتادة عن الطبري٤ رجاله ثقات وفي حديث علي عند أحمد٥ بإسناد حسن: أن النبي ﷺ قال: " ... وجعلت أمتي خير الأمم". ٦
وممن حمل الآية على العموم في جميع الأمة الحافظ ابن كثير فإنه قال بعد ذكره لأقوال المفسرين: "والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة كل قرن بحسبه وخير قرونهم الذي بعث فيهم رسول الله ﷺ ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم كما قال في الآية الأخرى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ أي: أخيارًا ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ أ. هـ٧
وعلى هذا فمن أراد أن يوسم بسمة الخيرية التي وسم بها صحابة رسول الله ﷺ كما شهد لهم رب العالمين بها في الآية السابقة التي نحن بصدد الحديث عنها فليتحل بصفاتهم وأخلاقهم ويتبع المنهج الذي التزموه وساروا عليه.
قال الحافظ ابن كثير بعد أن ساق الأحاديث الثابتة في فضل أمة محمد ﷺ: "فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ فمن اتصف من هذه الأمة
_________
١ـ سنن الترمذي ٤/٢٩٤.
٢ـ سنن ابن ماجه ٢/١٤٣٣.
٣ـ المستدرك ٤/٨٤ وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
٤ـ جامع البيان ٤/٤٥.
٥ـ المسند ١/٩٨.
٦ـ الفتح ٨/٢٢٥.
٧ـ تفسير القرآن العظيم ٢/٨٩ والآية رقم ١٤٣ من سورة البقرة.
1 / 61
بهذه الصفات دخل معهم في المدح: ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله: ﴿كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ ١
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ٢
هذه الآية الكريمة، الخطاب فيها موجه لعباده المؤمنين إلى أن تقوم الساعة وهي تتضمن وعدًا من الله ﷿ لهذه الأمة وهذا الوعد هو أن من ارتد عن دين الإسلام فإنه يأتي - سبحانه - بقوم ينصرون هذا الدين وبين - سبحانه - أنه يحبهم ويحبونه وأن فيهم رقة ولينًا لإخوانهم المؤمنين، كما أنهم متصفون بالغلظة والشدة على الكافرين، وأنهم يجاهدون في سبيل الله من كفر بهذا الدين ولا يخافون في الحق من لوم اللائم، وهذه الصفات الطيبة وإن كانت عامة في جميع المؤمنين إلا أن أصحاب رسول الله ﷺ وفي مقدمتهم - الصديق أبو بكر - هم أقعد وأحق وأولى بهذه الصفات من كل مؤمن يأتي بعدهم فهم أول من يتناوله الخطاب ويدخل فيه دخولًا أوليًا.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله وبرسوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به نبيهم محمد ﷺ ﴿مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ يقول: من يرجع منكم عن دينه الحق الذي هو عليه اليوم فيبدله ويغيره بدخوله في الكفر؛ إما في اليهودية أو النصرانية، أو غير ذلك من صنوف الكفر فلن يضر الله شيئًا وسيأتي الله بقوم
_________
١ـ المصدر السابق ٢/٩٨ والآية رقم ٧٩ من سورة المائدة.
٢ـ سورة المائدة آية / ٥٤.
1 / 62
يحبهم ويحبونه يقول: فسوف يجيئ الله بدلًا منهم بالمؤمنين الذين لم يبدلوا ولم يغيروا ولم يرتدوا بقوم خير من الذين ارتدوا وبدلوا دينهم، يحبهم الله ويحبون الله وكان هذا الوعيد من الله لمن سبق في علمه أنه سيرتد بعد وفاة نبيه محمد ﷺ وكذلك وعده من وعد من المؤمنين ما وعده في هذه الآية لمن سبق له في علمه أنه لا يبدل ولا يغير دينه، ولا يرتد، فلما قبض الله نبيه ﷺ ارتد أقوام من أهل الوبر وبعض أهل المدر فأبدل الله المؤمنين بخير منهم كما قال تعالى ذكره، ووفى للمؤمنين بوعده وأنفذ فيمن ارتد منهم وعيده ... إلى أن قال: ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أتى الله بهم المؤمنين وأبدل المؤمنين مكان من ارتد منهم. فقال بعضهم: هو أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه، وروى بإسناده إلى الحسن البصري في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ قال: هذا والله أبو بكر وأصحابه.
وقال آخرون: يعني بذلك قومًا من أهل اليمن، وقال بعض من قال ذلك منهم: هم رهط أبي موسى الأشعري: عبد الله بن قيس ثم روى بإسناده إلى عياض بن غنم الأشعري قال: لما نزلت هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ قال: أومأ رسول الله ﷺ إلى أبي موسى بشيء كان معه فقال: هم قوم هذا.
وقال آخرون: بل هم أهل اليمن جميعًا.
وذكر بإسناده إلى مجاهد في قوله تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ قال: أناس من أهل اليمن وقال آخرون: هم الأنصار.
وروى بإسناده إلى السدي في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ قال: إنهم الأنصار.١
وقال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
_________
١ـ جامع البيان ٦/٢٨٢-٢٨٥، زاد المسير ٢/٣٨١-٣٨٢، تفسير البغوي على حاشية الخازن ٢/٥٤.
1 / 63
آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ الآية. قال: "يقول تعالى مخبرًا عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله سيستبدل به من هو خير لها وأشد منعة وأقوم سبيلًا كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ ١ ... وذكر عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: إنها نزلت في الولاة من قريش.
وعن الحسن البصري: أنها نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر.
وعن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ قال: هؤلاء قوم من أهل اليمن، ثم من كندة ثم من السكون ... إلى أن قال: وقوله تعالى: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ هذه صفات المؤمنين الكمل أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه متعززًا على خصمه وعدوه وفي صفة رسول الله ﷺ أنه الضحوك القتال فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه.٢
وكل ما تقدم من تنوع سبب نزول الآية في أنها نزلت في الأشعريين، أو في أحياء من أهل اليمن، أو في الولاة من قريش، أو في الأنصار فإن ذلك لا ينافي عموم الآية فالآية عامة في كل مؤمن يحب الله ويحبه، ويوالي فيه، ويعادي فيه ولا يخاف في الله لومة لائم، وكان أبو بكر وأصحابه أسعد الناس بذلك وأقدمهم وأسبقهم إليه وهو أول من تناولته الآية ﵁ وأرضاه وعن أنصار الإسلام وحزبه أجمعين، ومما يؤيد هذا ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة ﵁ قال: لما توفي رسول الله ﷺ واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر ﵁: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله ـ
_________
١ـ سورة محمد آية / ٣٨.
٢ـ تفسير القرآن العظيم ٢/٥٩٥
1 / 64
﷿" فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم علي منعه، فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله ﷿ قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.١
هذا وفي الآية السابقة دلالة واضحة على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ﵃ إذ أنهم جاهدوا في الله ﷿ في حياة رسول الله ﷺ وجاهدوا المرتدين وسائر الكفرة بعد وفاته ﷺ ومن المقطوع به أن الصفات المذكورة في الآية المتقدمة متوفرة فيهم ومنطبقة عليهم ﵃ أجمعين.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ ٢
الموصوفون في الآية الأولى من هذه الآيات للصفات الثلاث التي هي الإيمان والهجرة والجهاد هم المهاجرون الأولون الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأولادهم إيثارًا لله ولرسوله من أجل إعلاء كلمة الله، وإظهار الدين الإسلامي الحنيف على سائر الأديان سواء لأنه الدين الحق الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه والموصوفون في الآية نفسها بالإيواء والنصرة هم الأنصار الذين هم الأوس
_________
١ـ صحيح البخاري ١/٣٤٣، صحيح مسلم ١/٥١-٥٢.
٢ـ سورة الأنفال آية / ٧٢-٧٤.
1 / 65
والخزرج فإنهم آووا الرسول وأصحابه المهاجرين في منازلهم ونصروا نبي الله ﵊ لمقاتلة أعداء الدين، ثم بين - سبحانه - الولاء والتلاحم الثابت بين المهاجرين والأنصار بقوله: ﴿أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ أي: في النصرة والمساعدة. وهذا مما يؤكد قطع المولاة بينه وبين الكفار والآية الأخيرة من الآيات السابقة أخبر تعالى عنهم بحقيقة الإيمان وأنه - سبحانه - سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن ذنوبهم إن وجدت وبالرزق الكريم وهو الحسن الكثير الطيب الشريف الدائم الأبدي المستمر الذي لا ينقطع ولا ينقص، ولا يسأم ولا يمل لتنوعه وحسنه.
قال العلامة ابن كثير عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا﴾ الآية: ذكر تعالى أصناف المؤمنين وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاءوا لنصرة الله ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك. وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم فهؤلاء بعضهم أولياء بعض ... وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ بل أقاموا في بواديهم فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيب ولا في قسمها إلا ما حضروا فيه القتال. أ. هـ١
قال أبو عبد الله القرطبي عند قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ الآية: "حقًا" مصدر أي: حققوا إيمانهم بالهجرة والنصرة وحقق الله إيمانهم بالبشارة في قوله: ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ أي: ثواب عظيم. أ. هـ٢
والمقصود أن الآيات المتقدمة اشتملت على الثناء الحسن على عموم الصحابة
_________
١ـ تفسير القرآن العظيم ٣/٣٥١-٣٥٢.
٢ـ الجامع لأحكام القرآن ٨/٥٨
1 / 66
من مهاجرين وأنصار ﵃ أجمعين.
وقال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ ١.
هذه الآية الكريمة اشتملت على أبلغ الثناء من الله رب العالمين على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان حيث أخبر تعالى أنه رضي عنهم ورضوا عنه بما أكرمهم الله به من جنات النعيم والنعيم المقيم فيها الذي لا يفنى ولا يبيد، فقد خسر نفسه بعد هذا من ملأ قلبه ببغضهم واستعمل لسانه في سبهم والوقيعة فيهم كالطائفة المخذولة من الرافضة التي عميت عن ثناء الله عليهم في كتابه العزيز بمثل هذا الثناء وغيره فأخذوا يعادونهم ويبغضونهم ويسبونهم عياذًا بالله وهذا يدل على أن قلوبهم انتكست وعقولهم فسدت وإلا فأين هم من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم ورضوا عنه؟. وقد عصم الله أهل السنة والجماعة مما وقع فيه الرافضة فلم يقولوا في أسلاف هذه الأمة منكرًا، أو يطعنوا فيهم طعنًا، فلم يقولوا في المهاجرين والأنصار وأعلام الدين ولا في أهل بدر وأحد وأهل بيعة الرضوان إلا أحسن المقال.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ٢.
وفي هذه الآية المباركة ثناء آخر من الله تعالى على النبي الكريم وصحبه الأكرمين من المهاجرين والأنصار ألا وهو إخباره تعالى أنه من لطفه وإحسانه أن تاب عليهم فغفر لهم الزلات ووفر لهم الحسنات ورقاهم إلى أعلى الدرجات وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقة ولهذا قال: ﴿الَّذِينَ
_________
١ـ سورة التوبة آية / ١٠٠.
٢ـ سورة التوبة آية / ١١٧.
1 / 67
اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ أي: خرجوا معه لقتال الأعداء في غزوة تبوك وكانت في حر شديد وضيق من الزاد والركوب وكثرة عدد مما يدعو إلى التخلف فاستعانوا الله تعالى وقاموا بذلك ﴿مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ﴾ أي: تنقلب قلوبهم ويميلوا إلى الدعة والسكون ولكن الله ثبتهم وقواهم١ رضوان الله عليهم أجمعين وأعظم بها من منقبة لأولئك الصفوة حيث شملهم الله تعالى بالتوبة عليهم ومن تاب الله عليه تحققت سعادته في الدار الآخرة.
قال عبد الله بن عباس ﵄: من تاب الله عليه لم يعذبه أبدًا.٢
قال أبو بكر أحمد بن علي الجصاص: "وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ فيه مدح لأصحاب النبي ﷺ الذين غزوا معه من المهاجرين والأنصار وإخبار بصحة بواطن ضمائرهم وطهارتهم لأن الله تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضي عنهم ورضي أفعالهم وهذا نص في رد قول الطاعنين عليهم والناسبين لهم إلى غير ما نسبهم الله إليه من الطهارة ووصفهم به من صحة الضمائر وصلاح السرائر ﵃".٣
قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ .٤
الوعد بالاستخلاف في هذه الآية عام يدخل تحته كل من تولى وظيفة من
_________
١ـ انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي ٣/١٤٥.
٢ـ ذكره البغوي في تفسيره المسمى معالم التنزيل ٣/١٢٩. على حاشية الخازن.
٣ـ أحكام القرآن للجصاص ٣/١٦٠.
٤ـ سورة النور آية / ٥٥.
1 / 68
وظائف المسلمين من أمة محمد ﷺ ولكن بشرط أن تتوفر الصفتان المذكورتان في الآية وهما: الإيمان والعمل الصالح فتشمل الخلافة وإقامة الدعوة وعموم الشريعة بنفاذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حاله والخطاب في الآية موجه للنبي ﷺ ولمن معه فيندرج تحت هذا العموم جميع الصحابة والخلفاء الأربعة ﵃ يدخلون فيه قبل كل من اتصف بالصفتين ممن جاء بعدهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: موضّحًا لمعنى آية النور هذه والآية التي ختمت بها سورة الفتح: "فقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف كما وعدهم في تلك الآية مغفرة وأجرًا عظيمًا والله لا يخلف الميعاد فدل ذلك على أن الذين استخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم ومكن لهم دين الإسلام وهو الدين الذي ارتضاه لهم كما قال تعالى: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِينًا﴾ ١ وبدلهم بعد خوفهم أمنًا لهم منه المغفرة والأجر العظيم، وهذا يستدل به من وجهين يستدل به على أن المستخلفين مؤمنون عملوا الصالحات لأن الوعد لهم لا لغيرهم ويستدل به على أن هؤلاء مغفور لهم ولهم أجر عظيم لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات فتناولتهم الآيتان آية النور وآية الفتح ومن المعلوم أن هذه النعوت منطبقة على الصحابة على زمن أبي بكر وعمر وعثمان فإنه إذ ذاك حصل الاستخلاف وتمكن الدين بعد الخوف لما قهروا فارس والروم وفتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وإفريقية ... وحينئذ فقد دل القرآن على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان ومن كان معهم في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن وأدركوا زمن الفتنة كعلي وطلحة والزبير وأبي موسى الأشعري ومعاوية وعمرو بن العاص دخلوا في الآية لأنهم استخلفوا ومكنوا وأمنوا، وأما من حدث في زمن الفتنة كالرافضة الذين حدثوا في الإسلام في زمن الفتنة والافتراق وكالخوارج المارقين فهؤلاء لم يتناولهم النص فلم يدخلوا فيمن وصف بالإيمان
_________
١ـ سورة المائدة جزء من الآية رقم / ٣.
1 / 69
والعمل الصالح المذكورين في هذه الآية لأنهم أولًا ليسو من الصحابة المخاطبين بهذا ولم يحصل لهم من الاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف ما حصل للصحابة بل لا يزالون خائفين مقلقلين غير ممكنين، فإن قيل: لم قال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم﴾ ولم يقل وعدهم كلهم قيل: كما قال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ولم يقل وعدكم و"من" تكون لبيان الجنس فلا يقتضي أن يكون قد بقى من المجرور بها شيء خارج عن ذلك الجنس".١
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: "هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أي: أئمة الناس والولاة عليهم وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنا وحكمًا فيهم وقد فعله ﵎ وله الحمد والمنة: فإنه ﷺ لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر واسكندرية وهو المقوقس وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة ﵀ وأكرمه، ثم لما مات رسول الله ﷺ واختار الله له ما عنده من الكرامة قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق فلمَّ شعث الأمة وأخذ جزيرة العرب ومهدها وبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس صحبه خالد بن الوليد ﵁ ففتحوا طرفًا منها وقتلوا خلقًا من أهلها وجيشًا آخر صحبة أبي عبيدة ﵁ ومن اتبعه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثًا صحبة عمرو بن العاص ﵁ إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها، وتوفاه الله ﷿ واختار له ما عنده من الكرامة ومنَّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق فقام بالأمر بعده قيامًا تامًا
_________
١ـ منهاج السنة ١/١٥٧.
1 / 70
لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته وقصر قيصر وانتزع يده عن بلاد الشام وانحدر إلى القسطنطينية، وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة. ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص، وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدًا وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ﵁ ... ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها" ١.
قال تعالى: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ . ٢
قال العلامة ابن جرير الطبري: " ... الذين اصطفاهم يقول: الذين اجتباهم لنبيه محمد ﷺ فجعلهم أصحابه ووزراءه على الدين الذي بعثه بالدعاء إليه دون المشركون به الجاحدين نبوة نبيه". ثم ذكر بإسناده إلى ابن عباس في قوله: ﴿وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ قال: أصحاب محمد اصطفاهم الله لنبيه.
ثم قال: حدثنا علي بن سهل قال حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت
_________
١ـ تفسير القرآن العظيم ٥/١١٩-١٢٠، والحديث رواه مسلم في صحيحه ٤/٢٢١٥ من حديث ثوبان ﵁.
٢ـ سورة النمل آية / ٥٩.
1 / 71
لعبد الله بن المبارك أرأيت قول الله ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ من هؤلاء فحدثني عن سفيان الثوري قال: هم أصحاب رسول الله ﷺ.١
وأما العلامة ابن كثير فقد ذكر في قوله تعالى: ﴿وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ قولين:
أحدهما: أن المراد بعباده الذين اصطفى هم أنبياؤه ورسله الكرام.
الثانية: أن المراد بعباده الذين اصطفى هم: أصحاب محمد ﷺ ورضي عنهم.
ثم قال جامعًا بين القولين: ولا منافاة فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى. أ.هـ٢
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقال تعالى: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ قال طائفة من السلف: هم أصحاب محمد ﷺ ولا ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه الأمة التي قال الله فيها: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ ٣.
فأمة محمد ﷺ الذين أورثوا الكتاب بعد الأمتين قبلهم اليهود والنصارى وقد أخبر الله تعالى أنهم الذين اصطفى وتواتر عن النبي ﷺ أنه قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين
_________
١ـ جامع البيان ٢٠/٢.
٢ـ تفسير القرآن العظيم ٥/٢٤٥.
٣ـ سورة فاطر آية / ٣٢-٣٥.
1 / 72
يلونهم" ١، ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه هم المصطفون من المصطفين من عباد الله. أ. هـ٢
وقال السفاريني رحمه الله تعالى: وقوله: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ وهم أصحاب محمد ﷺ. أ. هـ٣
قال تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ٤.
فالصحابة ﵃ داخلون في هذا الثناء على هذا الصنف الذي يجيء بالصدق ويصدق به فهم الأئمة الصادقون في أقوالهم المصدقون بالحق إذا جاءهم وكل صادق بعدهم فهو إنما يأتم بهم في صدقه وتصديقه ابتاعًا لهم واقتداء بهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ فيها ثناء على الصحابة ﵃ حيث قال: "وهذا الصنف الذي يقول الصدق ويصدق به خلاف الصنف الذي يفتري الكذب أو الكذب به والصحابة ... هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به بعد الأنبياء، وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراء للكذب على الله وتكذيبًا بالحق من المنتسبين إلى التشيع. أ.هـ٥.
والحال كما قال رحمه الله تعالى فإن الصحابة الكرام ﵃ هم أزكى الأمة وأطهرها فهم الصادقون فيما يقولون وهم في أولية الأمة تصديقًا للحق لما جاءهم فرضي الله عنهم أجمعين، وعلى من يبغضهم ويعاديهم اللعنة إلى
_________
١ـ صحيح البخاري ٣/٢٨٧ من حديث عمران بن حصين ﵁.
٢ـ منهاج السنة ١/١٥٦.
٣ـ لوامع الأنوار البهية ٢/٣٨٤.
٤ـ سورة الزمر آية ٣٣-٣٥.
٥ـ منهاج السنة ١/١٥٦.
1 / 73
يوم الدين.
قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ ١.
هذه الآية تضمنت ذكر منزلة الرسول ﷺ بالثناء عليه ثم ثنى الله تعالى فيها بالثناء على سائر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. فذكر تعالى أن من صفاتهم الشدة والغلظة على أهل الكفر، كما وصفهم بالتراحم والتعاطف فيما بينهم، ووصفهم بأنهم يكثرون من الأعمال الصالحة المقرونة بالإخلاص وسعة الرجاء، وفي مقدمة تلك الأعمال الصالحة إكثارهم من الصلاة ابتغاء الحصول على فضل من الله ورضوان، كما بين - سبحانه - أن آثار ذلك يظهر على وجوههم ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ والسيماء اللعلامة. وقد قيل المراد بها بياض يكون في الوجوه يوم القيامة قاله الحسن وسعيد بن جبير وهو رواية عن ابن عباس ﵄، ورواية أخرى عنه وعن مجاهد: السيماء في الدنيا هو السمت الحسن "وعن مجاهد أيضًا: هو الخشوع والتواضع".٢
وهذه الأقوال لا منافاة بينها إذ يمكن أن يكون في الدنيا هو السمت الحسن الذي ينشأ عن التواضع والخشوع، وفي الآخرة يكون في جباههم نور.٣
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "فالصحابة ﵃ خلصت نياتهم
_________
١ـ سورة الفتح آية / ٢٩.
٢ـ جامع البيان ٢٦/١١٠-١١١، تفسير ابن كثير ٦/٣٦٤، الجامع لأحكام القرآن ١٦/٢٩٣-٢٩٤.
٣ـ انظر: جامع البيان للطبري ٢٦/١١٢.
1 / 74