فصان التبادل نفسيهما
وعاشا به عيشة آمنه! •••
كذلك تحلم في لهوها
فراشتنا الحرة الباسمه
فدعها تغازل في وهمها
خيالات ساعاتها الحالمه
فهذه الأبيات هي وليدة الطبيعة التي أعشقها والتي تلقيت عن مطران كما تلقيت عن صميم وجداني إيماني بها. وهي متحررة في أسلوبها، عصرية الألفاظ، آخذة بأيسر وأصدق مذاهب البيان ، ولكنها إلى جانب ذلك قوية الخيال مندمجة كل الاندماج في الطبيعة. وليس تشبيه الزهرة بالفراشة بالتشبيه المستحدث، فهو شائع في الأدب العالمي، ولكن هذه الصورة المركبة المتشعبة الدقيقة بأخيلتها ومعانيها هي صورتي، ولا يمكن أن يكون لغيري أي نصيب فيها، لأنها من صنع نفسي وخيالي وعبادتي للطبيعة ومن توليد شاعريتي الحرة. وأنا أدين في كل هذا لمطران، فقد غرس في نفسي حب الاطلاع على سفر الطبيعة، إلى جانب اطلاعي العام الذي شمل مئات الكتب والمراجع في ثلاثين عاما سلختها محبتي للأدب من حياتي، كما غرس في نفسي الاعتداد الفني الذي يزجيني بعد كل هذا إلى إرسال شعري على سجيتي.
وقد تعلمت من مطران احترام المذاهب الأدبية المختلفة واحترام النقد، مهما حق لي أن أتشبث بآرائي الخاصة، فإن الأعمال الأدبية بعد إنتاجها ملك للجمهور، والجمهور حر في أن يقبل عليها أو لا يقبل، والطبائع الإنسانية جد مختلفة، وللنقاد كل الحق في حرية النقد فيجب احترام حريتهم كما نطالبهم باحترام حرية المؤلفين، ولا يجوز أن يعدو نقاشهم البحث الأدبي المحض الذي يستفيد منه الأدب، لا أن يكون لونا من الملاكمة التي تخالف أدب النفس. ولعلي وفقت في حياتي الأدبية إلى تطبيق تعاليمه هذه، وإن تعصب لي في مواقف كثيرة من تعصب من أصدقاء ومريدين.
ولا شك في أن نفسية مطران المتسامحة المستوعبة هي التي ألهمتني حب الجمال على اختلاف صوره وكراهية الفردية ورغبتي الملحة في التفتيش عن مواطن الحسن في كل ما أقرأ من نثر ونظم. فمذهب الفردية في الأدب لم يؤمن به مطران بل كان ضده دائما، وكذلك كنت وما زلت ضده كما تدل كتاباتي الكثيرة وأحدثها كتاباتي في مجلة (أپولو)، واحترام الغير وبغض الإباحية هو في نظرنا كاحترام النفس والحرص على الكرامة سواء بسواء، فاعتدادنا بمذهبنا الأدبي وإنتاجنا لا ينافي تقدير مجهودات من يخالفنا مذهبا ولا يسيغ إباحتها والاستهتار بها. ولذلك أنحى مطران كما أنحيت على من يختطفون خواطر شعراء الفرنجة وغيرهم في غير تورع، بل في انتقاص لمن ينقلون عنهم ... فلكل شاعر أن يطلع، بل عليه أن يطلع، وأن يهضم ما يطالعه، وأن يتأثر بمن يعجب بهم، ولكن عليه بعد هذا أن لا يسقط شخصيته، وعليه أن يرسل نفسه على سجيتها، وأن يعترف بفضل من تأثر بهم حيثما وجدت المناسبات، وتبعا لذلك كانت إشارتي إلى الشاعر جبرائيل سيتون وإن كنت لا أذكر الآن مبلغ تأثري بشعره عندما نظمت أبيات موسيقى الوجود (ص64) فإني لم أهتد إلى قصيدته المشار إليها.
وإذا أخذنا على سبيل المثال الشاعر الروسي بوشكين حامل جائزة نوبل في الآداب فلا جدال في أنه تأثر بشعراء كثيرين من شعراء الغرب كما تأثر شكسبير في إنجلترا وجيته في ألمانيا، بل وعباقرة الشعراء في أنحاء العالم، ولكن تغلبت شخصياتهم على أعمالهم في النهاية، وهذا ما اعترف به دستويفسكي في رسالته عن الشاعر بوشكين. ولقد تأثرت بمطران وشوقي وحافظ ومحرم والرافعي في نواح مختلفة، ولم أنكر مرة فضل هؤلاء الأعلام، حتى في الوقت الذي ثارت ثائرة المدرسة الشوقية على الشعراء المجددين ونالني الكثير من لفحات نيرانها، فإني أبيت إباء مجاراة أصدقائي الذين تعصبوا لي أشد التعصب ... فإذا تجلت شخصيتي وازداد تجليها وسيطرتها التامة على عناصر شعري وقد دانيت منتصف العقد الخامس من عمري فليس في ذلك بدعة، بل لي كل الحق في التمكين لمذهبي الحر الذي أعتبره متفرعا على مذهب مطران أو صورة منه هي صورة الرومانطيقية الشاملة.
صفحة غير معروفة