منظر فتاة
وأجمل المناظر التي تحتفظ بها الذاكرة من ذخائر العاشرة - وما دونها - منظر فتاة أوروبية هيفاء لفت نظري أنها تسير في وسط المدينة - على غير عادات السائحين والسائحات - وتدير على خصرها حزاما «أو مشدا» لا يزيد قطره على بضعة قراريط ... وتخطر في الطريق الوعر كأنها تلمس أغصان الشجر بقدمي قطاة.
ولم أكن أفهم يومئذ أن نحافة الخصر جمال محبوب، ولكنني فهمت أنه أعجوبة نادرة، وتبعت الفتاة الهيفاء حول منعطفات الطريق، ولا أعلم لماذا أتبعها، ولا يدور في خلدي خاطر غير الاستزادة من هذا المنظر العجيب، الرشيق.
لو أنني مصور لاستطعت اليوم أن أصور هذه الفتاة من الذاكرة، فلا أخطئ منها لمحة يثبتها المصور على قرطاسه، ولست أذكر اليوم نقوش كسوتها، ولكنني إذا أثبتها بجملتها لم تخالف ما يثبته المصور من نقوش الكساء على البعد، ويقنع به الناظرون.
ولمن أراد من علماء «السيكولوجيا والبداجوجيا» أن ينعت هذه المحاباة بما يحلو له من أوصاف الاستبداد. ولكنني - بعد هذه السنين الطويلة - أستغفر لهم ذنوبهم إلى الذاكرة، وأقول إنها ملكة مظلومة على الغاية من العدل والديمقراطية، إن كانت محاباتها كلها على مثال هذه المحاباة ...
الإنشاء في المدرسة
بدأت الكتابة بموضوعات الإنشاء في المدرسة، وقد يكون في الإشارة إليها شيء يهم الناشئ المتطلع إلى التأليف؛ لأنه يعلم منه مبلغ فعل التشجيع حين يتلقاه الناشئون من ذوي مكانة ملحوظة في العلم والحياة العامة.
كانت المفاضلة بين شيئين هي المحور الغائب على موضوعات الإنشاء في أيامي بمدرسة أسوان، أيهما أفضل المال أو العلم؟ الذهب أو الحديد؟ الصيف أو الشتاء؟ الرأي أو الشجاعة؟ السيف أو القلم؟ الحرب أو السلم؟ إلى أشباه هذه المفاضلات.
وكان من عادتي أن أختار أضعف الجانبين حتى اخترت الجهل مرة في مفاضلة بينه وبين العلم! ... وكان لنا أستاذ فاضل «هو الشيخ فخر الدين محمد» يحمد هذا الاختيار على أن يكون من قبيل مرانة القلم، ويعرض كراستي على كبار الزوار بين ما كان يعرضه من كراسات التلاميذ، فلما زارنا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ذات شتاء أراه الكراسة فتصفحها باسما، وناقشني في بعض مفاضلاتها، ثم التفت إلى الأستاذ، وقال ما أذكره بحروفه: «ما أجدر هذا أن يكون كاتبا بعد ...»
ونطق «بعد» بضم الدال غير واقف على السكون، ولم أزل أذكر ذلك حتى عللت به وقوف زعيمنا «سعد زغلول» على أواخر الكلمات محركة غير ساكنة، وقلت: إنها «مدرسة واحدة» تحرص على تحريك أواخر الكلمات؛ أنفة من الهرب على حد قول القائلين: «سكن تسلم ...» فهم لا يهربون من الحقيقة، ولا يحرصون على السلامة.
صفحة غير معروفة