ومن المصادفة اتفاق والدي ووالدتي في هذه الخصلة، ولست أنسى فزع أديب زارني يوما وعلم أنني لم أبرح الدار منذ أسبوع، فهاله الأمر كأنه سمع بخارقة من خوارق الطبيعة ... إنها وراثة من أبوين يؤكدها الزمن الذي لا تحمد فيه معاشرة أحد ... إلا من رحم الله!
وقوة الإيمان في والدتي هي التي بنت فيها العزيمة ليلة احتضاري ...
نعم أيها القارئ الكريم ولا تعجب ... فقد احتضرت قبل نيف وثلاثين سنة، كما تخيل عوادي في تلك الليلة، فإذا بالوالدة هي الإنسان الوحيد الذي يتحامل على نفسه إلى جانب سريري ليقنعني أنني بخير ... وتنطوي على ذلك ساعات وهي على عزيمتها، حتى جاء الطبيب أخيرا وأنبأهم أنه عارض غير ذي بال، فإذا بالمحتضر قد نجا، وإذا بالمؤاسية قد سقطت مغمى عليها.
وكانت الوالدة لا تنكر من شئوني شيئا إلا الورق ... نعم: ما هذا الورق؟ الورق الذي لا ينتهي!
هذا الورق الذي لا ينتهي هو الذي يمرضني، وهذا الورق الذي لا ينتهي هو الذي يصرفني عن الزواج، وهذا الورق الذي لا ينتهي هو سبب الشهرة ...
ووالدتي أيها القارئ من أعداء الشهرة تتطير بها، ولا تغتبط بها لحظة إلا تشاءمت لحظات.
هذه الشهرة هي التي «تشيل غارتك» ... أي تجعلهم يتحدثون عنك، وما تحدث الناس عن أحد وسلم من ألسنة الناس!
وقلت لها ذات يوم: «لو وجدت لي زوجة مثلك تزوجت الساعة ...» ولم أكن مجاملا والله ولا مراوغا ... فإنني لا أنسى كمال تدبيرها لبيتها منذ صباها، وكنا بفضل تدبيرها هذا ننتفع بالجورب حتى بعد أن يرث ويبلى ... فإنه يصلح عندئذ كرة محبوكة! ... ويغنينا عن شراء الكرات التي لا تحتمل أقدامنا مثل احتمالها.
ولقد توفي والدي وهي في عنفوان شبابها، وكان لي أخ صغير، فتوفرت على تربيته وتركت كل شاغل غير طفلها هذا وأبنائها الكبار.
ولقد ورثت منها كثيرا إلا القصد في النفقة، وتدبير المال، وحسبي بحمد الله ما ورثت منها. (4) بلدتي
صفحة غير معروفة