أنا «سلطان» قانون الوجود
جيوكوندا مصرية
البراءة1
لحظة قمر
حوار خاص
سيف يد
حكاية مصرية جدا
عن الرجل والنملة
أنا «سلطان» قانون الوجود
جيوكوندا مصرية
البراءة1
لحظة قمر
حوار خاص
سيف يد
حكاية مصرية جدا
عن الرجل والنملة
أنا سلطان قانون الوجود
أنا سلطان قانون الوجود
تأليف
يوسف إدريس
أنا «سلطان» قانون الوجود
لا أعتقد أن أحدا - خارج أسرة مدرب الأسود محمد الحلو - قد حزن لمصرعه مثلما حزنت.
ذلك أن القدر ليلتها ساقني لأدخل السيرك، وكانت ليلة الافتتاح، ولا أعرف لماذا، ولكني بعد رؤيتي لعبة الأسود تنبأت أن حادثا جللا لا بد سيقع، وأن قاهر الأسود محمد الحلو سيصرع على يد أو «ناب» أحد أسوده؛ بل بحت بالخاطر الحزين لمن كانوا معي، ووافقني بعضهم، بينما لم يكترث الآخر وكأن الأمر لا يعنيه.
وحين تنبأت بما تنبأت به لم أكن ساعتها أستعمل حاستي السادسة ولا كنت صوفيا قد أصيب فجأة بحالة وصل مع الذات العليا واتصال، ولا أعتقد كذلك أني ولي من أولياء الله.
بل حتى لم أكن أعاني من نوبة غربة تدفعنا أحيانا لتجريد الأشياء من دفئها المكنون وإفراغها من التفاؤل.
بصراحة، لم أكن ساعتها متأثرا بأي شيء خارج القمع الضوئي المتهرئ المكفي علينا، يقتطعنا من العالم، ويقطع العالم عنا.
وحينما لا يحدث الشيء صدفة، بل تكون أنت - أنت الإنسان العادي مثلي - على يقين أنه سيحدث.
وحين لا يحدث نتيجة خطأ أو إهمال.
حين يحدث وكأنه لا بد أن يحدث.
حينذاك من الممكن أن نقف عنده؛ لأن الأمر لا بد هام وخطير، ويصبح واجبا علينا أن نعود، كلنا هذه المرة، إلى ذلك القمع الضوئي المقلوب نعيش الظاهرة التي دارت أحداثها المروعة هناك، فمن يدري، ربما بعد أن نحياها نجلس، لأول مرة منذ زمن طويل على ما أعتقد نفكر، ليس في محمد الحلو وإنما في أنفسنا، من يدري، ربما تحدث المعجزة وحسنا أني كنت هناك، وأني شاهد عيان. •••
نصف الألعاب مضت، كاللب، نقزقزه قطعا لليلة أولى من ليالي رمضان.
أثناء الاستراحة كان العمال قد أقاموا حلبة ترويض الأسود.
في هالة من فرقعة الأسواط والجئير الذي تضخمه الميكروفونات «ليرعب أكثر!» والصراخ والهدير وأصوات الغابة، دخلت الأسود. عبرت ذلك النفق الحديدي القائم بين محبسها في الكواليس وبين الحلبة، ذلك القفص الحديدي صدئ وقديم. هذا صحيح، ولكنه حديدي أصلي وزيادة في الاحتياط مربوط بحبل قديم إلى العامود الرئيسي لخيمة السيرك.
الأسود دخلت، أسود ستة، زيتية الصفار أو رمادية البنية أو بلا أي لون له اسم، متشابهة، كثرتها تمنع عنها جلال التفرد، وانكماشها يخلع عنها إحساس الملك أو حتى إحساس التوظف في قطاع عام.
ما لبثت الأسود جميعا بعد دخولها أن أخذت أماكنها على شكل نصف دائرة مقعية كتماثيل أسود قصر النيل، مادة أقدامها الأمامية فوق الحامل الخشبي الموضوع أمام كل منها. كل الأسود فعلت ذلك ما عدا الأسد قبل الأخير، ذلك الذي عرفنا فيما بعد أن اسمه «جبار»؛ فقد أقعى فوق منصته رافضا أن يمد أقدامه أمامه فوق الحامل.
وتولى مذيع أنيق، غريب الأناقة على المكان والناس والأجهزة وبائعي اللب والكازوزة، تقديم المدرب. وبصوت مؤدب، لا مبالغة في طبقاته (وهذا أيضا غريب) قال: الآن نقدم ... بطل الأسود ... وقاهر الملوك ... ملوك الغابة ... البطل محمد الحلو.
انصبت أضواء الكاشف الوحيد على الرجل الضخم الواقف بجوار القفص، والذي يلتحف بعباءة لامعة براقة، هذا صحيح، ولكن يبدو وكأنما استعيرت من متحف ملابس الممثلين بالمسرح القومي.
وكانت مفاجأة؛ فهذا الرجل قد رأيناه قبلا رئيسا لفريق «الجمباز» في لعبة سابقة، يقود فريقا من أكثر من عشرة أشخاص يتولون، ويتولى معهم القفز العالي والدحرجة والقيام بما يشبه المستحيلات، وهو عمل يكفي وحده لأن يقوم به إنسان واحد، المهم، فتح الباب الوحيد في القفص الحديد الدائري، ودخل الحلو، بعظمة ملك يلج قبوا للنبيذ، وتولى العامل إغلاق الباب وراءه بترباس متين.
لاحظ محمد الحلو على الفور أن «جبار» لا يمد قدميه كما ينبغي، ومن فوره اتجه إليه وحاول أن يصحح الخطأ لتصبح نصف الدائرة كاملة، نصف دستة من ملوك الغابة الرابضة المقعية الخانعة ، وهو بينها ، ملك الحلبة، وملك الملوك، وملك السيرك وملك الليلة.
تناول الحلو سيخا حديديا مدببا من طرفه، ولكن طرفه ذاك معلقة به قطعة لحم صغيرة جدا (عرفنا فيما بعد أنها ليست لحم عجول وإنما، لغلو الأسعار، فهي لحم حمير). وانقض الحلو بالحربة الملغمة بقطعة اللحم (وكأنها سيف المعز وذهبه) تجاه الأسد آمرا إياه، أن يمد قدميه. ولم يحدث سوى أن الأسد نام بمنتهى الحزم ورفض أن يستجيب. حاول الحلو مرة أخرى، نفس النتيجة. الحلو، فوق بطولته، رجل استعراض مدرب. إن مسألة التمرد أو الطاعة أشياء لا تهمه بالمرة، المهم أن ينجح العرض، وألا يبدو هذا التمرد الواحد واضحا للعيان.
وهكذا نفض يدا من مسألة جبار بسرعة وبصرخة هائلة ركزت الأنظار عليه وعلى الأسود الخمسة دافعة أقدامها فوق الحامل الخشبي، وراكعة. وحينذاك فقط تولى محمد الحلو تقديمها. فكان أولها من ناحية اليمين «سلطان» الذي عرفنا الآن جميعا أنه هو المجرم الذي نهش جانب الحلو وأدى لمصرعه، وكان المتمرد اسمه جبار، والباقون أسماء من هذا الطراز الحائز على صيغ كثيرة للمبالغة.
كان على الحلو بعد هذا أن يرفع الحوامل الخشبية من أمام الأسود ليستعد لعرضها القادم.
وهنا فقط بدأت أنتبه.
كان يتقدم من الأسد، ناظرا في عينيه، آمرا إياه بهما على ما يبدو أن يمتثل، ثم بيديه، ودون أن يغير من نظرته، يتولى قذف الحامل بعيدا عن منطقة الخطر، وهكذا ...
وتمت المحاولات الأربع الأولى بنجاح، وعند جبار الذي كان حامله خاليا من أقدامه، ما كاد الحلو يقترب حتى زأر الأسد فجأة واقترب برأسه من المدرب هاما بالتقدم الأكثر.
وهنا لمحت ارتدادة خوف سريعة من المدرب.
وبدأت أنتبه أكثر.
ليس توقعا لما هو قادم من ألعاب.
وإنما لما هو أهم، لتلك النظرة الصادرة من عيني الأسد، والنظرة المنصبة تجاهها من عين الحلو. أحسست أن اللعبة الحقيقية الخطرة هنا، وأن في الوضع ما يزعج، على الأقل يزعجني أنا.
الليلة الافتتاح هذا صحيح. ومآزق الافتتاح معروفة، كم جربها أولئك الذين قدر لهم أن يكون عملهم ، مهما كان جهدهم أو ابتكارهم أو كدهم الخاص، مسألة تقديرها ليس في يد رئيس أو مجلس، إنما في يد جمهور، يقزقز اللب، ويجرع الكولا، وبمنتهى البساطة يصعد إلى السماء، أو يخسف أحيانا، بأعظم الأعمال قيمة، إلى أسفل سافلين.
الليلة الافتتاح، والجمهور كثير، والأضواء هي الأضواء، والسيرك هو السيرك، ولكنه زمان، في أول إنشائه كان سيركا متلألئا، صاخب الجمهور، غني الأضواء. كان فعلا ذلك المكان الذي قصد بالسيرك أن يكونه. المكان الذي تدخله ليخلب لبك، لتعيشه تماما، تنسى نهائيا أن في الخارج حياة وأحياء ومشاكل.
وأيضا كان السيرك للاعبين حلبة صراع، أمام جمهوره الحافل تتفجر بطولاتهم، يغامرون حتى بالحياة وهم يتأكدون أن الموت في غمرة المجد والأضواء وإحساس النفس المصرية الممتد بالبقاء والخلد، شيء بالمرة، لا يخيف.
ونحن الآن في سيرك رمضان عام 72.
أنا شخصيا لم أكن أريد الدخول، ولكن لأنه على الأقل أمتع بكثير من مسرحيات الصيف التي تنفرد كل منها برائحة نتنة خاصة، فليكن السيرك.
ولكن أي سيرك!
إنك أحيانا لا تحس بالشيخوخة والكبر إلا حين تقابل زميل دراسة سابقا أو صديقا له نفس سنك. وحين دخلت الخيمة لم يكن في كل ما رأيته شيء سخيف أو عجوز أو غير عادي. المشكلة أن كل شيء كان طبيعيا وعاديا وكأنك داخل إلى ديوان حكومة أو تعبر حديقة عامة.
لم يدهمني ذلك الإحساس أنك انتقلت فجأة من عالم مطفي أو قليل البطولة والنور إلى عالم مليء بالوهج، بالخوارق، بالمعجزات، عالم يبهرك ويحفزك إلى الخوارق والبطولات.
فكأني فعلا انتقلت من شارع مزدحم إلى ميدان صغير مزدحم بالكراسي هذا صحيح، كثير الجمهور هذا صحيح، ولكن شيئا ما حدث للكشافات فجعلها مسلطة أساسا على الجمهور، تنير الحلبة، ولكنها بإضاءتها للمشاهدين تجعل من تلك الوجوه جزءا من العرض.
وأي وجوه؟
نفس الوجوه.
المتزاحمون الغارقون في العرق أمام الجمعيات الاستهلاكية، في ممرات الأتوبيس وعلى سلالمه، المتوقفون فراغا لمشاهدة خناقة، الجاعلون من «السلطة» على مائدة الإفطار مسألة حياة أو موت، تفننا في صنعها، انتقاء لمكوناتها وبهاراتها ومخللاتها .
وجوه ...
وجوه كثيرة تلمح بينها وجوه الأشقة العرب، وتستمتع بمرأى الكروش المصرية المتكومة باسم الله ما شاء الله تصنع لكل كرش رجلا ورأسا وملحقات. النساء وقد بدأت مودة الطويل تنتشر، أقصد الطويل التخين، فقد بدا واضحا جدا آثار مربة خرز البقر، وإلا فهي آثار «العلف» أو شيء لا بد شبيه بالعلف.
وجوه، ظللت طويلا، والكشافات تنصب على معظمها، أتأملها، أتأمل ما يرتسم على ملامحها من تعابير، وعبثا ما كنت أحاول، فالأبخرة الدسمة المتصاعدة من معدات تجأر بمحتويات الإفطار، والعرق المتصبب من تلقاء نفسه من صدور وبطون بالكاد تلهث لتؤدي وظائفها، بالكاد إذا تجشأت تتجشأ.
أنوار كاشفة مكشوفة مسلطة على وجوه لا تعكس الضوء، بعضها بالدسم يمتصه، وبعضها لقلة التغذية يمتصه أيضا، وحلبة متربة، والحضور المسرحي لا وجود له؛ فلا جماعة، وإنما عائلات وأفراد لا يجمعهم ذلك الرابط العام الذي يخلق جو العرض ويحيطه، حتى المهرج من فرط ما نحت دوره من خطوط تؤكد دوره كمهرج، لا يهرج. العمال الذين يقومون بالإعداد للألعاب يرتدون «بدلا» لا بد أن أصلها كان شيئا آخر، ربما لباس صعيدي، ربما قلع مركب ربما ممسحة بلاط. زرقاء كل بدل العمال زرقاء. ولكن كل أزرق منها له لون، وفيها زرار، على الأقل لمحت زرارين، ومع هذا فجميع بنطلوناتها بلا زراير وبلا أحزمة أو بأحزمة تصلب الوسط فقط وتترك البنطلون يأخذ الوضع الذي يحلو له وينفتح من أمام بأي مطلق من الحرية يراه. المنضدة التي تقدم عليها لعبة الوقوف فوق الزجاجات والتي لو كان بها أي خلل ممكن أن تودي بحياة اللاعب، لا تصلح أصلا للارتكاز على أربع، وإنما لا بد لها من سنادات، ولا بد أن تتأمل حكمة الكون أو تفكر في اعتزال الدنيا وأنت ترى منضدة المطبخ تلك، التي لم تطل من عشر سنوات، وأربعة عمال بأربعة أقراص مدورة بأربعة بنطلونات مفتوحة بأربع جاكتات «زعر»، يدخلون، ليزنوا الأرجل الأربعة. ما فائدة أن أتحدث عن اللعبة نفسها إذا كان هذا هو حال المنضدة، وإذا كان حال اللاعبة التي تزامل اللاعب ومفروض أن تساعده أدهى؛ ذلك أنها سمينة إلى درجة مزعجة ترتدي جوربا من جوارب «الباليه»، جورب من سمك الجسد والأرجل والأرداف التي يحتويها ومن طول ما احتواها، تفتق في أكثر من مكان (ربما لهذا سموها؛ أي ذلك الغذاء المسمن، المفتقة). فأنا لن أتحدث عن اللعبة أو حتى لو كان صاروخ قد أطلقته فتاة كتلك من فوق منضدة كهذه المنضدة ليصل إلى القمر، حتى لو تمت بهذه الأزياء والمناضد والجوارب جراحة تحيل الدودة إلى إنسان، فالمعجزة، أي معجزة، تكون قد انتهت من نفسك قبل أن تبدأ، انتهت، وانتهت معها ليلة من ليالي العمر، فالسيرك قام، ليخلب اللب، ليبهر، لينقلك إلى عالم غريب حافل بالألوان والبطولات والجمال والمعجزات.
ولكن اللعبة الخطرة كانت قد بدأت.
لعبة ترويض الأسود. •••
هي لحظة.
ولكن ليلة كهذه يكفيها لحظة تحس فيها أنك حقيقة تنفعل وأنك حقيقة في سيرك.
ولكن، حتى هذه اللحظة أفسدها علي ذلك السؤال الملح: من أين جاءني ذلك الشعور أن شيئا ما سيحدث؟
ملت على جارتي أهمس بألفاظ، فإذا بها تنظر لي باستغراب حقيقي؛ فهي الأخرى كان لديها نفس الشعور.
المسألة إذن ليست وهما. هناك في الجو شيء يخيم.
ليس وافدا من كون آخر.
ولا متسرب إلى القمع المقلوب من الخارج. شيء نابع من الحلبة ذاتها، وحتى ليس من شيء بعينه في الحلبة، في الحقيقة نابع من كل شيء تضمه الخيمة، من الحيوانات والكاشفات، والأشياء والبشر، من جارتي، ومني، ومنك أنت لو كنت هناك.
مضى الحلو يتحرك، يحيي، ينقل الأشياء داخل القفص، نفس الحركات التي تعود أن يفعلها من زمن طويل. لا جديد فيما يفعل، لا جديد في الليلة إلا عصبية ليلة الافتتاح المؤقتة المعهودة، حتى الوجوه، الوجوه كلها داخل القفص وخارجه ظل يراها حتى لم يعد يراها.
النظرة المتبادلة بينه وبين الأسد، سلطان كان أو جبار، هي فقط ذلك الشيء الجديد، في الليلة وفي حياته.
الرجل محبوس مع ستة أسود في قفص، وحياته كلها وهو مع الأسود في قفص.
والأسد ، بالتأكيد هو الأسد.
ولكن الرجل، هل الرجل هو الرجل؟
والرجل ليس الحلو وحده. الرجل هو كل من تضمه الخيمة، لاعبا أو عاملا، وعازفا ومتفرجا، هل الرجل نفس الرجل؟
بينه وبين نفسه، بينه وبين أهله وجيرانه وأصحابه، أبدا لا تغيير، هنا فقط. هنا حيث يصبح وجها لوجه مع الخطر المروع الذي عمله أن يروضه، هنا يحس الرجل أن شيئا ما حدث. كأنه دائما يقول أنا البطل، حتى من غير أن يقولها كان يقولها بنظراته يقولها بمشيته، بقهقهاته، بالعاملين من حوله، حتى الأسود نفسها كانت تقولها. أنا البطل، القادر، الواثق المتأكد.
أيكون ما ينتابه هو لحظة شك؟ ولكن من يكون إذن إذا لم يكن البطل؟
من الآن، أنا؟ ...
كنت أرى الناس أكيلة عيش، وأفندية، وبورمجية، وجدعان، ولكن من بينهم أنا البطل. هم أيضا يرون أني البطل. يصفقون للبطولة حتى لو تجسدت في غيرهم، في شخصي أنا.
الآن حدث شيء. ألم يعودوا يرونني بطلا؟ أم هم لم يعودوا يريدون البطل، أي بطل؟ أيكون الأمر أني أنا شخصيا لم أعد أحفل أن أكون عليهم البطل؟ أيكون الكفر المزدوج قد حدث؟ كفرت أنا بهم وكفروا هم بي، وجميعا كفرنا حتى بوجود بعضنا البعض. والبطل مثل اللابطل، والميت كالحي، والحي كالميت، والمومس كالفاضلة، والحرامي كالشريف، الأمس كالغد، الأمل كاليأس.
إن البطل لا يولد وحده.
البطل يخلق.
ولا بد كي يوجد ويعيش أن يترعرع في ظل إحساس عام بضرورة البطولة، بروعة البطولة، بتفرد البطل.
ولا يمكن لفكرة البطولة أن تترعرع في جو عام كهذا وحدها.
البطولة قيمة، ولا بد أن توجد وسط محصول وافر من القيم.
لا مجد للبطولة، بلا مجد للكرامة، بلا مجد للنبوغ، بلا مجد للشرف، بلا مجد للعمل الصالح.
وأيضا لا توجد البطولة، بلا جو عام تلعن فيه اللابطولة. تجتث كالحشائش الضارة منه، وتجتث معها حشائش سامة أخرى كالجبن كالتفاهة كالنفاق كالكذب.
أما حين «ينجح» الجميع، المجتهد، والغشاش والمزور والأبله والنابغ. حين يصبح لا فرق، لا أعلى ولا أسفل، لا أرفع ولا أحط.
حين تمضي الحياة بامتحان لا يرسب فيه أحد، ولا يتفوق أحد، ولا يفصل أحد. حين يحدث هذا. ماذا يبقى من الإنسان؟
وإذا كان هذا السؤال لم يعد يهتم أحد بأن يجيب عليه، بله، أن يطرحه، فإن هناك أناسا في حياتنا لا يستطيعون أبدا إهمال السؤال، فهو فارض نفسه عليهم فرضا ولا فكاك منه. هؤلاء هم تلك النسبة فينا التي تحيا وجها لوجه مع الخطر.
وبالذات مع خطر من هذا النوع.
فمحمد الحلو يواجه هذه الوحوش الضارية ويمنع خطرها بما يملكه من إرادة البشر وقدرتهم وما فيهم من بطولة أو قدرة على البطولة.
أليس من المهم إذن لمحمد الحلو أن يعرف، في تلك اللحظات التي ينغلق عليه فيها القفص ويصبح وحده أمام الخطر ولا مغيث، أن يعرف ماذا بقي فيه أو له.
ماذا بقي من البطل؟ •••
تصفيق الناس للألعاب في السيرك، له معنى مختلف عن أي تصفيق آخر، يحمل معنى إنسانيا عميقا جدا. هناك أبدا أنت لا تصفق مجاملة أو مجاراة. بصدق تصفق. والعمل الذي ينتزع منك التصفيق ليس أي عمل. كلما اقترب من قدرتك على القيام به بهت وفق أهميته. كلما استحال عليك القيام به بهرك وازدادت حدة تصفيقك.
ليلتها كان للتصفيق في أذني وقع غريب. فمهما بلغت اللعبة أمامنا من مهارة، ومهما احتوت من إعجاز وبطولة، فالتصفيق حتى في أعتى موجاته كان دائما يبدو فاترا وكأنه صادر عن جمهور قد قرر بادئ ذي بدء، ألا يقيس أي شيء بمقياس قدرته عليه أو استحالته، وكان أي شيء وكل شيء يبدو مستحيلا تماما أو حتى ممكنا تماما. لا فرق.
كان في الحقيقة نوعا من تصفيق الخجل إذا لم تصفق. تصفيق أداء الواجب تدفعه كثمن التذكرة، كالضريبة، وأمرك لله.
وكانت مضخات اللاعبين تجأر قواها في محاولات مستميتة من أجل الوصول إلى مياه الجمهور العميقة وسحبها لتصعد إلى مستوى ما يقومون به من بطولات كي تنسكب بعد هذا شلالات حماس وإحساس وانبهار. ولكن المياه ظلت دائما أبعد من مدى المضخات، وأبعد.
ماذا كان قد بقي من البطل محمد الحلو؟ •••
ذلك الذي بدأ حياته في ساحة السيرك، صبيا يلعب، ويفرح أنه يلعب، وفوق هذا يكسب، ثم حالما بالبطولات يحلم، ثم بطلا يحقق الأحلام وبالسعادة القصوى يتمتع. الجمهور يجأر ويزأر طربا، وهو يقتل نفسه كي يجعله يجأر أكثر وأكثر. الدفء حوله وفي داخله. الحياة حلوة. الأمل عريض. حتى النقود بجلالة قدرها، وفي لحظات كتلك، لا تهمه بالمرة.
حين تختار أن تكون مروض وحوش، أو لاعب ترابيز، أو طيار اختبار وتجارب فصحيح أنك تأكل عيشا بهذه الوسيلة، ولكن لو كان أكل العيش وحده هو الهدف لما اخترت أيا منها أصلا، ولجأت، مثلما يلجأ أكيلة العيش إلى أي عمل آخر خال من أية خطورة كما يفعل الملايين من الناس أكلة العيش والأرزقية.
ذلك أنك تختار هذا العمل لتسعد ذاتك أولا ولتثبت لنفسك وللناس قدراتك.
فإذا لم يعد مهما أبدا لدى أناس أن تثبت بطولتك، ولا حتى لديك أنت نفسك.
فماذا يبقى منك؟
أكل العيش؟
أجل، أكل العيش كان هو الإنسان الذي يواجه الأسود وحده في القفص المغلق.
الخيمة كلها أكلة عيش، متفرجين وعمالا وبائعي كازوزة، ولكن الذي وزع الأرزاق جعل الآخرين متفرجين.
كلهم يتفرجون.
ويصفقون.
ذلك التصفيق الفاتر.
الناجحون جميعا في امتحان الحياة.
النافضون يدهم من كل شيء، الضيقون بأي شيء، الراضون حتى عن السخط. والساخطون حتى على الرضا، الذين انسحبت منهم مياه الاندماج الحي العميق حتى أصبح مستحيلا أن يصلها خلجة انفعال أو نبضة حماس أو لحظة غضب.
أكل العيش وحده مع أكلة لحوم البشر.
والقفص الحديدي مغلق.
ومن بين أنيابهم عليه أن ينتزع لقمة عيشه. •••
تلفت حولي.
لا تغير يذكر في انفعالات الوجوه.
لا أحد يعرف.
حتى هو نفسه، محمد الحلو، لا يعرف.
الوحيد، في الخيمة كلها الذي كان يعرف، هو الأسد نفسه.
الأسد ملك الغابة لأنه ملك الإحساس.
خطره الأعظم أن لديه القدرة دائما أن يعرف، وعلى وجه اليقين، إحساس من أمامه.
وإذا اشتم أنه خائف منه انقض عليه.
فالغابة ليس فيها إلا المخوف والخائف ، تلك هي العلاقة الوحيدة، ذلك هو القانون الأعظم.
كل خائف من حيوان يخيف بدوره حيوانا آخر.
إلا الأسد.
الجميع يخافونه وهو لا يخاف أحدا.
الحيوان الوحيد الذي يخاف منه الأسد.
هو الإنسان.
أو بالضبط هو ذلك الإنسان الذي بما منح من ذكاء وإرادة وسلاح يستطيع أن يواجه الأسد وهو لا يمثل أنه خائف منه، ولكن حقيقة وصدقا غير خائف منه، بل ربما شاعر أنه الأقوى.
ولا بد لكي تروض الأسد أن تروض نفسك أولا بحيث تصل إلى الدرجة التي تواجه فيها أسدا أو عدة أسود وأنت غير خائف منها.
الأسد وحده أدرك أن ذلك الرجل، الرجل الذي يعرفه جيدا وتعود منه دائما أن يمد أصابع نظراته الغريزية إلى أعمق أعماقه فلا تنبئه الغرائز إلا بأن الرجل ليس فقط غير خائف منه ولكن يأمره وينهره ويملك إرادة وثقة بنفسه أقوى بكثير مما لديه؛ هو الملك، وأن عليه إن أراد البقاء أن يخاف ويطيع.
ولا بد للإنصاف هنا أن أذكر أن إنسانا آخر في الخيمة كان يعرف. ذلك الشاب الذي ما توقف لحظة واحدة عن الطواف حول القفص وملاحقة نظرات الأسود التي تلاحق الحلو. ذلك الشاب الذي عرفت فيما بعد أنه ابنه والذي خلفه. كان هو الآخر بغريزته العظمى يعرف ويدرك، فهو يعرف الأسود جيدا، رباها مع أبيه وصاحبها، ويعرف أباه جيدا، ويعرف لا بد كنه هذه النظرات الخارجة من عيون الأسود، ومعنى تلك النظرة التي تواجهها والخارجة من عيون أبيه.
وحتى ما تلا هذا من حركات لم تغير الموقف.
إن محمد الحلو مدرب قديم، باعه طويل، وجراب خبراته مليء، إن المسألة ليست شجاعة وبطولة فقط. إنها أيضا مليئة بالصنعة والحنكة والدهاء.
ها هو يخرج من الجراب كل ما تملك أصابعه التي لا بد أصابتها رعشة خفيفة لا تلحظ، كل ما تملك أصابعه إخراجه. بقية الأسود تلعب، والجمهور يصفق، وكل شيء يمضي وكأن لا خطر البتة هناك. ولكن الرجل ليس نفس الرجل. إنه هذه المرة خائف. هكذا راحت تدق أحاسيس الأسد الغريزية وتؤكد. في يده الرمح المدبب المرعب ولكنه يرتعش. النظرة خارجة من عينيه ليست واضحة وقاطعة وحاسمة، إنها تتردد، إنها تحسب، إنها تراجع، إنها تحوم، أبدا ليست نفس النظرة.
تلك كانت الليلة الأولى.
الليلة التي أدرك فيها «جبار» هذا الإدراك.
ولكن الذي قتل محمد الحلو هو «سلطان».
وعضه في الليلة التالية.
فجبار حديث المعرفة بمحمد الحلو.
لا تزال العلاقة بينهما علاقة من يخاف من.
ولهذا كان هو أول من أدرك أن الآخر خائف.
أما «سلطان» فأمره مختلف. سلطان قضى عمره كله يعرف الحلو ويخاف منه، ويطيعه، والليلة الأولى، مثلها مثل كل الليالي الأخريات، مرت، وسلطان يقوم بما تعود القيام به من ألعاب، يأمره الحلو، فيطيع، يكافئه، بلحم الحمير، فيسعد. الحيوان الذي فيه كان غافلا مستسلما كالعادة للطبيعة الجديدة المتمدينة المروضة التي تكونت له. في الليلة التالية فقط، عرف سلطان.
فجأة وللمرة الأولى، يدب في غرائزه العميقة ذلك الشعور الذي لم يخالجه أبدا. الرجل؛ ذلك الرجل الذي يخاف منه، الليلة خائف.
يقترب منه الحلو لأداء اللعبة.
يزأر.
يصبح لنظرة الرجل تشتت غريب لم يعهد.
ولو كان الأسد يعرف الاستنكار لاستنكر أن يحدث هذا.
فما حدث بالنسبة إليه شيء لا يصدق، إذا كان الأسد يعرف ما يصدق وما لا يصدق.
للأسف هو لا يعرف إلا لغة واحدة يتفاهم بها مع الكون والأشياء والحيوانات والناس من حوله، ومع الرجل حتى ذلك الرجل. لغة لا تحتوي إلا كلمة واحدة. كلمة لا وجود لها إلا في لغتنا نحن، ولكن الكلمة التي إذا جاءته من الرجل، أحس أنه أصغر وأضأل وأضعف وأجبن وأن عليه أن يرضخ. نفس الكلمة التي إذا رآها في عين الرجل أحس أنه هو الأقوى والأعظم والملك، وأن عليه أن يفتك.
لا. لم يكن يريد عض الحلو أو قتله.
ربما أراد أن يتأكد.
ربما أراد أن يستفز الرجل ليقرأ في عينيه نفس النظرة، الكلمة التي تعود إذا رآها أن يركع ويخضع.
أراد تماما كما يفعل المدرب حين يستفز الأسد برمحه ليزأر ليخيف المتفرجين كي يزدادوا تقديرا لبطولته، أراد أن يستفز محمد الحلو بانقضاضه أو بمخالبه أو بأنيابه، لينتفض له، مرة أخرى، ذلك الرجل الذي تعود أن يجبن أمامه.
ولكنه ما كاد يستثير وينقض ويدفعه حتى سقط. حتى انهار تماما وهو في أقصى درجات الرعب، حتى أطبق على الخيمة كلها رعب أكثر من رعب الحلو نفسه.
وهكذا فجأة أدرك الحيوان العميق المستسلم لقيوده ومصيره وخوفه أنه كان مخدوعا، وأنه الأقوى والأعظم والمسيطر والملك.
واندفع ينهش لحم صاحبه المدرب، ويعضه، ويكسر قيوده ويستعيد نفسه.
ونستغرب بعد هذا لماذا صام «سلطان» عن الطعام وقضى الأيام التالية حزينا.
الحزن في رأيي كان سببه أنه أبدا لم يرد أن يحدث ما حدث.
إن الأسد حيوان ليس الغدر في طبعه.
وكالكلب، الوفاء عنده، غريزة.
وهو لم يقصد أن يغدر أو يفترس أبدا صاحبه.
أراد فقط، كل ما أراد، أن يستمر على وضعه خائفا من ملكه وصاحبه ومدربه وسيده. أراد، كل ما أراد، أن يجعله يشعره مرة أخرى أنه الأقوى والأقدر.
كان متأكدا أنه سيقابل هجمته بهجمة أشد منها.
كان يعبث، كما تعود أن يعبث، حتى يناله العقاب، كما تعود أن يناله، ويسعد بعودته للخضوع والطاعة والذلة.
وحين سقط الرجل، حين سقطت الهيبة الضخمة وضاع الصولجان. حين لم يعد باقيا أمام سلطان إلا أن يحس بالشفقة على صاحبه فيطبطب عليه ويأخذ بيده وخاطره، لم يستطع للأسف أن يفعل. فالأسد، كالحيوانات، كالغابة في أساسها، لا يحس بالشفقة على أحد. ولو كانت الشفقة قانونا من قوانين الوجود لماجت الحياة وازدحمت بأشكال وأنواع وأنماط ركيكة عاجزة لا تصلح للحياة وإن كانت تصلح للشفقة. الأسد إذا لم يخف، خوف. إذا لم يخف أن يؤكل خوف بأن يأكل. وإذا لم يجد التخويف، أكل فعلا، وربما هذه هي طريقته في إظهار الشفقة. أن يأكل من لا يعتمد في بقائه حيا إلا على إحساس الآخرين بالرثاء والشفقة. •••
إلى المستشفى حملوا محمد الحلو ليموت طبا وعلاجا.
وإلى حديقة الحيوان أخذوا «سلطان» ليموت كمدا واكتئابا.
وكم آلمني ما حدث للحلو !
وكم آلم الناس الطيبين، من رأوا الفاجعة ومن لم يروها.
ولكن لأننا جميعا مشغولون بالإجابة على السؤال: لماذا يحدث للحلو ما حدث للحلو؟
ولماذا ينهش الحيوان المتوحش صاحبه الذي دربه وأطعمه ورباه؟
ولأننا جميعا لو استحلنا إلى أكلة عيش فسيكون مصيرنا أن تنهشنا أكلة اللحوم. والإنسان أثبت أنه على رأس أكلة لحوم البشر.
لأن الأمر كذلك.
فإني أترك المشكلة لكم لتفكروا فيها.
ففي هذه اللحظة أنا قابع مع سلطان في حبسه الانفرادي، قاتلا، ومجرما، ومنبوذا، ومحل سخط الجميع وازدرائهم، قابع معه أتساءل، كما لا بد لذي العقل منا لو كان حيوانا، أو للحيوان منا لو كان ذا عقل أن يتساءل: ما هي جريمتي أيها السادة؟
أني عقرت الرجل وأرديته!
ما ذنبي وأنا لم أفعل إلا أني قمت بدوري كوحش عليه أن ينهش إذا خاف مدربه، وأن يلعب إذا أخافه المدرب؟!
أم كنتم تريدونني أن آخذها أنا الآخر هزلا، ويصبح الوحش الذي في نكتة، كما أصبح أي شيء نكتة.
إني آسف أيها السادة، شديد الأسف لما حدث لسيدي السابق، شديد الإعجاب بابنه الذي يعتلي الآن ظهور الأسود ويخيفها، آسف أيها السادة فقانون الغابة ليس قانونها فقط، إنه قانون الحياة والأحياء، ذلك الذي لم تستطع حتى أديان السماء كلها أن تلغيه.
إما أن تخاف وتركع أو تخيف وتقتل. في القفص وخارج القفص، فأنت مقتول إن ضعفت أو خفت، أو قاتل، وأنت المسئول عما تختار.
آسف أيها السادة، فأنتم وحدكم الذين تسخرون من هذا القانون وتضحكون، فإذا كان العالم يحياه حقيقة وقانونا وتحيونه أنتم سخرية ونكتا فالذنب ليس ذنب «سلطان».
ليس ذنبي.
وليس ذنب صاحبي محمد الحلو.
صاحبي الذي خضعت له بطلا.
وحين أصبح آكل عيش مثلكم أرديته.
فأنا لست سلطان الأسد.
أنا سلطان قانون الغابة، وقانون الحضارة، وقانون الإنسان، وقانون كل الوجود.
جيوكوندا مصرية
إنها ليست أول مرة أحاول، ربما هي ثالث أو رابع مرة؛ فأنا أحس كلما أردت كتابتها أن اللغة التي استعملها أخشن وأصلب وأجوف بكثير من أن تستطيع التعبير عنها، أحس أن لغتنا، تلك التي نتحدث بها ونكتب خلقت لتصوير أحداث ضخمة وأحاسيس كبيرة الحجم كالصخر، أو حتى إذا صغرت فهي كالرمل أو الحصى، في حين أن ما أريد تصويره ناعم موسيقي رقيق دقيق كأنه الذرات العالقة بشعاع الضوء إذا سقط في غرفة مظلمة. لا، ليس حتى كعزف الكمان أو أنين الناي، إنما هو كاللحن الذي لا تستطيع سماعه إلا إذا خفت الضجة في الدنيا كلها أو سكن الكون تماما، ثم طهرت نفسك من كل ما يشغلها من هموم الأرض وأحاسيسها الترابية العابرة، واستحضرت في ذاتك المعاني الحقيقية للرحمة والحب والحنان والإنسان، المعاني الخالدة السرمدية التي يحيا البشر على أمل أن ذات يوم تتحقق، حينئذ فقط، وبعد طول معاناة في تهيئة النفس، وطول تأمل وسكون، ستجد نغما رقيقا واهن الضعف قد بدأ يتسرب إلى نفسك، ليس من أذنك فقط، وإنما من كل ذاتك ولكل ذاتك، يتسرب النغم تسربا لا يفعل أكثر من أن يحيل ذاتك نفسها إلى ذات النغم، حتى لتندمج معه في وحدة بالغة الشفافية.
أنى لي بكلمات تستطيع وصف هذا وكلماتنا صنعت لمعان محدودة واضحة لا شك فيها ولا اختلال، أنى لي بكلمات تستطيع وصف عشر الانفعال، والواحد على المائة من الارتجافة أو الخفقة الواهنة المرهفة التي يكاد السمع يتجاوزها؟
أنى لي بألوان أستطيع بها وصف لون «حنونة» المسيحية، ذلك اللون الذي لا هو أبيض ولا قمحي، ولا هو أوروبي ولا شرقي، لا هو صعيدي ولا من أقصى الشمال في بحري، لون حتى في مكوناته زرقة ليست زرقة الموات ولكنها كزرقة الفجر إذا شقشق، أو زرقة البحر إذا هجع وتحولت موجاته إلى نداءات وديعة تئوب إلى مستقرها عند الشاطئ خاشعة ساجدة تهيب بك أن ترتمي بحرا وتعب زرقته حتى النهاية.
وكيف لي أن أبدأ القصة وليس في ذهني بداية واضحة، إن هي إلا علاقات متصلة بين الناس ومنشأ مشترك، وطفولة، ثم صبا، و«شال» كموني باهت، وحجرة ليس بها أحد سوانا، وخبز مقدس، ثم إنجيل صغير الحجم كثير الصفحات ، مكتوب بلغة عربية لها طعمها الخاص.
وكنت في سن البلوغ، تلك التي تحس فيها أن هناك دنيا هذا صحيح، وهناك صبح وشمس وقمر، وهناك بلاد بعيدة قبل البحر المالح وعبر المالح وبعد المالح، «الطلمبات» بضخامتها السوداء الزيتية المهولة وصوتها المتئد الوقور المستمر، والماء المجذوب بسحر خفي وبكم هائل إلى فتحاتها والماء الهادر الغاضب المندفع الأرعن الخارج عنها، هناك الغربان والعصافير، وأولياء الله الصالحون، وهناك المصحف والآيات التي يجب عليك حفظها وكلها عن جنة شديدة الجمال غريبة، وعن نار جحيمية يقشعر لها بدنك، وثواب وعذاب ودنيا وآخرة، وهناك أيضا، وهذا هو المهم المباشر، خيزرانة الشيخ مصطفى المنكفئ العمامة إلى أمام أكثر مما يجب، ذي الأرجل الرفيعة المنتهية بركب كرءوس عيدان الكبريت، حين يضع ساقا رفيعة فوق ساق، ويتدلى حذاؤه حائل اللون فاغر الفاه، ويهز لك رأسا فوقها تهتز العمامة ويقول: سمع يا ولد. هناك شيء ما هذا صحيح. شيء لا نراه ولا نحسه، شيء آخر غير ليلة القدر، والموت، والحب الشديد الذي أكنه لأبي، شيء بإرادته مختلف لا يريد أن يظهر، ربما خوفا علينا؛ إذ ربما لو ظهر لمتنا من شدة الخوف والرعب والمواجهة، شيء آخر غير العفاريت، فالعفاريت رغم كل شيء فيها ما يضحك، ولكن هذا الشيء لا يبعث على الضحك أبدا. إنه قاس وقور مهيمن رحيم.
قلت لحنونة، وأنا بالضبط لا أعني ما أقوله: أريد أن أكون مثلك.
كانت لا بد أكبر مني ربما بعام أو بعامين؛ فقد كانت أطول وإن كانت أضعف، ولكنها دائما الأعقل والأحكم. وهنا بالضبط أعجز عن التعبير. روحها ذلك الإحساس المشع منها وكأنه النور يأتي من لا مكان أو بطريقة غير مباشرة، روحها تلك كانت تضفي على كلماتها ومشيتها وعلى الطريقة التي ترفع أو تخفض بها يدها أو تقضم قضمة صغيرة وبأسنانها الأمامية من الخبز المقدس. مسحة غريبة البراءة والنقاء والرشاقة تجعلك تعتقد وكأنها ليست من أهل الأرض، وكأنها النوع الثاني من البشر، ذلك الذي يصنع الحلقة الكائنة بينهم وبين الملائكة.
ولا أذكر بماذا أجابتني. ولا حتى على وجه الدقة إذا كانت قد أجابت، وماذا أيضا قالت عن الإنجيل، والخبز المقدس، و«كيرياليسون» ومعناها كما علمتني «يا رب، ارحم». وكنت قد سمعت القسيس الآتي من المدينة يرددها في زفاف «عفيفة» حين تزوجت منذ شهور. كل ما أذكر أني من إجاباتها بدأت أحس أن هناك أناسا آخرين غيرنا نحن، أظن أن الدنيا كلها مسلمة، وأن هذا الدين الآخر الجديد مملوء بأشياء تثير الخيال، وتبعث على حب الاستطلاع الشديد، وخاصة أن لهم في البندر - كما عرفت من حنونة - كنيسة، فيها صورة كبيرة للمسيح، وفيها شموع وثريات بالكهرباء، وفيها غناء؛ بل إن كل صلاتهم غناء في غناء.
ولم أعد أدري، أسر تتبعي لحنونة - حتى وهي في طريقها إلى النوم - إن هو إلا محاولات أكثر لإدراك أشياء أخرى عن هذا الدين، أم هو استسلام لذلك الإشعاع الذي لا يقاوم الدائم الصدور عنها، يجذب إليها الناس والأشياء، ويحيل كل ما تصنعه إلى حدث براق ممتع رقيق مثير.
ولكن ما أعرفه أنه لا أقول بدأت أحس برباط قوي يربطني بها، وإنما بدأت في أحيان أعي أني لا أتركها وكأني ظلها، إحساس كان لا يراودني إلا في اللحظات التي أغادرها فيها.
فوأنا معها كنت لا أحس بنفسي ولا بما أفعله أبدا؛ فأنا ذائب تماما في ذلك اللقاء المستمر معها، لا هم لي إلا تأملها، وتتبع ما تقوله أو تفعله كالمشدوه بمعجزة خارقة، دائمة الحدوث، لا ينفصل عن شعوره بها ولا يبغي إلا أن يظل في حالة النشوة المشدوهة تلك لا يغادرها أو تغادره لحظة.
ويخيل لي أن مشاكل العالم تنشأ من هنا؛ فنحن أبدا لا نستطيع الصبر على ظواهر الكون أو التفاعل التلقائي للأحداث وعلاقات القوى والنماء وهي تنشأ وتنمو وتتفرع وتزدهر، إنما دائما بإرادتنا الحمقاء وقوانيننا التي ابتدعها أقدمون متزمتون، دائما نتدخل، فنفترض سوء النية أو حتى حسنها ونتدخل، وفي تدخلنا نحاول الفرض والكبت والقطع والتأكد المستعجل ولوي سنن الحياة.
ترى ماذا كان يضير أن تستمر علاقة كهذه ، زهرة وديعة وسط غابات الطبائع والنفوس والعلاقات الاجتماعية المتشابكة المعقدة التي لا تدري عنها شيئا.
وماذا يهم أنني ابن مهندس الطلمبات، وأن والد حنونة هو كبير الأسطوات، وأنني ولد وأنها بنت، وأن كلام الناس كثير، مع أن الناس في «المستعمرة» التي نسكنها جميعا قليلون، كلهم لهم مساكن أقامتها لهم وزارة الري قريبا من مبنى الطلمبات هائل الضخامة، مستعمرة ومجتمعها وطلمباتها كائنة في مكان ما، بعيد وسحيق من شمال الدلتا. مجتمع صغير مكون من مجموعة صغيرة - وإن كانت في ذلك الوقت تبدو لعيني وكأنها ربع العالم - مسلمون ومسيحيون، ومع هذا فألف مشكلة قائمة، وألف شوكة تؤلم بلسعها ووخزها هذه العشرات القليلة من الحلوق في ذلك المكان الكائن عند آخر الدنيا.
بدأ الأمر بشكاية من أمي لأبي، وأبي خاضع لأمي منذ قطعت ساقه أو التهمتها مروحة الطلمبات لا أعرف؛ فالقصة غالبا لا تروى، إذ هي دائما وكأنما تجلب معها الذكرى والألم. ومنذ أن أصبح أبي بساق واحدة أصبحت أمي بثلاث سيقان وعشر أيد ومائة لسان.
وهكذا أوقفني الرجل الطيب أبي ذات صباح وأنا ذاهب إلى «كتاب» الشيخ مصطفى وأفهمني بطريقة لا تقبل الجدل أن علي العودة بعد «الكتاب» إلى البيت مباشرة.
لم يشأ الرجل الطيب أن يؤلمني بذكر حنونة وحكايتي معها. آثر أن يدع الباقي لفهمي. وأنا أيضا لم أشأ المناقشة؛ فقد اعتزمت ومنذ اللحظة الأولى، أن أخالف هذا القرار، وأكذب، وأقابل حنونة. وكيف لي أن أستطيع الكف عن شيء لا أفعله بإرادتي، إنما أجد نفسي، هكذا، كما أجوع وأعطش وأشرب، أفعله، دونما فكر أو أرجحة للاحتمالات وأخذ قرار. إننا ونحن أطفال وصبية نكون أكثر صدقا مع أنفسنا ومع ما نريد، وما نريده يكون أكثر صدقا مع الحياة نفسها، كل ما في الأمر أننا صغار في عالم لا يخضع للحياة وقوانينها وإنما ينظمه ويقننه ويحكمه الكبار. ولا بد دائما أن يتدخلوا، فإذا فعلوا فإنما ليجبرونا، لا لنمتنع، وإنما لنراوغ ونكذب ونكرههم كما نكره العقاب.
ولا أعرف ماذا بالضبط، وبالمقابل، حدث لحنونة.
ولكني في مكاننا المعتاد عند «الهدار» وهو البئر العميقة التي تصب فيها كل المياه القادمة من المصارف الكبرى، وتأخذ عنه أفواه الطلمبات الماء لترفعه بعد هذا إلى أعلى، إلى مستوى منسوب البحر الأبيض ليتم صرفه والتخلص منه؛ إذ الماء الجوفي في الدلتا وشمالها أقل من منسوب البحر ولا بد من ضخه إلى أعلى، ومن أجل هذا أقيمت الطلمبات. في مكاننا عند الهدار لم أجدها. وانتظرت، وتأملت كثيرا منظر الماء وهو يهدر في الهدار ويدور ويصنع دوائر كبيرة تنتهي إلى دوائر أقل وأكثر انخفاضا وتدور بسرعة أشد إلى أن تصنع الدوائر حفرة على هيئة القمع يقولون إن قاعها يبلغ الرجل ولا يبين له بعد هذا أثر. ولم تحضر. وغير قريب من بيتهم وقفت وقد بدأت أحس أن يد الكبار غليظة حقا وأنها قد عملت عملها، وأن اليوم الواحد العذب الممتد الطويل قد انقطع.
وفي الشباك لمحتها، كنا العصر، والشمس قد استحالت من جهنم الظهر المروعة إلى مجرد مصباح أصفر رقيق يضيء الشباك وداخل الغرفة، وفي وسط تلك الأرضية الصفراء الحية بصفرتها يستدير وجه حنونة وقد أكسبته الأشعة لونا غريبا يلمع من خلال القضبان الحديدية الداكنة، لونا يحيل الوجه إلى شمس أخرى، شمس مخنوقة منكفئة الجبهة، مختبئة.
وقفت أنتظر منها إشارة، أو بريق عين حتى، يدل على أنها رأتني أو أرادتني، ولكنها كانت صامتة واجمة، كانت بالضبط صورة «العدرة»، العدرة مريم، نفس الصورة المعلقة في غرفتها معلقة الآن في النافذة، ولا بد أن ألقاها، وأنا أعرف الست «أم حنونة» وأعرف أنها وإن كان يقال إنها أشد الناس سلاطة، إلا أنها معي طيبة، تعطف وكأنما بالسليقة على مزاملتي لابنتها، كثيرا ما دست في جيبي برتقالة، أو حبات «بون بون» ودائما تقول سلم على الست «أم محمد»، سلاما لا أوصله؛ فقد كنت أعرف رأي أمي فيها، ورأيها في أمي.
الباب مفتوح، أأدقه؟ دخلت.
أم حنونة خارجة لتوها من المطبخ وهباب الوابور على وجهها وأطراف شعرها الأبيض وملابسها، أشرق وجهها بابتسامة وكأنما أدركت سبب المجيء، أعقبها في الحال تجمد ملامح وكأنما ظهرت إلى وعيها المشكلة والتحذير، وتلعثمت، وفأفأت، ولكنها لم تصرح بشيء، وإنما استدارت وكأنما لم تر ولم تسمع، وعادت إلى المطبخ.
وما يدريني؛ فقد قرأت في حركتها تلك علامة الرضا، واندفعت إلى الغرفة كالسهم. ووجدت حنونة واقفة تبتسم وتنتظر انتظارا منخفض الرأس لا يزال وفي عينيها دون أن أراهما مكر بريء جميل كمكر المحبين.
ولدهشتي أقدمت على حركة لم أكن قد تعودتها منها أبدا، مدت يدها تصافحني، وبكل ما لدي من لهوجة مددت يدي وشددت على يدها بقوة حتى بدا أنها تألمت. كنا دائما نلتقي أو نسير أو نتحرك أو نقدم على عمل الشيء معا، أما أن نتصافح فذلك ما لم نفعله إلا هذه المرة. يدها صغيرة كانت، ويدي رغم العامين فارق السن، أكبر، يد نحيلة بأصابع أيضا رفيعة ونحيلة وكأنك تقبض على مجموعة من أقلام الرصاص، ولكن لم تكن أقلام رصاص، كانت اليد بأصابعها حية دافئة كأنما تركزت فيها كل إشعاعاتها الخاصة، لم تكن يدا. كانت قلبا نابضا دق، نفس القلب الذي سمعت دقته حين كنت أتعمد الاقتراب بوجهي من صدرها. مصافحة روعتني وأحدثت بي مسا.
قلت لها: أنت كالعدرة مريم.
رفعت حاجبها في استنكار مذعور، ولكنها عادت تبتسم كأنما عيب ما أقول، ورغم هذا سألتني: كيف؟
قلت لها: وأنا أراك من النافذة كنت كالعدرة، بدون المسيح يا حنونة، أنت حنونة - وكم كان يمتعني دائما أن أناديها باسمها وكأنما أستمتع بنطق الاسم وطعمه في فمي - أنا المسيح وأنت العدرة. خليني مسيحك وأنت عدرتي.
كادت، بل ضربتني على يدي فعلا، إنما برفق تنهاني. ولكن الفكرة كانت قد استبدت بعقلي، ولم تكن بنت لحظتها. لا بد أنها نبتت في ذلك اليوم الذي كنا فيه منفردين كالعادة في منزلهم، وكنت أحدق في صورة العذراء مريم وهي تحتضن ابنها المسيح بحنان زائد. كانت ألوان الصورة قديمة وباهتة، ومن رأس مريم كانت تخرج إشعاعات تذهب في كل اتجاه، وكان عيسى طفلا جميلا جدا يبتسم بسعادة الابن المدرك أنه في أحضان أمه ، وفي كنف رعايتها وحنانها، وكانت مريم أيضا تبتسم، شبح ابتسامة يعبر وجهها وشفتيها، وكأنها تدرك أن صورة ما ستؤخذ لها، وتريد أن تضمن الصورة ابتسامة أم سعيدة بابنها حقا.
وحين التفت أحادث حنونة أحسست على الفور أني أريد أن أرتد طفلا، أرتكن إلى حضن حنونة وتسعد بي مثل سعادة العدرة مريم بمسيحها، ولكني، في ذلك اليوم، وأنا أطلب منها أن تكون عذرائي وأن أكون مسيحها، لم أكن أفعل ذلك وفي ذهني أن أتحول إلى طفل صغير تحتضنه أمه. هناك، وراء سؤالي وطلبي كانت ترقد رغبة قوية قديمة عارمة، أن أحتضن أنا حنونة. آخذها بين ذراعي، وأطبق عليها، ليس بعنف وقوة، فأنا أعرف أنها رقيقة هشة، إنما بحنان ورفق ورقة أريد أن أطبق عليها، أريد بيدي إذا أطبقت وبحضني إذا احتواها أن أحتويها تماما، وأصغرها وأدخلها بطريقة ما في صدري فتلك هي الوسيلة الوحيدة في رأيي لإسكات هذا الإحساس المستمر برغبتي في الاقتراب منها والالتصاق الدائم بها.
كنت أريد أن أقترب منها الاقتراب الأكبر، اقترابا أكبر بكثير مما كنا نفعله مع البنات ونحن نلعب لعبة الزواج في المخازن القديمة.
حدقت في حنونة طويلا. كانت تلك أول مرة أراها تحدق في على هذا النحو الغريب. كثيرا ما كنت أسأل نفسي عن رأيها في أو إحساسها نحوي؛ ففي معاملتها لي لم أكن أحس بذلك الشيء الخاص الذي تنفرد به العلاقات الخاصة، كنت أحس بنفسي وكأني في نظرها لست سوى صبي في الرابعة عشرة، مجرد صبي آخر في عينها ذات الستة عشر ربيعا، حقيقة تربطها به علاقة ورفاقة وتآلف واتفاق، ولكن لا شيء أكثر من هذا في تحديقها هذه المرة، أحسست فجأة باللمعة في عينيها تأخذ ذلك الطابع الذي طالما هفوت إليه؛ طابع الإحساس بالخصوصية، أحسست أنها نظرة موجهة لي أنا، وأنها تقول بها كلاما كثيرا تخجل أن تقوله العين نفسها، ولا تفصح عنه سوى النظرة، بل هو كلام لا يمكن - أو كان لا يمكن في نظري - أن تقوله عين، وبالذات عينها ، كلام لم أملك معه إلا أن أقترب منها. كثيرا ما كان أحدنا يلتصق بالآخر ونحن سائران ويتأبط ذراعه، ولكن تلك أول مرة نقترب فيها إلى هذه الدرجة. ولم أكن، كائنة ما دارت أحلامي وأمنياتي، أتصور أن يحدث ما حدث، وأن فجأة تضمني حنونة إلى صدرها، بقوة مرتعشة مستعجلة مفاجئة، وتطبع على جبيني قبلة سريعة، لا بد احمر لها وجهي كثيرا. ورفعت رأسي وأصبح وجهي يقابل وجهها. كنا انثنينا نلهث، وجاءت المفاجأة الرائعة الثانية؛ فقد وجدتها تنحني، وأنا الأقصر قليلا، وتقبلني في شفتي، قبلة سريعة أيضا، عظيمة الاضطراب والارتجاف حتى لقد أحسست بموجات الارتعاش التي تجعد شفتيها تنطبع على شفتي، قبلة سريعة كأنها البرق، ولكنها البرق، ولكنها شملتني بكهرباء نعناعية المذاق تفتحت لها كل مسام روحي وانتعش قلبي وكأنه طائر ربيع بكر في اليقظة، قبلة خلفتني إلى أعظم اضطراب شعرت به في حياتي إلى تلك اللحظة، فوكأنني فجأة قد أدركت، بالقبلة أن حنونة بنت، فيها من ذلك الشيء الذي يميز جنس النساء، والذي يجعلهن يرتدين تلك الألوان والأثواب ويتضمخن بالعطور، ويصلصلن بالغوايش والخواتم والعقود، فيها من ذلك الذي يبرز الصدور ويجعل الجلد في نعومة الحرير وللصوت ذلك النغم الرقيق في مقابل صوت الرجل الخشن كجسده الشوكي كذقنه، الداكن كوجهه وشعر صدره. حنونة إذن أنثى. اضطرابي كان سببه أني أبدا لم أتصور هذا قبلا أو أحلم به. حنونة في نظري كانت كالعدرة كالآلهة، كالمتسببة العظمى في كل خلجة سعادة يحفل بها الكون، الله جل جلاله، الله سبحانه، وليغفر لي الذنب أنثى. لجزء من جزء الثانية عاودني الشعور وأنا لا أزال أستجيب لاحتضانها بيدي تلتف حولها وتضمها، أحس أني أضم عذرية الكون الأزلية، عاودني الشعور ولم يزايلني. سقط في قاع عقلي ولم يبرحه وظل كالأماني العميقة حبيسة تقديس العرف والمعقول والتقاليد أمنية أن تذوب الذات الصغرى في الذات الأعظم، أن تحب الله إلى الفناء، أن يتم الاتصال الخالد بينك وبين السر الكوني الأعظم.
وحتى لو كنت قد نجحت في تصور حنونة أنثى وفي إنزالها من الملكوت إلى الأرض جسما من لحم وعظم، فقد كان من المحال أن أقرن هذا التصور بنفسي، من المحال أن أتصور علاقة لي تقوم مع حنونة الأنثى حتى لأفعل معها مثلما أفعل مع سائر البنات، حاولت كالمجنون أعيد القداسة إلى مكانها، أستعيد إحساسي أنها الأعظم، وأن ما تشعه في الكون من جمال ورشاقة وتفوق يجعلها فوق مستوى البشر، يرفعها للسماء، حاولت جاهدا أن أعيد الشعور ليحول بين الشاب الصغير الذي انتفض داخلي فجأة مستجيبا لنداء الأنثى الذي تولدت عنه حنونة فجأة أيضا، ولكني كنت أحاول المستحيل، فكل قداسات الدنيا من المحال أن تباعد بين القوتين الأعظم للحياة إذا وجدتا، الرجل والمرأة؛ إذ ثالثهما هو القانون الشيطاني الذي لا يمكن عصيانه. وقبلتها أنا، مرتجفا، مضطربا مثلها، إنما قد استجمعت ما في من رجولة بكر، ولتكن حتى ما تكون، أرضية تكون أو سماوية، قديسة أو فتاة عادية، فأنا محبوب وأنا محب والبادي كانت هي، وعلي أنا أن أنعم مستحما عريان في ذلك البحر المفاجئ الغريب الذي تفتح لي فجأة من بين شفتيها. يا لقلبها يدق وقد رقدت على الكنبة وأذني فوق قلبها، دقا كونيا يكاد يزلزل الأرض والسماء فقد كان يزلزلني، يا لوجهها أجد فيه الأرض مرة وكل ما فيها من جمال، والسماء مرة وكل ما فيها من قداسة، علوية ترابية، تحمر وتصفر تكتئب وتكسوها ابتسامة العذراء، تموج كسطح البحر الرهيب الذي تفجر، دون أن تنطق، دون كلمة يتلوى جسدها ويتكلم، عذراء كانت وعذريا كنت، وكلانا لا يعرف، ويريد أن يعرف وهو يحاول أن يعرف، والغمامات التي كانت تحجب عيوننا عن أن ترى، وأن ترى أول ما ترى أنفسنا، تنزاح والحمى ليست حمى الغيبوبة ولكنها حمى التعرف المجنون والاستحواذ والمتعة والاكتشاف، حمى السر الكوني إذن، أخيرا انكشف، حماك وأنت واقف ترقب ليلة القدر إذا انفتح باب السماء أمامك حقا واكتشفت من خلاله سر السماء، أو إذا انشقت أمامك المرأة فجأة عن مكنونها الأعظم لك، ولك وحدك.
كلما تذكرت أني كنت لو حاولت تخيلها بنتا وأنثى أحس أني على وشك القيام بمعصية تزلزل الأرض والسماء كما لو كنت على وشك ارتكاب الإثم الأعظم، أعظم إثم يرتكبه بشر، كنت كلما تصورت هذا وأحسست بحرماني السابق يطغى أضمها وأعتصرها وألوكها، حية دافئة، أنثى، أمرغ نفسي فيها وفي حرماني منها وفي قداستها وفي الإثم الأعظم وبشريتها، والزمن الطويل الذي انقضى أعبدها، كنت أعبدها، وها أنا ذا أنا العابد أنالها وعلى نحو محال أن تتطرق إليه أشد الأحلام تخريفا وبعدا عن التصديق.
وماذا أقول؟ أأقول إن القداسة التي كانت تحيط بها وتصبغ صوتها وحتى إشارات يدها كانت إشعاعات الأنثى فيها، إشعاعات المرأة مقدسة ومشرقة، إشعاعات النوع والأنوثة كلها مركزة كضوء العدسة في حنونة، حنانها، مسيحيتها، جمالها، نظراتها، عبادتي لها، كلها أنوثة وأنثى، ولقد مرت سنين وسنين، وعرفت نساء ونساء، ولكني، لأنها كانت هي الأنثى في ذلك اليوم، لم أشعر منذ يومها أني الرجل، ذلك الرجل، إلى الآن.
وكأنما الماء في الهدار بهدوء شديد بطؤت حركته، وضحلت حفرته، وآب إلى سكون.
وكأنما البحر الذي انبثق من بين شفتيها بطول الدنيا وعرضها، آب سطحه إلى زجاج.
وبالكاد حاولنا الاعتدال، وهي خجلى ولكنها ليست نادمة، وأنا خجلان، حين لمع شعاع عند الباب على حين بغتة، شعاع أدركت في الحال كنهه وأنه صادر عن زجاج نظارة معوض أفندي أو الباش أسطى أبيها، الطويل الرفيع ذي العينين المتعبتين دائما، واللتين لا بد تجد عند كل زاوية منهما، وفي أي ساعة من ساعات اليوم، نقطة بيضاء من العماص أو الالتهاب لا أعرف.
كنت خجلان ولكني كنت كالمؤمن الذي للمرة الأولى في حياة إيمانه يتصل الاتصال اليقيني المادي بخالقه، وتتم المعجزة، ويتحول عنده الإيمان إلى رسالة ويقين مستعد أن يفقد حياته نفسها وبكل بساطة في سبيلها، وهكذا حين انسحبت حنونة من الحجرة هاربة كالقطة، ودق قلبي الصبي دقة قلب الصبي يضبط، أوقفت دقه بعناد المؤمن المهووس الممتلئ إيمانا، ليس بما فعله منذ لحظات بالذات، وإنما بحنونة، وكل ما يتصل بحنونة، وعلى رأسه أن تستمر علاقته بها، قامت الدنيا أو قعدت، ضربه معوض أفندي أو تشاجر مع أبيه، ردحت أمها لأمي أو خنقتني الأم، سحب أبي بندقيته القديمة من دولابها وأطلق النار على عائلة معوض كلها أو علي أنا منفردا، فليحدث، وإنما كما يصلي العابد لإلهه، كما يتصل الشعاع بأمه الشمس، كما لا يمكن أن تخلو النجوم من الليل، فصلتي بحنونة أكبر من كل هذه الحتميات، باقية وستبقى، إلى أن أموت أو نموت معا، وربما حتى بعد الموت تبقى.
ولكن يبدو أني رغم هذا الإحساس الداخلي المروع، كان وجهي من الخارج، وأمام مشهد معوض أفندي المنتصب طويلا ورفيعا، ينخطف، وينسحب كل ما في جسدي من دم ويسيل مغرقا أرض الحجرة. بقيت واقفا جامد العينين مخفضهما أنتظر العقاب. كنت رغم هذا أدرك أنه جاء بعد النهاية، وأنه لا يمكن أن يخمن حقيقة ما حدث، ولكني بإصرار كنت أنتظر العقاب. وليته عاقبني، ليته ضربني أو سبني، ليته حتى اشتكى لأبي وليت أبي قتلني، فكل ما فعله أنه بعد سكوت طويل قال: أنا كنت فاكرك جدع مؤدب يا محمد.
كلمة من الكلمات التي تلصق بالذهن مدى العمر لا تمحى. كثيرا ما ترد إلى أذنيك، وتجدها فجأة قد انبثقت من غياب الماضي واستحضرت نفسها، حتى على شفتيك تنطق نفسها فترددها، وتشملك رعدة خجل من نفسك وكأنها الرعدة الأولى التي أصابتك حين سمعتها أول مرة، وكلما تذكرتها، تذكرتها كاملة. نفس النغمة والطريقة التي قيلت بها، ولا أدري بالضبط إن كانت قد مرت شهور أو أعوام على ما حدث؛ إذ كل ما تلا ذلك كانت أياما كئيبة ممتدة الطول لا نهاية لها وبلا هدف. آلاف المرات ألف حول البيت علي ألمحها. كنت أعرف أن القضاء قد حل وأن الأمر البات الصريح قد صدر لها من أمها وأبيها معا، ألا تراني، أن أموت تماما من وجودي. وكنت في مرات، مرات قليلة جدا، مرة كل ألف مرة، أراها، أراها من بعيد وأتطلع إليها مكتفيا بنظرة البعد وكأنني الإنسي يتطلع إلى نجوم السماء ، ويحز الهوى القدسي في نفسي أحيانا حتى ليدفعني دفعا أن أقترب، وأظل أقترب حتى لأصبح على مرمى البصر منها، وأناديها، بهمس خفي مرة، بصوت عال مرة، وأشير لها، بيد ترتعش، بيد أحيانا مهووسة متوترة، بذراع تقفز مع الجسد في الهواء وكأنما تريد أن تمسك بخط البصر الكامن بين عينيها المستقيمتين وبين الأفق. ولكنها لم يحدث أبدا أن رمش لها جفن الإدراك، إدراك وجودي، واقفة أبدا في قلب مربع النافذة الأصفر الذي تقطع صفرته عمدان الحديد، عارفة بوجودي، هكذا أحس وأكاد أقسم ولكني أعرف أنها لا تدركه أو تأبى إدراكه، لا بد أنها قطعت على نفسها عهدا أمام أبويها، وعهود حنونة، كحنونة، مقدسة، ومحال أن تحنث بالعهد المقدس. أذوب وجدا وأنا أتذكر، أتذكرها من لحظة عرفتها إلى لحظة المعرفة الأعظم، أتذكر كل حركة صدرت عنها، كل كلمة عرفتها، إلى لحظة المعرفة الأعظم، أتذكر كل حركة صدرت عنها، كل كلمة، كل نظرة ذات معنى ارتسمت ذات مرة على ملامحها، أتذكرها وأذوب وجدا وشوقا وأقتل نفسي ندما. أكان لا بد أن أصل إلى المستوى الأعظم ألم يكن القرب مجرد القرب، أهون ألف مرة من التلاشي التام إلى حد القطيعة. كنت كالبطل في قصة ألف ليلة وليلة ذلك الذي تركوه في القصر ذي الأبواب السبعة وأمروه ألا يفتح الباب السابع للحجرة السابعة، وعاش في القصر ينعم ويستمتع، ولكنه لم يستطع أن يقاوم المتعة الأكبر، أن يفتح الباب السابع، وفتحه، ورأى ما لم تره عين ولم يخطر على قلب بشر، ولكنه في النهاية وجد نفسه هناك خارج القصر في النقطة السحرية التي فتح له باب القصر منها، كأننا عاديا قد عاد إلى الدنيا العادية، ووجد هناك ستة يرتدون السواد ويجلسون في بكاء متصل، إنهم أولئك الذين سبقوه إلى الندم، وانضم مالك الحزين بملابسه السود ليصبح سابعهم، أكان لا بد من الباب السابع والمتعة الأعظم؟ كمالك الحزين أبكي، وبالندم أحيا، والعالم كئيب، والأيام من فرط طولها عجوز رمادية شائخة، والليالي بلا منتصف أو فجر أو صباح ، والعمر بلا زمن، إلى أن جاء الخريف، وسرت الإشاعة ولا أصدق أنا، وتحدد اليوم، والشخص، وحلت الليلة، وانتثرت الكلوبات في المستعمرة، وتركزت في المربع الأوسط الواسع، الأضواء تكسر الظلام باهرة، والشموع كثيرة لا حصر لها، حتى رائحة الشموع نفسها كانت على البعد تشم، وابن عمها جاء من الصعيد ليتزوجها، وهم يزفونها إليه، ونفس القسيس الذي يزورهم بين الحين والحين قد حضر من كنيسة البندر، والكل يغني ويردد وراء القسيس: كير ... يا ... ليسون، ارحم يا رب، يا رب ارحم، وحنونة في ثيابها البيضاء الناصعة، وعقد الفل، والطرحة، وقد حملا وجهها بأكثر مما يحتمل من ألوان وأصباغ، ولكن بقيت لها نظرة العينين غير مصبوغة، وإنما هي زائغة مروعة تائهة، تتحرك مدفوعة بالأيدي الكثيرة التي تتجاذبها، تتحرك كالمنومة مغناطيسيا كمن تؤدي دورا، وثمة ابتسامة شاحبة خائفة لا تغادر وجهها، وإلى جوارها أفندي ربما لم تره في حياتها إلا الليلة، ضخم الجثة، أسود الشارب كثيفه، يرتدي «بالطو» أسود وشعره لامع شديد اللمعة بما فيه من بريانتين، العريس منتفخ الأوداج وكأنه لتوه قد ربح صفقة، يمضغ ويتملظ ويضحك من أعماق صدره وأحيانا دون أن يريد، وحنونة إلى جواره كالحمامة المسوقة الوديعة، تتجاذبها الأيدي وتدفعها، وتبتسم في شحوب وعيناها هائمتان تبحثان عن شيء بين نجوم السماء وكأنها العدرة فقد منها مسيحها، والعذراء راضخة، صابرة، وحيدة، تفتش السماء بعينيها بحثا عن الخلاص، من يدري ربما كانت تفتش عني وأنا قابع فوق السطح أتألم وأندم وأرقب، والكل يردد: كير يا ليسون، كير يا ليسون.
البراءة1
ابتسامة الجنرال والزورق والدعوة. الابتسامة غير بعيدة على مرمى البصر، والدعوة قائمة ومستمرة ومتجددة، كرياح خافتة دائمة الهبوب. الزورق تتلاعب به المياه، تعلو به موجة، تنخفض به موجة، بإغراء كبير يتلاعب، الابتسامة غير واسعة، وكأنما بالإرادة محددة الحجم، مضبوط ارتفاع شفتها العليا. مقاس تأثيرها بدقة زائدة. الجنرال سمين أكثر مما يبدو في صوره بالصحف، واقف يتمشى، راض عن الدنيا تماما. صلعته الأمامية تلمع بحبيبات عرق تحت ضوء الشمس. الشمس حارة لكنها غير لاسعة ، في الحقيقة مبتسمة . تلف الجو كله بروح الإغراء والدعوة. عصا الجنرال تحت إبطه ولكن ثيابه مدنية، وقميصه صيفي بنصف كم. البقعة السوداء التي تحجب عينه من فرط الرضا المبتسم والوجه المكتنز قد اختفت أو كادت. في الحقيقة لا ألحظها. لا أرى أظافر، أو رءوس حراب أو خناجر غدر. الجمهور على المرسى الخشبي القديم، متدلي الرءوس من فوق الحاجز، يتطلع ساكتا سكوت الدهشة، سكوت حب الاستطلاع، سكوت يوم الدين، ولكنه سكوت عظيم. الجنرال لأمر ما، لخاطر ما، ضحكة فقط فتحت فمه، أسنانه تبدو قديمة منفرجة، متسخة قليلا، ولكنها بلا أنياب، بلا أنياب.
ابتسامة الجنرال والزورق والدعوة، وعبرت. كيف؟ لا أعرف. على ماء كالحرير، أو حرير من الماء، عبرت، بالنزوة، بالتلقائية بالرغبة، عبرت. هببت. كما تهب النسمة في الاتجاه المضاد، هببت. أصبحت هناك. اهتزت أهداب العين الواحدة في ترحاب وقور. الابتسامة أضيف إليها طعم الاكتفاء. عصا الضباط العظام تراخت تحت إبط لم يعد مشدود العضلات. لم تمتد يده تصافحني. في وجهه تعبير من لا يريد إحراجي، من يعرف أني لن أصافحه. أنا فقط أريد أن أرى، مجرد أن أرى وأتفرج عن كثب أشاهد، والرؤية ليس لها دنس. نظيف أنا مثل «بفتة المحلة» البيضاء. كيف أصافح وأيديهم ملأى بالحيات والثعابين والعقارب؟ أنا متأكد أنني لو مددت يدي، وصافحت، لالتصقت باليد التصاق الأبد، ولا أعود أستطيع الانفصال. للفرجة جئت، وعلى الضفة الأخرى كنت أتفرج. والآن، عن قرب أفعل. فماذا يضير؟ ماذا يضير؟
أتجول، وفوق الشاطئ الرملي أقدامي تتحرك، خفيف الوزن كأني هبطت فوق القمر، هبطت فوق الوجه الآخر للقمر. الشمس تماما غير مباشرة. نورها يأتي، ضعيفا واهنا، كنور الغسق، من كل اتجاه يأتي، وإلى كل اتجاه يمضي، فلا يبقى إلا أثر الغسق.
كل شيء على الشاطئ هنا. المدن صغيرها وكبيرها هنا. البلاجات، المواخير، وحتى مصانع الأسلحة السرية هنا. لا أحتاج إلا لخطوة واحدة، فيتغير الزمن، ويتغير المكان. الجنرال أشعر به من بعيد يراقبني. كان من واجبه مصاحبتي. ولكنه تأدبا أراد لي أن أكون بمطلق حريتي. وأن أفعل ما يحلو لي. لا تتأثر إرادتي حتى بمجرد قربه أو وجوده. ولكن عيني الخلفية تحس به يحرك رأسه أنى أتحرك. ابتسامته لا تتغير، أم غير مكترث بالمرة. عصاه تحت إبطه، رأسها كالبوصلة يتحرك، يتعقبني، يحرك الأشياء أمامي، الزمان والمكان والمشهد. رأس العصا ليس مندمجا في غلظة أو وضوح إنما هو، كوجه الجنرال، ينسكب انسكابا متسقا مع بقية الجسم.
من الغمام الغسقي برز وجه سيدة. أمامي منحنية قليلا وقفت. جيدا لم أتبين الملامح. هل كان لها رأس حقا؟! إنها بالتأكيد سيدة. تكلمت عاما، ربما عامين، ولكني لا أريد أن أسمع، أخرجت من حقيبة يدها، التي تشبه حقائب الدبلوماسيين، أصبع روج. لفت قاعدته، فانبثق من فتحته بدلا من الروج ماركات ألمانية حقيقية. آلاف الأوراق. كل ورقة بألف مارك. لفته مرة أخرى انبثقت دولارات، ليرات، دينارات، ورقات بعشرات الجنيهات. أشحت. أغلقت الأصبع. قدمته بلطف زائد. أشحت. الجهد عجيب. ولكني أشحت. تفرجت وأشحت. بعيني الخلفية أحسست بأثر شعاعي كومضة البرق. ومن عصا الجنرال صدر. اختفت ومجرد خطوة أخرى، وجدتها تنتظرني. ليست فقط بملامح أنثوية واضحة، ولكنها بالملامح الأنثوية التي أريدها. الوجه طويل ينتهي بذقن يتوسطها طابع الحسن، عميقا كالسرة. الشعر طويل ومتهدل ومفروق وكأنما منذ أن نما. من الوسط يتهدل، ويغطي الأذنين، ويغمر الأكتاف والصدر. الشفتان قطعا لشابة في السابعة عشرة. شفاه جربت لا بد القبل، ولكنها لم تمتهن بعد، بأغلى القبل. العيون واسعة، ومليئة بالغريزة المشعة، والرموش طويلة تكاد تبين كل رمش منها نافر وحده كسلك الشمسية. رموش برية، بركانية، كأنما فجرتها بغزارة طبيعية أم بدائية. قبل أن تكلمني سمعتها، كالسائح المغامر قررت أن أسمعها، وأيضا أصافحها. أعرف تماما أن يدي إذا لامست يدها، فمحال أن أستردها.
كالسائح رحت أسمع. وكالرجل الذي بدأ يدمدم فيه البرق رحت أرى. آذاني بدأت تنجذب بقوة. والبركان في نفسي بدأت دمدمته تقل، وتهدد بأن تهدأ. ثاقب كلامها. عقلها يبهرني، يبلغني يغرقني في فيض من رؤى الحياة. أتأملها فأشعر كأني ما عشت الدنيا أو مارستها . مدمر منطقها. مخي أراه رأي العين نسيج عنكبوت تعبره آلاف من ذرات الكلمات الذكيات، وعيي يزداد إلى درجة جاوزت حد الخطر. كنت واثقا أني في اللحظة الفاصلة أستطيع أن أكون السيد والغالب. والمهدم بضربة كل ما شيدته في عقلي من أوهام. ولكن رعبي أنها أصبحت أصلب من الحقائق، وأدرك أني حالا، وبعد ثانية، ومهما هويت، فلن أهدم شيئا.
وفجأة، من الأعماق البعيدة، انتفض صوت النذير، وخطوت غضبا خطوت، مقررا بلا رجعة أن أعود. لقد جئت أتفرج. فجأة أيضا ظهر الجنرال. أمامي وقف. الابتسامة هذه المرة ابتسامة اعتذار واضح. مد يده. بالأدق، حرك يده حركة تصلح أن تكون مشروع مصافحة. لا يا جنرال حتى أنت لا أصافحك، بذكاء شديد أدرك، بذكاء أشد تحولت همة اليد إلى حركة لبقة داعية أن أتقدم. رحت أجمع نفسي، وألتقط أنفاسي، وأرفع القدم وأبدأ أتحرك.
طابور طويل، قادم من بعيد، من أبعد، وكأنما يبدأ أوله عند الأمس، وقبل الأمس، ومئات السنين. طابور عليه مسحة الحزن الذليل. بنات وسيدات، مسنات وصبايا في الثالثة عشرة، بيض وحمر، وسمر وصفر، شاحبات. أمامي تتردد الواحدة، بانكسار تنتظر. بانكسار ترفع الرأس. بأهداب منكسرة تنتظر الريا. بعيون فيها الحزن الرقيق تتمنى. الأسى أنثوي ويضفي على المرأة أنوثة. وليس أكثر أنوثة من الحزن إلا الصبايا الحزانى. الأسى لا يستثير الشفقة. إنه يستثير الفحولة. اختر ما تشاء. أمامك المائدة حافلة. أمامك. خبرة المدربات أمامك. خجل ربات البيوت أمامك. الأرامل الفتيات أمامك. الفقيرات الجميلات أمامك. يكفي أن تلمس الواحدة فتذوب أمامك. تغوص في مياهها الأنثوية. وتسبح فيها، وتعبث كيف تشاء، وأنى تشاء، يا للغلالات السوداء الرقيقة، حتى الرخيصة منها، وهي تنزاح وتتمزق عن اللحم الأبيض! اللحم الشهي الشاحب الأبيض. يا للوجه المتكسر أسى وهو يموء نشوة وإحساسا بالرجل. يا للدوائر الثديية البنية ذات السيقان الوسيطة المبتورة، وهي تثور وتتمرد على تهدلها الحزين. يا لعواء يأتي من شعر تحت الإبط، ذي العرق اللؤلؤي المنسال الخاص، كل نقطة منثالة منه تحمل كل رائحة الأنثى وغريزتها. يا للحزن حين يستحيل بتأثيرك تهتكا وفجرا، وأمامك الطابور. اختر ما تشاء، بأصبعك أشر، مجرد أن تشير. بإرادتك جرب، مجرد أن تختار. برغبتك، حتى بمجرد انبثاق الرغبة في أعماقك الباطنة، جرب. والجنرال هناك، لا أعرف له مكانا على وجه التحديد، وكأنما هو يختار دائما أن يكون حيث لا أراه. هناك هو بالتأكيد، بنظراته يطبطب على كتفي مشجعا داعيا مباركا، حتى لو اخترت ابنة العاشرة سيبارك الاختيار. اللمس، مجرد اللمس أصبح مغريا إلى حد مستحيل المقاومة. ولكني خائف خوف الموت أو المس. أعرف ومتأكد أنه بمجرد اللمسة سيصبح الطابور كله لي، والطابور طويل طويل، والنساء كثيرات، متباينات، حتى بكل أساهن الجنسي الخاص. أصابعي تأكلني. الرجل في يعوي وأنا كالصخر الثابت أتفرج. والفرجة ليست دنسا، وقلبي نظيف كبفتة «المحلة» البيضاء. الرغبة في صدري مكممة الأفواه، مكتفة الأرجل والسيقان. مخنوقة تماما لا تملك أن تعبر عن نفسها أبدا. أخاف حتى مجرد أن أعبر عن نفسي؛ فبمجرد التعبير سأبدأ أنهار. الطابور يختلط. الألوان تفرز الألوان. النسوة الكثيرات يستحلن إلى غابة. الألوان زاهية زاعفة، كبالونات الأعياد تنهمر. الثوب يختصر إلى الميني جيب والميكرو جيب واللاجيب، السيقان أصبحت مصنوعة ومضبوطة على أدق مقاييس الجمال. الساق منها أنثى كاملة. مصنوعات فليكن. وليكن الإنتاج «ماس برودكشن». الباروكات أجمل من الشعر الأصيل ألف مرة ومرة. العيون الصناعية أحلى وأروع من الطبيعية مليون مرة. وحسبما وكيفما تريد. يابانية ضيقة، وصينية معوجة، وأميركية واسعة، وعربية سوداء، وإنكليزية زرقاء، وخضراء وبنفسجية. المصنوعات يرقصن. بنطلوناتهن محزقة. البلوجنز يفتك بالنظر، تقشعر له العين، وتنتصب له الرموش قبل أن يقشعر الجسد. الرقصة أمامي تحدث، الوسط يتلوى، بكل التواءة وسط تقول خذني. السيقان تتشنج ممدودة تجأر، مكنونة تستجير. الأكتاف تهتز، تضيق، تتسع، تنادي، تقبل، تدبر كي تقبل أكثر. الشفة السفلى تتدلى، تسترخي تنقبض. الفم يضيق ضيقا داعرا مجنونا. أنا يا عم أتفرج. أموت رغبة، تقتلني الرغبة، ولكني لن أفعل إلا أن أتفرج. لقد جئت فقط كي أرى وأتفرج. يا جنرال أعرف أنك خلفي وأنك تراقبني وأن برأس عصاك إشعاعا، يخضع الأشياء لكل ما أتمنى وأرغب، ولكني سأظل أتفرج.
بل لم يعد في طاقتي البشرية، أن أبقى، وأن أتفرج.
الزورق وقهري للابتسامة والدعوة على وجه الجنرال تودعني، مشفقة لغبائي، ساخرة. هزة الرأس أسفا، بعيوني الخلفية أراها مودعة. الزورق يتحرك. أحس الآن بحركته، وبالزمن بدأت أشعر. أنا ألهث، مستريح الضمير ألهث كمن نجح في امتحان شديد القسوة. ومستريح الضمير. لم ألمس. لم أتدنس. طول الوقت أتفرج. بقيت نظيفا كبفتة «المحلة» البيضاء، كضمائر الناس الكثيرين المتزاحمين، على شاطئ، فوق المرسى، أتفرج. أعناق مدلاة فوق الحاجز وسكون. سكون حب الاستطلاع، سكون الفرحة، سكون يوم الدين، ولكن إلى نفس السكون العظيم أعود.
ولكن شيئا جديدا، لم أتوقعه أبدا، لمحته، هناك، وغير بعيد عن مكان المتزاحمين فوق المرسى القديم، لمحته. ابني، حافي القدمين في جلباب النوم، واقفا، شعره مشعث، ملامحه فيها جمود المستيقظ لتوه من غفوة، وكان ناحيتي ينظر. إلي ينظر مرة وإلى المتفرجين المدلاة أعناقهم مرة، شاحب الوجه، رفيعا، نحيف الساعد، ولكن في ثبات ينظر. دهشت، جعلتني الدهشة الأولى أحبه أكثر. إنه ابني، دمي أنا ولحمي، قطعة مني قد انفصلت، وأصبحت كائنا مستقلا فاتصلت بي أكثر، كائنا له وجهه الخاص، ورأسه الخاص، وساعده النحيل الخاص.
وصل الزورق، يهدر. لامس الخشب القديم ولكني لم أغادره. النظرة الكامنة في عيني ولدي ثبتتني في مكاني. لا ذرة بنوة واحدة ألحظها في النظرة. ماذا حدث؟ تحرك ساعده. امتدت يده إلى فتحة الجلباب. خرجت اليد قابضة على شيء معدني أسود. كان مسدسا. حسبته لعبة أطفال. ولكنه كان مسدسا رجاليا كبيرا. ماسورته بطول الساعد الناحل. مسدس حقيقي له فوهة. والفوهة تتحرك، لتصبح دائرتها السوداء موجهة إلى صدري مباشرة. بالضبط إلى مكان القلب من الصدر. تعلقت نظرتي مستغيثة بكل ما لي فيه. لم تجب استغاثتي بادرة. الوجه قاض، والنظرة جلاد، والفم يتمتم بالحكم. لا، أنا لم ألمس يا بني شيئا. يا مجنون، كنت مثل هؤلاء جميعا أتفرج. ارجع، لا تكن مجنونا. ما الجريمة أن أقف وأتفرج؟ قلبي نظيف كبفتة المحلة البيضاء، كقلوب هؤلاء الناس، ولم أفعل إلا التفرج. ارجع، أرجوك، أستحلفك. اعقل، فكر. ما الجريمة يا أحمق أن أتفرج؟
التمتمة تكف. الشفاه تنطبق في إصرار. الدوي، ارتعاشة اليد، الرصاصة في كتفي، الدمعة ألمحها تترقرق في عينه. الرصاصة الثانية كالكتلة تدك صدري، دويها لا أزل أسمعه. الثالثة لا أعود أسمعها.
لحظة قمر
فجأة، رأيت القمر.
وليست هناك خدعة ما في التعبير؛ فصحيح أن الإنسان أبدا لا يرى القمر فجأة، فالقمر لا يظهر فجأة، والشمس لا تشرق فجأة؛ إذ المفاجأة دائما في العمل غير المنتظر، وغياب القمر وشروق الشمس أعمال لا مفاجأة فيها ولا جديد. ولكنك بالتأكيد ستحس بصدمتي وأنا أرى القمر فجأة في شريحة من شرائح القاهرة، شريحة تسمح لك برؤية السماء، رأيت القمر عجيبا جدا.
الشريحة السماوية التي تبدى منها كانت مسافة بين عمارتين عاليتين من عمائر القاهرة، عاليتين إلى درجة تكاد تحجب عنك رؤية السماء كلها. ولولا المسافة الكائنة بينهما ما سمحت لهذه الفرجة السماوية أن تظهر. وقد كان حريا بظهورها ألا يثير أدنى دهشة أو ابتئاس لولا أن تلك الشريحة السماوية كانت تحوي، في هذا الوقت بالذات القمر، القمر في محاقه الأخير، القمر حين يبدو الجزء المضيء منه مخنوقا بعض الشيء. من لون البدر يتناول تدريجيا فاقدا لمعة فضيته، ثم بياضه مكتسبا بعض الصفرة، بعض العتمة، حين يكاد نوره يصبح وكأنه نور قادم من عمود نور البلدية، أو هو بالضبط كما بدا لي من خلال فرجة السماء هذه القائمة بين عمارتين، شققهما العليا مفجرة الأضواء والضجيج، بدا لي وكأنه النور القادم من شقة ثالثة مفروشة ومؤجرة للسياح ومن الباطن، حتى لو كان هذا الباطن على تلك الدرجة الشاهقة من العلو، فالمهم أن نور القمر المخنوق اختلط بأنوار الكهرباء الباذلة جهدها كي تلعلع وتبرق ومع ذلك فهي بالكاد تصل إلى مستوى نور القمر المخنوق هذا.
فجأة، رأيت القمر.
ويبدو أيضا أن المفاجأة كانت كاملة وكان من المستغرب تماما في ظروف القاهرة تلك، ظروف الخروج من المعركة والاستعداد الكامل المطلق لأي معركة مقبلة ، أن يكون هناك قمر.
ربما نحن نسيناه تماما. نسينا الكون الأكبر المحيط بنا، ضعنا تماما في اختناقاتنا اليومية الصغيرة المستمرة المتكثرة التي نغرق فيها وتغرقنا، ومع هذا فمفروض ونحن غرقى هكذا أن نفكر في إنقاذ أنفسنا؛ بل ونقوم بهذا الإنقاذ فعلا، ويخيل لنا أن كل شيء قد انتهى إلى لا شيء مرة، ومرة أخرى أدهى يخيل إلينا كما لو كان أي شيء قد استحال إلى كل شيء. وما بين اللاشيء وكل شيء رحنا نرقص، رقصا لا ضابط له ولا نغم، نحن فيه على وجه الدقة كرة «بنج بونج» مضروبة مضروبة، لكي تقتحم أرض الخصم، لكي تدافع مضروبة، من اليمين التي نزاولها بمنتهى عدم الدهشة وبمنتهى الجدية والخطورة، رقصة التفتت والتحلل إلى اللاشيئية لتصبح الكل شيئية. أنستنا هذه الرقصة المحمومة، ليس فقط أننا نرقص أو أننا أحياء، ولكن يبدو وكأنها أنستنا أيضا أننا جزء من كون هائل الضخامة كبير، عوالم أخرى، شموس وأفلاك ومجرات، حركة تاريخ ضاربة إلى أسحق بعد من الماضي وواضح أيضا إلى أسحق بعد في المستقبل.
أجل، نسينا هذا كله. كل مراكز عقولنا محملة فوق طاقتها بأكوام من الأرقام والحسابات والديون والمطالب والاحتمالات وخراب البيوتات، المركز الواحد أمامه طابور أفكار برمته ولا طابور الجمعية.
نسينا القمر.
وفجأة، رأيت القمر.
مخنوقا لا يهم، محمر الضوء كالحه لا يهم، شقة مفروشة بتليفون وحمامين وأنوار والعة مولعة ومجهزة إلى حد الصاجات لإحياء ليالي ألف ليلة بعشرات من الشهرزادات المنتظرات فقط تليفون، وإذا الكل على واحدة ونص انضبط، مع كل واحد، يتخلخل تماما ويتفكك مع كل نص في ومضة يعود إلى الانضباط. شقة مفروشة باهرة الأضواء بين عمارتين لزوم السادة السياح، ما عليك فقط إلا أن تشير، مجرد تشير، أو تفكر، مجرد تفكر، وإذا بجميع ما تحلم به يتحقق حتى لو الشقة في القمر، ولو القمر بين عمارتين تتلألأ شققهما بأنوار.
فجأة، رأيت القمر.
إذن فأنت القمر. تراك أين كنت أيها العربيد؟ ماذا ضيعك منا أو بالأصح ماذا ضيعنا منك؟ أخيرا هللت ، وظهرت، ورأيناك؟!
صحيح لم تكن مفاجأة، ولكنها كانت في حد ذاتها حدثا.
لا أعرف ماذا حدث لي بالضبط حين رأيت ذلك المخنوق بالوهج القمري، ولكن الشيء المؤكد هو أنني أحسست بارتياح طاغ.
القيامة إذن لم تكن قد قامت.
والطريق الذي قطعناه طويل، هذا صحيح.
متعبين، مثخنين بالجراح والأنواء، نحن.
ولكن ...
ها هو القمر.
ها هو وجهه يذكرك بإنسانيتك، بأنك أنت مهما كنت، ومهما كانت أوضاعك فأنت هو الإنسان، أنت العظيم وسط هذا الكون الهائل الفراغ والظلام.
ذلك أن هذا النظام نفسه يؤكد أنك سيد هذا الكون، أنك الوحيد بين مكوناته القادر أن تتحرك بإرادتك المستقلة وبحريتك في أي اتجاه تختاره، إنك السيد، وكل ما تفعله عظمة الكون كلما عن لها أن تؤكد نفسها فإنها في نفس الوقت تؤكد عظمتك، أنت عظمة السيد.
فجأة، رأيت القمر.
لا أعرف لماذا كانت بعض الديانات القبلية في أمريكا الجنوبية وأفريقيا تخصص أياما محددة من العام تجتمع فيها القبيلة كلها ومن كافة الأنحاء، في مكان محدد عند هضبة جبلية، هناك حيث يعسكر أهل القبيلة، ويقضون الوقت في تأمل صامت للشمس وهي تشرق وتميل ثم تغيب، والقمر وهو يعتلي قبة السماء ويتغير شكله وطبيعة نوره لا أعرف، ولكن الدارسين لهذه العبادات والقبائل يؤكدون على أن الغرض من هذا كان عمل نوع من الاتصال بين الإنسان والكون، بحيث يبقى للإنسان ذلك الاتصال الكوني الروحي الذي يزوده بزاد يكفيه حتى حلول العام القادم.
لا أحد يعرف إذن ماذا يعنيه هذا الاتصال بين الإنسان والكون، أو بالضبط ماذا يحدث للنفس البشرية إذا أجبرت على الابتعاد عن الظواهر الكونية أو إذا عاشت واختلطت بتلك الظواهر. لا أحد بالضبط يعرف ماذا يحدث للإنسان ولكن الذي لا شك فيه أن الإنسان «الكوني» أقوى بكثير من الإنسان من بلا بعد كوني، فالإنسان ذو البعد الكوني إنسان أقرب إلى حقيقته الإنسانية وطبعه البشري، أقرب إلى فطرته وأصالته، أقرب إلى تفرده وتسيده من ذلك الذي غشي عليه فلم يعد يرى أمسه من غده، أو ليله من نهاره.
فجأة، رأيت القمر.
رفرفت في صدري أجنحة عصفور زقزق في قلبي كالزغرودة وهفهف بجناحيه مرحبا، وكأن الأمر عيد يهش له.
وبدا كما لو كنت أستعيد حياتي كلها في شريط سريع أمام القمر أو بالضبط أمام لحظة القمر.
لا أعرف، ولكن، لأمر ما، كل شيء يأخذ حجمه الطبيعي، بل بدأت أنا نفسي آخذ عند نفسي حجمها الطبيعي، أو ذلك الذي أبدو فيه أكبر من كل مشاكلي. تلك الصورة التقليدية التي يبدو فيها الإنسان، ومهما كان التحدي القابع أمامه، منتصرا، أو على وجهه علامات الانتصار الأكيد.
فجأة، رأيت القمر.
في فجوة سماوية بين عمارتين، شقة مفروشة، كون هائل فارغ ومظلم ومنظم، عصفور يزقزق في قلبي طربا.
لحظة ...
وفجأة أيضا، ضاع القمر.
سدت السماء أدوار العمارات العالية.
أصبح لا معنى أن تنظر للسماء؛ إذ لا سماء هناك.
عليك، لكي تخطو، فقط لكي تخطو، أن تنظر إلى الأرض.
وإلى الأرض تظل تنظر، حتى لا تسقط، تنظر حتى لا تسقط، فما أكثر الحفر في شوارعنا هذه الأيام.
فجأة، رأيت القمر.
ولحظة واحدة عشتها معه.
وفجأة، ضاع القمر بين عمارتين، وضاع بصري بحثا عن موطن قدم.
ولكن قلبي لا يزال يرفرف بالسعادة؛ إذ يكفي أني بعيني رأيت القمر الذي لا أراه.
حوار خاص
لا بد أنه الإحساس الكامل بالسيادة. السيارة موتور قوي يئن أزيز الاتصال واللاخلل. عجلة القيادة في يدي كالريشة. بحركة أصبع أقود. بحركة قدم أندفع. أنا السيد، على الأقل سيد الكون كله إلا موتور حركة. الكهرباء موتور، الذرة موتور، البنزين موتور ...
أنا الإرادة. أنا العاقل الكامل وسط أكوام وأحراش من اللاعقل واللاوعي واللاإرادة ...
الطريق وسط الصحراء قاحل وأسود ولامع. الوحشة تزيدني إحساسا بالتفرد. كأني الكامل وحدي في هذه الدنيا. والدنيا طريق أسود طويل ليس فيه سوى الأفق. بعد كل أفق أفق. الدنيا أنا وأنا الدنيا. سعيد. منذ بضعة أشهر نجوت من موت محقق. قال لي الطبيب: حظك نار. لا بد أنك تملك في جسدك قدرات غير عادية. ما أحلى الثقة بالجسد! إنها كالثقة في عربة خارجة لتوها من «الأجنس». القوة، نعبدها حتى في أجسامنا، بالذات في أجسامنا. زهو أني انتصرت. كان الموت فوق القلب تماما، لكن القلب طرد الموت؛ بل لمحت الحسد في وجه الطبيب وهو يقول: أتعرف أن قلبك بعد المرض أقوى وأكثر صحة مما كان قبل الأزمة؟! هذا النوع من الأزمات أعرفه. أخرج من الأزمة لأدخل في أخرى، لأعود أخرج منها أقوى. إرادتي شحذتها الأزمات، تعال إذن يا إلهي العظيم نتحادث. ما أروع الحديث معك في هذا المكان القحل، في طريق صحراوي لا ناقة فيه ولا نبتة. إنها قصة طويلة طويلة لي معك. واسمح لي ألا أخاطبك بألقاب التعظيم؛ فقد استعملها الناس كثيرا في مخاطبة الطغاة والحكام حتى أصبحت غير جديرة بك. تلك الأزمة الخاطفة التي مرت بي لم أرك؛ فأنت لا ترى لست بالخارج. أنت هنا فينا أقرب إلينا من حبل الوريد.
أنا الذات الصغرى بنت الذات الكبرى. أنا المخلوق وأنت الخالق والبرزخ والكائن بيننا ما لا نهاية في الصغر وما لا نهاية في الكبر؛ لأنه برزخ بابك وبرزخ قدرتي. أنا يا إلهي لا أحب أن أعبدك عبادة هؤلاء الذين يتذللون لك؛ فلقد خلقتنا في أعظم تكوين وأن ننذل حتى لك معناه أننا نحد من قدرتك؛ فمخلوقك لا بد أن يتيه ولا يحني الهامة، وإذا كنا نسجد لك في الصلاة فإنما لنرتفع بقيمنا وابتهالاتنا إلى مكانك. وقد لا يكون هذا رأي الجميع ولكني أعبدك عبادتي الخاصة بطريقتي أنا. ولست المسئول عن هذا يا إلهي؛ فأنت الذي خلقتني هكذا، متمردا لا يقبل الضيم، رافضا لا يقبل المساوية، طامحا للكمال في كل شيء حتى يصبح كل شيء قريبا من كمالك. أنا هكذا لم أخلق نفسي ولكنك من ملايين الملايين من الذرات والجزئيات والوراثات والتأثيرات والخواص اخترتني لأكون هكذا وتكون لي شخصيتي تلك. •••
كانت العربة تنطلق بسرعة مائة وعشرين كيلومترا، وكان الصمت - إلا من أزيز الهواء والموتور - كاملا. صمت الصحراء الأصفر. صمت الكون حين تتوقف حركة الخارج وكأنه مات . وخفت، أحسست أن المضي في أفكار كهذه سيخرجني بعد حين عن إطار الجاذبية وأنطلق في الفضاء حتى أهلك تماما في قلب الشمس. ولكنك هكذا خلقتني. حتى لو عرفت أني هالك في قلب الشمس لن أتوقف. لا أكتمك - إلهي - أني ظللت وأنا في المستشفى أتفكر في مسألة الله والإنسان والعمر. أنا أعرف علميا أن الذي يحدد العمر هو الطاقة الحيوية المنبثة في القلب وفي كل أنحاء الجسد، فأنا مررت بالأزمة إذن لأن الطاقة الحيوية عندي كانت الأقوى. ولكن المشكلة أن هذه الطاقة يعوقها عامل صغير، مثل قشرة الموز يتزحلق فوقها قدم العملاق فينطرح أرضا، فلماذا خفت رحلة الأزمة من قشرة الموز؟ الصدفة! جائز. ولكن الصدف لا تتكرر إلا كل عشرات الملايين من المرات. وثلاث مرات تكررت الأزمة، واحدة في الرقبة، وواحدة في الوريد، وواحدة في القلب. أنا إذن حالة في كل ألف مليون مرة. هكذا العلم يقول. علمنا القاصر الآن عن إيجاد علاج لأزمة البرد. ولكنه حد علمي وحد تفكيري. أما ما هو خارج هذا فلا بد أن الله يحبني وقد اختارني لأعيش حتى ولو كان الاختيار مرة من ألف مليون مرة. أنت إذن تحبني أيها الإله، تحبني لأني هكذا. ربما أيضا لأني أقف وقفة المحب أتساءل دون أن يرتجف قلبي من الهلع القاصر ودون أن تصطك أسناني وإنما بثقة المحب للمحبوب وبحريته أسأل. وبنفس هذه الثقة أقود السيارة، منطلقا بهذه السرعة، سيدا، سعيدا، حرا، أزاول الإنسان الحر الذي في كلمة، أزاوله حتى في مواجهة الخالق يا ذا الخالق. أيها الضارب بعيدا في أغوار الكون حتى ينتهي النور، وأبدا لا ينتهي النور لأنك لا تنتهي. الضارب بعيدا في أغوار الماضي وآفاق المستقبل حتى ينتهي الزمن، وأبدا لا ينتهي الزمن لأنك أبدا لا تنتهي، لأنك أبدا لا تبدأ، لأنك أبدا لا تغيب أبدا لا تحضر، أبدا لا تعرف لأنك العارف، ولا تنسى لأنك الذاكرة، ولا تخلق لأن كل شيء من خلقك لأنك أنت كل شيء، أنت شعلة في كل شيء، وميض التغيير المستمر إلى الأفضل والأفضل والأفضل، تجسد الطاقة مادة، والمادة حياة، والحياة عقلا والعقل إنسانا أسمى وأسمى وأسمى، إله أصغر.
ومع هذا فإني أسأل: أهذا هو مجرد شعور الفالت من خطر، مجرد تجسيد لهواجس تربينا في ظلالها وحواديت سردت علينا ونحن صغار وعلماء عجزوا عن التفسير فقالوا: الله.
أأنت حقا هناك يا إلهي؟ •••
وصمتت أفكاري عن أن تمضي. دق قلبي كأني دخلت بالقدم في حرم مقدس. تخطيت عتبة الممكن والمباح. حملتني السيارة فوق الطريق، وفوق الصحراء، وقائدها أنا اخترقت عنان السماء أتلفت حولي أتساءل عن «الحق». ثانية واحدة مضت لا أكثر، أقل من ثانية ربما، وحدة الزمن الممكن أن يحسها ويدركها الإنسان وبدأت أحس التغيير. أصبحت عجلة القيادة في يدي أسهل وأخف كثيرا عما كانت، لكأنها تتحرك من تلقاء نفسها، وكأن سيطرتي الروحانية أصبحت هي التي تخضع لها العجلة دون حاجة إلى توجيه من يدي.
ثم مروعا اكتشفت أن المسألة ليست شدة سيطرة من إرادتي على عجلة القيادة، إنما الحقيقة الباردة المجردة أن عجلة القيادة نفسها انفلتت من سيطرتي عليها. وبخبرني مع العربات وحوادثها أدركت السبب، أن إطار العجلة الخلفية قد انفجر ببطء لم أسمعه وأن العربة نتيجة لهذا ارتفعت عجلاتها الأمامية وأصبحت غير خاضعة مطلقا لتوجيه «الدركسيون». هي التي تتوجه كيفما يحلو لها، وفي أي اتجاه تشاء. وأنت هنا لا تستطيع أن «تفرمل» لأن مجرد لمس الفرامل يخل بتوازن العربة مع هذه السرعة العالية ويقلبها فورا.
صفر الخاطر في رأسي:
ماذا لو كان بعنف ورعب واختلال مضى قلبي يدق؟ نظرة إلى أسرتي التي تحتل العربة معي زادتني رعبا، ولداي من الخلف وزوجتي بجواري وابنتي الصغيرة وبراءة الدنيا في عينيها ستموت بعد ثوان؛ فكل شيء وكل خطر قد تكون بسرعة. الطريق الذي كان خاويا وامتلأ فجأة بعربات جيش لتعليم السواقة قادمة في الاتجاه المضاد، وأي خلل في اتجاه العجل الأمامي للعربة سيجعلنا نرطم الارتطامة القاتلة المهلكة في واحدة من العربات الكثيرة. أكثر من ثلاثين عربة، واحدة وراء الأخرى.
تحول السيد في إلى أكثر كائنات الدنيا تواضعا وذعرا. تحت رحمة من أنا الآن؟ عجلات الكاوتش تسير كيفما تشاء، أي بروز في الأسفلت أو حجر، بل حتى لو لم يكن هناك شيء بالمرة فاتجاه الريح، ميل جانب أكثر من جانب، عوامل ميكانيكية لا تعد ولا تحصى، ألف مليون عامل وعامل قد يؤدي أي منها لأن تدفع عربتي تجاه أي عربة قادمة أو تجاه الصحراء وتتم الكارثة.
بينما الأولاد يضحكون وزوجتي مع الصغيرة تمرح والقيامة ستقوم بعد ومضة، وجدت نفسي أهتف: يا ستار يا رب، يا ستار يا رب.
أي قوة أخرى في هذا الكون الواسع كان ممكنا أن تنقذني؟! والكارثة ليست في، الكارثة في هؤلاء الأبرياء، ضحية اللعبة، الضاحكون، السعداء سعادة من يعبرون عن السعادة. حتى ردا على هتافي: يا ستار يا رب؛ ضحكوا وأغرقوا في الضحك فلم يكن أمامهم ما يستحق أن أناديه. كل شيء في نظرهم كان على ما يرام والدنيا جميلة والحياة ممتدة إلى أقصى مدى.
اليأس المطلق حل، لا فائدة. لا أملك أن أصنع شيئا. المصير بيده، هو وحده القادر. العربة، الصدفة، الواحد في الألف مليون، تحت رحمته. لا أملك إلا أن أيأس وأجلس وأصرخ على زوجتي وهي تضحك أن تتشبث بالابنة وتحسبني أهزل فلا خطر أمامها هناك وتبالغ في تركها حرة تعبث. والعربات قادمة، واحدة وراء الأخرى كل منها الموت متحركا ومقبلا، والصحراء على يميني مجرد انحرافة بسيطة تدخل العجلات في بحر الرمال.
الأمل كله، أن يحدث الأمر القاهر المعجز أن تظل العربة تسير غير منحرفة يمينا أو يسارا وتظل وتبطئ حتى توقف من تلقاء نفسها، وإلى أن يحدث هذا، فالموت في كل ومضة وقت. فقدت الجاذبية الأرضية وفي طريقي أنا إلى قلب الشمس. •••
وقفت بجوار العربة. أخيرا ثبت كل شيء. قلبي هاجع وكأنه هو الآخر توقف. حلقي جاف. السكون هائل الضخامة كأنه الكون. الأزيز متصل دائم. نملة رأيتها تناضل تحمل شيئا بين ذرات الرمل القليلة فوق حافة الطريق. مروع ومذهول ورأسي ذائب في السكون، نظرت إلى السماء إلى الأرض إلى مثبت الدقة في قلبي وبالحلق الجاف سألت هامسا: أهكذا يجيب الإله!
سيف يد
حين استقر على الآن: بدأت الرعشة، ارتعاش الجسد غير مهم، الشفاه لن يستعملها، الأسنان لو حتى اصطكت سيكتم الصوت. المهم يده، أصابعه، قبضته، إنها ترتعش كما لم يحدث لها أو له في حياته، ليس ارتعاشا فقط، لكأنه الشلل الرعاش، فهو بالضبط وساعة قرر ليس في بدنه ذرة قوة. لو دفعه طفل حتى لسقط. فليكن القرار تم. فليكن تم. ما فائدته والتنفيذ هو القرار. لحظة التنفيذ هي الفيصل بين من كان ومن يريد أن يكون. قط لم يفعلها. قط لم يفكر في فعلها. وإنما عاش يرفضها، ينبذها، يشمئز منها. الآن قد أصبح تماما بجواره. الرعشة تفضي إلى ما لا نهاية. اصفر وجهه لا بد. القرار يملأ ملامحه. واضح، محدد، صارم، لم يبق له إلا التنفيذ، والرعشة تلغي كل شيء. الدهشة تأتيه من العين الأخرى، دهشة تكبرها وتجسمها عدسات النظارة. لو تراجع ضاع. فلتكن المرة الأولى، ما أكثر ما نفعل أشياء نبدؤها لأول مرة دون أن يصيبنا كل هذا الرعب. فليضع العمر كله في الذراع. ولكن الذراع ثقيل ككتلة مسلح، العمر أثقله، وعليه، رغم الرعاشة، أن يدفعه إلى أعلى، مرتفعا به إلى أقصى ما يستطيع، ليفعلها لمرة واحدة في عمره، وليضع العمر كله في الذراع.
ارتفاعه حاجب، لمحة نكوص ضاع التردد فجأة، فجأة أظلمت الأشياء، تلاشت، تمازجت وتداخلت وأصبح مع الأشياء كائنا كتلة لا يعرف أين هو منها أو أين هي منه. رعد أرعد. برق توهج. المؤكد أن اليد، قوية، مدوية، هبطت. الرعشة تحولت، حالما هوت، إلى ثقل صاعق. لأول مرة في حياته تصطدم كفه بصدغ رجل. ذلك الرجل. حتى وهو طفل لا يذكر أنه صفع أحدا أو صفعه أحد. الدوي استمر ومستمر. الارتعاش امتلأت به الآذان إلى درجة الصمم. فتح عينيه. الرجل بدا أبعد، وجهه أصفر بكثير عما يجب، أثر أصابعه على الصدغ السمين كالمرسومة بمداد أبيض، عيناه غاصتا فجأة للداخل، غاصتا أكثر بكثير مما تسمح به الملامح ، قامته الطويلة بدأت تقصر، وماضية في القصر، هوسة فرح اندلعت. عفريت جني في داخل مخه عربد، قبل أي شيء آخر كان نفس ذراعه تلقائيا وإلى أعلى بكثير قد ارتفع. قامته هي الأخرى بدت أطول، أضخم، ولا لمحة لأي ارتعاش.
بكتلة ثقة مباغتة فاجأته هو أولا أهوى. راعى أن تجيء أكثر إحكاما، أن تصل هدفها وعيونه مفتوحة تستمتع وهي ترى أين وكيف تصيب. مؤلمة تماما جاءت. مؤلمة له. فكأن أصابعه ارتطمت بكتلة من حديد. غورت أصابعه في العظم. أظافره مزقت الجلد. تلوى الألم. مكتوما صدر عنه الصوت. مكتوما أيضا صدر عن الرجل شيء، ليس كلاما، ليس استغاثة، مجرد صوت، ذعر على هيئة صوت، ذعر شخص صادر عن حنجرة أصابها نفس الذعر. امتلأ بدنه بالثقة، بلغت روحه عنان السماء. كور قبضته، ثنى ذراعه، سيكيلها له في فكه. مذعورا سبقه الرجل، من كتفه دفعه، تطوع ذراعه، جاءت اللكمة في العين تماما. أحس بظهر أصابعه طراوة كرة العين. ماذا لو كانت انفجرت. السجن معناها. فليكن، ليكن حتى الشنق. حتى الشنق هو مستعد له. سيقتله. لن تحول بينه وبين قتله قوة. مهما جاع الأولاد فسيظل حمادة على الأقل فخورا به. جرى الجبان والتف حول المكتب. يريد أن يهرب. فليهرب، وليحاول شنكلته. ولكن الرجل زاغ وفتح باب الدولاب وجعل منه ساترا اختبأ خلفه. من الدولاب سحب أيضا المسطرة الكبيرة. كالسيف شرعها. الشتائم من فمه بدأت تنهال، وكل مرة تزداد شتائمه سفالة وإيلاما. رفع القدم، تراجع للخلف، استعان بالسيد البدوي وبالقوة كلها ركل الضلفة، توالت الآهات. آهات، شتائم آهات، آهات شتائم، عويل من السباب. خذ، ركلة أخرى، أعنف أقوى أشد إيلاما. عشر سنين يا مجرم، عشر سنين أشكو لطوب الأرض وأتحمل. تكرهني وأكرهك. تمقتني ولا أطيق حتى طريقة تفصيلك لبدلك. وكلانا في حجرة واحدة. الوجه في الوجه، والكره يملأ الأعماق، وعلى الملامح العليا تطفح البسمات والمجاملات. ولا مرة تبادلنا غيرها. عشر سنين وأنا أشتمك للناس جميعا وأشكوك. وتشتمني أنت لبعض الناس للمسكين بمقابر الناس وتشكو مني. وعمري ما واجهتك بشيء أقصى من تحديقة وعيد أخرس، إذا أجبتني بمثلها، أسحب تحديقتي فورا وأعود أغلي وأبسم وأصمت. أحيانا، للكارثة، من فمي بدل الشتائم تنطلق كلمات الملق. بخبثك تعرفها وتدركها وتعلقها أمامي تريني فيها نفسي وأنا متلبس بالخضوع لك ومسح الجوخ والرياء. وترضى، وتبسم، بل وتتقمص الدور إلى حد أن تتصدق علي أنت الآخر في النهاية بكلمة نصف نفاق؛ إذ تمتدح بنصفها شيئا تعرف وأعرف ويعرف الناس جميعا أني لا أتمتع به. ناعم أنت وذكي، ودائما على حق، ودائما بالقانون تخرج على القانون، وتستطيع دائما أن تحيل ظلمك عدلا وقاعدة، وتحيل حقي وعدلي إلى خروج على العرف والقانون. حتى لو لم أخطئ، تستدرجني حتى أخطئ. فإذا بادرت بالتصحيح، أطلت لي الحبل لاستدراجي لأخطئ أكبر وأكثر. تكرهني مثلما أكرهك ولكنك أقدر على كتم الحب والكره والحقيقة، واليوم قررتها، قررت، من حمادة وليس من أبي أو خالي أتعلم، ويا جبان لن تنفعك المسطرة. أبدا لن تنفعك.
ناحيته اندفع. كالقط الآدمي قفز. هوت المسطرة بحدها الرفيع على أم رأسه. تخدر الجلد مكانها وانفلق العظم لأن السائل الذي يخترق جذور شعره لا بد هو الدم. بيسراه قبض على المسطرة. أمسكها. استمات الآخر. لواها. انكسرت. أمسك بالجزء المكسور كالخنجر وصرخ هامدا وهو يغرسها في كتفه. تمزق القميص وانبثق الدم الأحمر. حمرته فاقعة وكان دم الغضب. دم قليل ولكنه لون صدر القميص كله. مرآه الأحمر متغلغل في الأبيض أثاره. كانا قد اقتربا حتى التصقا. فليأخذها إذن. بجانب الرأس كما سمع من حمادة، صوبها. «روسية» اصطدمت بفكه. سمع بأذنه اصطكاك العظم بالعظم. أسنانه هو أطبقت على لسانه وعورته، وتملح ريقه بطعم الدم. عشر سنوات ولا عشاء يمر دون واقعة يحكيها للزوجة عنه وأمام الأولاد الصغار، حتى كبروا، وهو لا يزال يحكي، كبروا. بالعقل توصيه. لأكل العيش تنبهه، تهدئه، تدلك غضبه، تتركه يمارس عليها الشخط والزجر ويتنفس. هنا فقط يتنفس. تنفس ذليل يعرف ولكنه بدلا من انفجار المخ يفعل. حمادة السبب. أنت السبب يا حمادة . الواقعة بسيطة وكل يوم تجري. خناقة عيال. هكذا يسمونها. خناقة لا يطيق فيها ابنه ضاربا أو مضروبا. ولقد جاء هذه المرة ضاربا، وجاءت بالمضروب أمه. وكان لا بد من عقاب عاجل. وفر حمادة واختفى حتى جاء الليل وعاد ليجده ساهرا ينتظره. قبل أن يرفع عليه «الحذاء» طالبه بأن يمنحه الفرصة. هكذا العدل. ألم يعلمه أن هكذا العدل. أحرج. اترك الجزمة. استمع لمجرد الشك فقرار ضربه كان لن يتغير حتى لو الحق معه. وإيمانه الراسخ أن الضارب والمضروب حيوانان بهيمان لا يستحقان قلب الإنسان. هكذا سمع أباه يقولها مرة وسمع خاله كثيرا ما يضمنها حكمه وأمثاله: أنا أكرهه فضربته. ولماذا الكره؟ لأنه لئيم خبيث يشيع عني لدى الأولاد أنني لص. لماذا لم تشكه؟ لمن؟ لأهله؟ وهل يعاقب الأهل ابنهم من أجل أولاد الغير؟ من يعاقب الابن المخطئ إذن؟ أنا. أنت؟! أجل أنا. وكيف إن شاء الله؟ ناولته سيف يدي فلكزني فضربته بالبونية وفي نافوخه فعضني، وحاولت إمساكه فطلع يجري فشنكلته بمقص، وقع، بركت فوقه ولم أتركه إلا بعد أن قال: أنا كذاب.
مد يده إلى الحذاء وقد جاء وقت العقاب، ليست هذه طريقة لمعاملة اللئيم، ولا مواجهة من نكره.
أمال كنت عايزني أعمل إيه يا أبي؟
اشتمه مثلما شتمك.
ولكنه لا يشتمني أمامي. جبان ماذا أفعل؟!
وهل يكون الرد بسيف اليد واللكمة.
وقذفه بالحذاء. أصابه في ساقه وجعله يعرج حتى بلغ الفراش. ولكنه هو لم ينم. أبدا لم ينم. سيف اليد والمقص والبواني كانت تتماوج في سقف عيونه المغمضة وتتداخل وفجأة وبين الحين والحين يندلق في سماء العين المعصمة ماء وذلك الوجه السمين المربرب الناضج أبدا بالعرق.
أصبح بينهما المكتب مرة أخرى، نفس المكتب الذي كان دائما بينهما في الصباح هما على طرفيه ممتلئان بابتسامات الزيف وفي العمل يفصل بين المقالب التي يدبرها لمرءوسه، والعرائض والشكاوى المجهولة التي يدبرها لرئيسه. والآن هو موجود ولكنه لا يحول بينهما، بعده انطلقت صفعة يده كلها بوجهه، بأصبع واحدة فقط صفعه، فالآخر كان قد استدار وامتلكه وإلى صدغه وجه صفعة قوية مليئة متمكنة. أبرقت الدنيا في عينه وصفرت أذنه. أيكون هو الآخر كان ينتهز الفرص لينفجر. هذه «بونية» تصيب أذنه، من المؤكد خرقت الطبلة. يا ندل تأخذني على خوانة! هكذا سمعه. خذ وخذ وخذ وخذ. لم تعد علقة نوى أن يعطيها ويفض يده منه ومنها، أصبحت معركة تكاد تتعادل، الآن فقط يتأكد أن الآخر ليس جبانا بالدرجة التي كان يتصورها. ذعره الأول أصبح واضحا أنه ذعر المفاجأة ليس إلا، الآن هو يطلب العراك. وعليه عقد العزم. ما تصوره هكذا أبدا، طول عمره يراه فأرا رعديدا لا يحتمل الصمود لمجرد سباب وإن كان يبدو في قوة الأسد. ولو! حتما سيأكلها. فأر أو أسد سيخرج منها بعاهة مستديمة على الأقل. بجماع قوته لكمه. انثنى الآخر وتأوه. وتلذذ. بركبته رفعها كالطلقة شلفطت وجهه وأسالت الدم من أنفه. اعتدل. طار صوابه واعتدل. عيونه يشع منها بريق الشر والجريمة. كالثور الهائج أقبل، إلى اليمين زاغ منه. ولكن لان ذراعه أول ناله وبضربة من قدمه هوى على الأرض كالكتلة. المقص أصابني أنا يا حمادة. فلم أكن الأسرع. الركلات تنهال كالمطر، الجبان، بالحذاء. يسددها لوجهه، فقد العقل، فقد الإحساس بالضرب والألم. همه أصبح أن يغلب، لو مات حتى قد غلب أو غالب لما همه. المهم أن يخرج من الصراع غالبا، ولو ممزقا إربا يخرج، أمسك بالقدم، الضربة إلى صدره، بشدة أمسكها بيديه وبقوة عظمى ثناها. سقط الآخر يتلوى، يتأوه، اندفع يرقد وبيديه يحيط رقبته السميكة عازما أن يكتم للأبد أنفاسه. اختنق الوجه بالاحمرار وبحلاوة الروح دفع أصبعه السبابة في عينه. لنكن مجرمين أصبحنا. إما قاتل أنت أو مقتول. الرعب أمده بقوة أعظم. تخلص من الأصبع. رعب آخر جعله بانتفاض يديه بعيدا حتى ليرتطم رأسه بحامل الخزنة بل وتسقط على قدمه. تماسكا ظلا يتضاربان، حتى لاحت فرصة وأمسك لحم كتفه بأسنانه. بأنيابه، بكل ما يملك من حقد وغيظ، وجنون وفتوة أنشب فكيه في لحمه. أحس بطعم اللحم نفسه من خلال حرف البدلة، صراخ آخر مكتوم لم يعد يعادله إلا ضرباته. ضربات وحش لا يرحم، عينه يحس بها أغلقت تماما ولم يعد يرى بها، أنفه تورم وبالتأكيد تدشدش، دم الآخر سال، وبدأ يصرخ وبدأ هو الآخر يصرخ، الضرب اشتد وعنف وتشعب أهو يضرب أم يضرب، أهو المهزوم أم المنتصر، كل ما أصبح يحسه أنه متعب وأن التعب يتكاثر عليه حتى لم يعد يقوى على أخذ النفس. أصبح همه كله أن يتنفس لم يعد يتنفس. الهواء لا يدخل صدره. غير قادر أن يحرك الضلوع ليدخل الهواء. على الأرض تمدد بغير حراك، سكون، وهناك حين استطاع بطلوع الروح أن يعود يلتقط النفس، بدأ يدرك أن الآخر أيضا لا يضرب، وبنظرة لمحه مكوما أسفل ركبته، مغمض العينين، بدأ بالكاد يلهث بالنفس. كتلتان من الأنسجة المبعثرة والملابس الممزقة وبقع الدم ممددتان على الأرض في مكتب ليس به سواهما بعد ظهر ذلك اليوم.
من مكانه راح يرمق الآخر. عشر سنوات وهو بغير الحقد لا يرمقه. من مكانه راح ينظر إليه ويتأمل. إنه لأول مرة يرى قاع رأسه ويدرك أن الشعر في منطقة قمة الرأس خفيف تماما، بل يكاد يكون بلا شعر.
ووجد نفسه يتمتم: من كان يتصور هذا. بعد عامين على الأكثر سيكون الصلع قد شمل رأسه كله. مسكين.
حكاية مصرية جدا
تلك اللحظات القليلة، غريب يلتقي بغريب، وكل منهما يلعن الحظ بطريقته، ويتلاءم أو يتصارح، بطريقته أيضا.
ذلك السائق الطيب. سمين وملظلظ وأب لثلاثة طلبة في الجامعة، ويجيد رواية الحديث والنكتة.
قال: كنت سائرا قريبا من شيراتون، وفجأة في تقاطع شارعين، وجدت شحاذا مقطوع الساقين يعترض بجسده «أو بالأصح بالباقي من جسده» طريق العربة. وقفت. وفوجئت بذلك الإنسان، وبقدرة هائلة كقدرة القرود والزواحف، يقفز من حيث كان أمام العربة إلى حيث الباب المجاور لي ويفتح الأكرة وينزلق بجسده إلى جواري وهو يلهث ويقول: اطلع يا اسطى.
أطلع ازاي؟ قلت له. معقول أن أعطيك حسنة، أما أن أوصلك حسنة فهو ما لم يسمع به أحد! قال: يا اسطى أنا عايز أروح شبرا الخيمة أو شبرا المظلات، من فضلك وصلني. أنا زبون ولست شحاذا اطلع بسرعة أرجوك.
ترددت قليلا ولكن إلحاحه الشديد، ثم قبضة النقود التي أخرجها نصف إخراجة من جيبه أقنعاني أن أطلع. وطلعت. سرت على كورنيش النيل أتأمل الزبون، ملابسه مقطعة، جسده قذر، شاب لا يزال ولكن شعره منكوش بطريقة تضيف إلى عمره عشر سنين. ولعب الفأر في عبي مرة أخرى فأوقفت السيارة وقلت له: أنت إيه حكايتك بالضبط. مش ماشي إلا لما تقول لي.
قال: تشرب كوكاكولا؟
ونادى على بائع الكاكولا، ودفع له في الزجاجتين عشرة قروش بسخاء وشربناها. قال: اسمع يا سيدي، أنا شحات.
قلت في سري: هذا يبدو واضحا.
قال: وأنا أريد أن آخذ تاكسي مخصوص لأهرب من العسكري.
سألته: قصدك شرطة مكافحة التشرد.
قال: لأ، عسكري المرور.
قلت: وما علاقتك بعسكري المرور وأنت شحات؟
قال: علاقة عمل.
قلت في سري: أي عمل هذا الذي يربط بينك وبين عسكري المرور؟
قال: أيوه، علاقة عمل.
وأخبرني بالقصة، قال: من يوم أن قطعت ساقاي في حادث مترو بدأ ربنا يفتحها علي، وبدأ الناس كلما رأوني زاحفا على الأرض من تلقاء أنفسهم يعطونني، وبدأت أطلع في اليوم بخمسين ستين قرشا، وأقول نعمة. ولكني بدأت أفهم وأوعى وأعرف أنني أمتلك رأس مال. ساقاي المقطوعتان رأس مال لا بأس به أبدا لا بد أن أشغله. وهكذا بدأت أتقن انتقاء الأماكن، وأعرف طباع السكان والمارة في كل حي من أحياء القاهرة. الغريب أن الذين كانوا «يعطفون» دائما علي هم: إما الفقراء جدا أو الأغنياء جدا. أما متوسطو الحال من أمثالك فالظاهر أن الرحمة صعبة الوصول إلى قلوبهم تماما. ولكني أيضا بطول المزاولة اكتشفت أن الذين يعيشون في مصر تتيبس الرحمة في قلوبهم بعد قليل من كثرة ما يرون، أما القادمون الجدد فهم الذين لا تزال قلوبهم، وجيوبهم أيضا، عامرة بالمال والرحمة.
وهكذا كان لا بد أن أعثر أخيرا على ذلك الركن القريب من الفندق الكبير الذي ركبت معك من جواره. مكان وشغلانة لوكس. الركن إشارة. تقف العربات عند النور الأحمر، في سرعة أكون قد مسحت ركاب العربات الواقفة وسائقيها قبل أن يضيء النور الأخضر وينطلق المرور، ولكني اكتشفت أن الإشارة لا تستمر طويلا بحيث لم أكن أتمكن من تكملة مسح العربات كلها. وهكذا في يوم ذهبت إلى العسكري الواقف عند الإشارة ولم يأخذ الأمر سوى كلمتين اتفقت معه بعدهما أن يطيل من فتح النور الأحمر حتى «أمسح» العربات كلها وحين أعطيه أنا «إشارة» من رأسي أن كله تمام يفتح هو «الإشارة».
يا ابن الإيه! هكذا قلت له. وقلت لنفسي أهذا هو السبب إذن في غياب تلك الإشارة وربما غيرها من الإشارات؟
ووجدتني أسأله: وكنت تعطي العسكري؟
قال: طبعا، خمسين ستين قرشا كل يوم. - أمال أنت بتطلع بكام؟ - مش كله، اثنين تلاتة، ممكن أكثر شوية خمسة ستة في يوم المرور زحمة. - طب والنهاردة مالك هربان ليه؟ إيه اللي حصل؟ - النهاردة يوم موسم كل سنة وأنت طيب. والشغل كان على ودنه، وقلت أهرب قبل ما ييجي العسكري يشاركني فيه.
ولكن (هكذا قال الأسطى) تفكرت في الموضوع وقلت له: طب ما هو العسكري بكره ح يقفشك يا حدق.
ونظر لي بابتسامته الشابة الحدقة المصرية الساخرة وقال: لا، بكره فيه عسكري تاني باتفاق تاني. ده كان آخر يوم للعسكري ده في الحتة دي.
قال الأسطى: كنا قد وصلنا المكان، عندك يا اسطى وقفت. كان الحساب 43 قرشا. أعطاني خمسين قرشا، سبعة قروش بأكملها بقشيش وقال لي: لو تبقى كل يوم تعدي على الإشارة دي الساعة عشرة كده وتوصلني ح أديك خمسين قرش.
عن الرجل والنملة
بعيون فاغرة فاها رحنا نراقب الباب وهو بالعصبية الشديدة يفتح والكتلة البشرية تدفع من خلاله لا نتبينها إلا حين فقط تستقر في ركن الزنزانة الفارغ. حتى السباب المعتاد الذي كان لا بد يصاحب الفتح والإغلاق والتكويم، من فرط الدهشة، لم نتبينه؛ إذ قد حل الصمت لا نجرؤ على قطعه مخافة أن يجد جديد وأن يكون وراء البداية ما وراءها.
يتغامق الظلام في العادة بعد التمام. الخامسة بالضبط موعده. النزلاء صامتون لمقدمه إذ المفروض أن يحل الصمت ليتمكن حراس الليل من التغيير مع حراس النهار ويتمكن شاويش النهار من تسليم شاويش الليل، صمت يهيئ للصراخ أن يتعالى إذا حدث الخطأ وأفلت نزيل من الإحصاء وارتبك العدد. الباشاويش هو المخطئ ولكن الشتائم تنهمر فوق رأس النزلاء، وثمة جري، وصوت الكوالين الحديد يزأر وأبواب أخرى تنهمد حتى لتكاد تدك الحائط الحجري، وأخيرا، يجري الأزيز النهائي لمفصلات باب العنبر الكبير، وتخفت الأصوات مع الأقدام مبتعدة، ويحل الصمت. ويستمر، للتأكد أنهم جميعا ذهبوا، وأن النهار المتعب انتهى. وكأنما فجأة، تنفجر من الصدور الزعقات والقهقهات والشتائم مكونة مولد المغربية المعتاد.
السكوت في النهار طوال النهار أحد الأوامر المتعارف عليها الصارمة، الألسن تتيبس في الأفواه لقلة ما تتحرك، الحناجر مخشوشنة من فرط السكوت، فقط حين تذهب قوة النهار ويترك العنبر في حراسة ثلاثة حراس ليل عواجيز في الغالب، قريبي الإحالة إلى المعاش، فقط حين يطمئن الجميع إلى ذهاب الجميع يفرج كل نزيل عن لسانه ويبعث الحياة في شفتيه وفمه وصدره، ويزعق، ويشتم، بكل ما يملك من قدرة وقوة يصرخ ويشتم وكأنما ينتقم من السكوت وأوامر الشلل ويزاول الغريزة التي طال حبسها، غريزة أن يشتم ويشتم، فمن فرط ما يتلقى النزيل من شتائم طول النهار وهو عنها ساكت وبالأمر متسامح تتكون له فعلا غريزة الشتم تنهال بها كل زنزانة على الأخرى ويتبارى في مزاولتها الجميع، بفن وخلق وابتكار، لأسماء الأم وجسدها يختلق ألف تعبير وتعبير.
في أحيان قليلة جدا يحدث، أن فجأة، يدور المفتاح في قفل الباب الكبير ويفتح العنبر، وهنا، وفي لمحة خاطفة واحدة يتسمر كل شيء في مكانه ويحل أعمق وأغرب صمت، صمت الترقب الرهيب لما عساه يكون السبب في فتح الباب.
وتتعدد الأسباب وتكثر، وذات مرة تجد السبب باب زنزانتك نفسه وهو لروعك يفتح وكتلة بشرية ما، تنزلق، ليعود الباب ينغلق. قبل أن تسأل أنت القادم أو يفتح هو من تلقاء نفسه فما للكلام تنهمر مئات الأسئلة من قريب ومن بعيد ومن أقصى الدور الثالث نفسه تتساءل عن حكاية هذا الذي دخل، فلا تدخل بعد التمام إلا حكاية مهولة، لا بد في الحال أن تعرف، وهكذا إن لم تبادر وتجيب، حتى قبل أن تعرف أنت ما هي الإجابة، تنهمر عليك أنت الشتائم هذه المرة وتؤرق عظام أمك وأبيك وأعضائهما أحياء كانوا أم أمواتا. قفص حياة رهيبة يتولى فيها أناس حبس أناس وخنق أناس وضرب أناس وحشدهم وتكديسهم هكذا في علب محبوكة من الزنازين والحجرات. - ما بك يا عم؟ خير!
سمعت أنا وحمزة البسيوني، زميلي في الزنزانة الذي تصادف أن اسمه يشبه اسم قائد السجن الحربي حيث تتم كل ألوان التعذيب، تشابه كان يجعله وبالتالي يجعلني هدفا لتعليقات ونخزات وتعذيب لا حد لها. - مالك يا عم مالك؟
قالها حمزة هذه المرة، بأمل أن يجيب القادم. ومكوما في الركن لا يتحرك كان لا يزال. الأسئلة تترى تخترق باب الزنزانة المصنوع من قضبان متوازية من حديد، لا إجابة، والنتيجة سيول من الشتائم تلعنني وتلعن حمزة. ما أغرب قدرة الإنسان على تعذيب نفسه وتعذيب الآخرين إذا وقع عليه عذاب لا يملك منعه. معذبون يعذبون معذبين. ما أبأسه من محبس داخل محبس وعذاب في لب عذاب!
لا رد ولا تحرك ولا كان باديا عليه أن سيرد. أيكون ما نسمعه منه ليس تنفسا عميقا إن هو إلا نشيج وبكاء، بكاء الصامتين لا حول ولا قوة، وجدت أنفسنا نقترب من الرجل نحيط به مشفقين. أيدينا تطبطب عليه ونستخرج كنزنا الثمين، الشمعة الوحيدة التي نملكها وندخرها للحظات الحاجة القصوى، أشعلناها، بضوئها الذي بدا باهرا، مددت يدي ورفعتها من الكتف إلى الرأس أعدله وأرى الوجه.
كدنا نموت أنا وحمزة رعبا فكلانا طبيب ونعرف ماذا تعنيه تلك الصفرة المتكاثرة المتشاحبة التي لونت الوجه. الحدقات الواسعة المفتوحة وهي تمعن النظر في الفراغ وفي اللاشيء. ما لم ننبهه مات. انهلنا عليه بالأسئلة نستفسر إن كان قد ضرب وأين ضرب وفي أي مكان من جسده يؤلمه أكثر. قسنا النبض وعددنا مرات التنفس . الصدمة فعلا واضحة ولكن لا أدري أي إصابة في الجسد، لا جرح، لا خدش، لا بطن، منفوخ، لا شيء.
وتنفيذا للمعاهدة المعقودة مع الحارس الليلي ساومناه على كوب القهوة. أصر على عشر سجائر ونحن لا نملك إلا علبة. وافقناه على مضض كثير. أخيرا أصبح في يد الرجل كوب قهوة معجز المذاق في تلك اللحظة، وسيجارة «وينجز» بأكملها، وعلى ضوء الشمعة دماء قليلة بدأت تسري في الوجه الخراب، همهمة، تمتمة، تنهدات الكل يختلط بالكل والكلمات بالأصوات والإشارات ورفض أن يفصح.
نلح بكل ما نملك من طاقة إلحاح، والرفض البادي على هيئة صمت هو وحده الجواب. تشاورنا أنا وحمزة، نتركه؟ نخفف الوطأة عنه؟ نترك كل شيء للصباح؟ ولكن حب الاستطلاع فينا لا يمكننا نحن أنفسنا مقاومته، والإلحاح، إلحاحنا وإلحاح بقية الحجرات والزنازين كلما احتمى الرجل بصمته، وتداخلت رغبته في الإفضاء كما يتداخل حيوان القواقع إلى عمق القوقع كلما شعر بلمسة الأصبع. وبكل نعومة رحنا نداعبه، ثم، فجأة، تركناه.
تركناه.
حتى كاد يغلبنا النوم. وكل الألسنة المطالبة في الخارج قد سكنت. - هل سأموت؟
رفع الرأس فجأة بالسؤال وكأنما إجابة متأخرة جدا عن قولنا له: نحن أطباء، لا تخف. فضفض حتى تستريح، ولا تخف، فنحن نريد مصلحتك، نحن أطباء. - هل سأموت؟
ودون أن نتفق، لم نجب. رحنا فقط ننظر إليه ولا نجيب فما كنا نريد تطمينه حتى لا يئوب إلى سكوته وفي نفس الوقت لم نكن نريد إزعاجه حتى لا يتمسك بموقفه.
فجأة وجدت حمزة ينفجر فيه غاضبا مؤنبا إياه على هذا الموقف الطفولي الذي لا معنى له بالمرة. معتقل سياسي. ألست كذلك؟ كان واضحا من ثيابه المدنية أنه ليس مسجونا. إذن لماذا هذا التثبت بالصمت؟! أخائف هو على نفسه؟! وماذا يمكن أن يحدث له أسوأ من هذا الذي حدث والذي جاءوا به إلى هنا بسببه وعلى تلك الحال القريبة من صدمة الموت.
فعلا، يعني ح يكون جرى لك إيه؟
بعمق تنفس وتنهد وقال ببطء ونظراته تعود تنغمس في الفراغ: أوحش شيء على ظهر الأرض.
وكدنا نبتسم في رثاء، ماذا يمكن أن يكون قد حدث؟
عاد يقول: أوحش شيء على الأرض. حدث لي ما لم يحدث لبشر. ومرة أخرى استخففنا بكلامه، وكدنا نقهقه. سبعة عشر شهرا ونحن في هذه الزنزانة معا. سجن مصر محطة يتوقف القادمون من السجن الحربي في طريقهم لطره وأبو زعبل والواحات، والقادمون من تلك الليمانات في طريقهم للمستشفى أو للإفراج أو لعذاب آخر في السجن الحربي. وارد وصادر وحركة دائبة جعلتنا نصادف كل ما يمكن أن يخطر على البال من تهم ومتهمين ومعتقلين وأسباب اعتقال، وتعذيب، ومعذبين. النفخ والضرب وكي نصف البطن الأسفل وهتك الأعراض وكل شيء، ولم تبق وسيلة لم نعرفها أو يأتي لها ذكر. وكل منهم، مثل هذا القادم، يعتقد أنه الوحيد الذي حدث له هذا أو مارسوا معه ذاك.
ماذا يمكن أن يكون قد وقع له؟ - أوحش شيء على ظهر الأرض. - ماذا مثلا؟ - أوحش شيء على ظهر الأرض:
نمت مع نملة.
وانفجرنا ضاحكين.
قطعا هو لا يبدو مختل العقل وإن كان واضحا أنه في طريقه لاختلال عقله. وبوجه جاد صارم يحمل كل ما في هذا العالم من ندم يقولها. نام مع نملة. وانفجرنا ضاحكين.
وإلى الصباح التالي ظللنا نضحك. ونتذكر ملامحه وهو ينطقها فتصاب معداتنا بالمغص من فرط ما ننحني ونضحك.
وعلى رأي كليلة ودمنة، قلنا له في الصباح التالي، وكان تقريبا لا يزال على نفس جلسته وقرفصته وانكماشه على نفسه: وكيف كان ذلك يا أستاذ؟
لم يكن تبدو عليه سيما المعتقلين السياسيين. معظمهم كانوا مثقفين، حليقي اللحية والشارب، خريجي أو طلبة جامعات. هذا كان له شارب، أصفر وغزير ومتهدل على شفته العليا يكاد يلامس السفلى. وجهه خشن لا بد من كثرة مزاولته عمله خارج المكاتب والمنازل في الخارج حيث الريح والتراب ولفح الشمس. في الحقيقة لم نفاجأ حين قال لنا إنه عمدة. حين تستخرجها من الحالة التي كان عليها، والسكينة التي آلت إليها ملامحه وقوامه، وتفرده، وتوقفه، وقصيرة سيرته الأولى ويتبدى لك على حقيقته، تجد أنه حقا وصدقا لا بد كان واحدا من أولئك العمد من طراز: اخرس يا ولد. شهم كريم، يذبح للضيف خروفا إذا رأى، ويسافر إلى آخر الدنيا تلبية لنداء مستغيث. عمدة ومعتقل سياسي. جديدة جدا هذه المرة. والنكتة أن يكون شيوعيا مثلا ومن منظمة «ح.م» المغالية في شيوعيتها واتهامها لكل الشيوعيين الآخرين أنهم عملاء للبوليس السياسي. الأقرب للمعقول أن يكون واحدا من أعضاء الهيئة الوفدية، فليس هناك عمد في تنظيم الإخوان المسلمين، ولكن، لا تعجب أبدا إذا اتضح في النهاية، أنه ماركسي يؤمن بالمادية التاريخية، وربما قد قرأ رأس المال واللينينية.
في الليلة التالية ساءت حالته وارتفعت درجة حرارته وأصبح نبضه 140، وبدا وارم الوجه مختنق السحنة وكأنه سينفجر بعد قليل، انهلنا عليه بالأسئلة لنعرف منه ذلك الذي وصفه بأنه أوحش ما في الدنيا.
وتكلم ...
متقطع الأنفاس.
أخرج من صديريه البلدي الداخلي علبة سجائر «كرافن أ» عشرين سيجارة كاملة، وعزم علينا، ولم نصدق أنفسنا ونحن ننفث دخان الكرافن وبكل ما نملك وما أصبح لنا من طول بال نصبر على كلماته التي تخرج بعد عناء، ولهاثه بين الكلمات.
تكلم ...
بدأها من منتصفها، أو من حيث بدأ يهتم هو بها، لا نعرف. قال: هذا الوغد، يونس بحري. قتلني. بالأمس فعلا قتلني، وسأموت، ولكني لن أموت قبل أن أغرس أسناني في زوره وأقضم حنجرته ابن الأنيتة هذا.
جالسين وفي أمان الله وبعد يوم شاق من تكسير البازلت وحمله في المقاطف والسير به نصف كيلو، من السابعة والصخر فوق أكتافنا والرمل في عيوننا وأفواهنا وأقدامنا العارية ينغرس فيها الشوك والزلط والمسامير، وجلسنا آخر النهار، قبل طابور العودة نستريح. وكانوا ثلاثة ضباط أحدهم هذا الخسيس يونس بحري. ناداني. منذ أن رآني ورأيته وأنا أشفق عليه وعلى نفسي أن يناديني. ناداني. تلكأت ولكني قلت أقصر الشر وألبي نداءه. ذهب. وقفت. تركني واقفا واشتبك في حديث فاتر مع زميله. قلت: أفندم. رمقني بنظرة، ثم عاد إلى حديثه الفاتر. اللهم طولك يا روح. قلت، وعزمت أن أؤجل أي اشتباك فجسمي مهدود ولن يحتمل أي ضرب. والبداية واضح أنها ستنتهي بضرب. اقصر الشر يا ولد. واصبر.
هناك، بعد ربع ساعة أو أكثر. التفت ناحيتي وقال: روح هات نملة من هناك. وأشار إلى كومة تراب قريبة.
صحا مخي من غفوة الوقوف وخيل إلي أني لم أسمع جيدا وسألته: أجيب ماذا؟
هب في صائحا: نملة، ألا تعرف النملة يا بن ال...؟
سكت.
مرة أخرى: تعرف النملة واللا لأ؟
قلت بتسليم: أعرفها.
قال وهو يلتفت إلى زميله: روح هات نملة.
طول الله روحي وذهبت إلى حيث أشار، وتفرست في كومة التراب مليا حتى وقعت عيني على نملة حمراء كبيرة نسميها في بلادنا حرامي النمل. انقضضت عليها بقبضتي ودون أن أفعصها أمسكتها في قبضتي وعدت بها.
ووقفت أمامه وقلت: أهه النملة يا أفندم. - وريني.
فتحت يدي كان رآها، قال: ولازم تجيبها حمراء هي رخره يا بن ال «...» الشيوعية.
عضضت على شفتي السفلى، لا بد أنها جرحت. وسكت، بنظرة من أسفل إلى أعلى رمقني وقال: دي إيه؟
قلت ببراءة ما بعدها براءة: نملة يا بيه.
قال ...
خيل إلي أني حقيقة لم أسمع؛ فقد كان الطلب الذي طلبه غريبا جدا وغير معقول بالمرة، سألته: أفندم.
قال: اخلع هدومك! - نعم؟!
أشار لحامل الكرباج وزميله حامل الشومة.
رفعت يدي مسلما قائلا: حاضر يا بيه، أخلع هدومي. ولكني ترددت، نظرت حولي بركن عين، طابورنا المنكود الحظ قابعا كصفين من طابور ذباب الكدح والزق والزجر. في دائرة واسعة رهيبة يلتف حوله سور من عساكر يحملون الأسلحة الأتوماتيكية بكافة ألوانها، قريبا منه تناثرت فرقة الضرب تحمل الهراوات والكرابيج والنبابيت والأحزمة والقضبان الحديدية. أنا واقف وحدي ويونس بحري مقع على كرسيه أمامي. ولا مفر.
استنهضني بشخطه ولما كنت كما قلت قد قررت أن أؤجل الاشتباك فقد مددت يدي الأخرى وبدأت خلع جلبابي، وخلعت الصديري، عاريا كما ولدتني أمي أمامه. - قلعت هدومك! - زي ما أنت شايف يا بيه. - طيب «...» النملة اللي في إيدك دي.
خيل إلي أني حقيقة لم أسمع، وكيف أسمع، وما طلبه لا يمكن أن يمر إلا من عقل مجنون، حتى المجنون نفسه يخجل أن يطلبه. - نعم؟!
الكرباج مرفوع فوق رأسي والنبوت يهيأ للانقضاض ويونس بحري تجمدت نظراته النارية على هيئة الأمر الذي أمره، والدنيا، وسور العساكر حاملي المدافع، والطابور، والبازلت والجبل والصخر والطريق، وكل شيء سكت وصمت وتآمر يستحثني أن ألبي.
انتفض الفلاح الخبيث الذي في يقلب الموقف الجاد الرهيب وقلت فجأة: بس دي دكر يا بيه!
لم يضحك، ولا أحد من القريبين أو البعيدين ضحك، بكل صرامة قال: روح هات واحدة نتاية.
وكالذي نومه المنوم المغناطيسي استدرت وقصدت كومة «التراب» وعسعست بيدي. طبعا كان أول ما خطر لي أن أبحث عن نملة أنثى، ولكني كدت أضحك من نفسي لأني انسقت وراء المشهد فعلا وأخذته جدا، وسألت نفسي: كيف أعثر على الأنثى، وما الفرق بين النملة الذكر والنملة الأنثى، بل هل توجد نملة أنثى ونملة ذكر. المقصود عدت إليه ووقفت أمامه وفتحت قبضتي على نفس النملة وقلت: ها هي نملة أنثى.
قال: يالله ... - يالله ماذا؟
سألته. قال: تاني ... اسمع ...
وفوجئنا بجعجعة أوامر تقرقع، واقترب سور العساكر حتى أطبق على طابور المعتقلين، واستقر أفراد فرقة الضرب فانتصبت واقفة مشرعة أسلحتها الفاتكة الرهيبة، وهوى الكرباج من خلفي وسمعت صفيره وهو يشرخ الهواء كالسكين القاطع مغورا في جلدي ولكن يونس بحري تلافاه، في آخر لحظة وأمسك باليد المهوية وقال بصوت مخيف صوبه إلى كل أذن تسمع: اسمع، أنا لا أريد ضربك، فأنا أعرف أنك من النوع الحميري الذي لن يؤثر فيه أي ضرب أو تعذيب ولكني سأضرب تلامذة ابتدائي هؤلاء.
أشار.
والحراس يعرفون إلى من يشير؛ فقد كان ثمة خمسة صبيان صغار لا يتجاوز أيهم السادسة عشرة، معنا في الطابور، إذا ضربوا يصرخون بل يصوصون كالكتاكيت المذعورة وتغور صرخاتهم في لحمنا الحي بحيث يصبح أهون لأي منا أن يقطع بالسواطير ضربا ولا يسمع صرخة الواحد منهم.
جزعت والحق يقال، وسقط قلبي في قدمي مخافة أن ينفذ الوعد. يا عم يا يونس ما كنا قاعدين في أمان الله، ماذا دار في عقلك النجس ليقلب سلامنا هذا إلى لحظة الرعب هذه حتى ليبدأ الجو يحفل برائحة الدم واللحم المفروم.
تطويل الروح لم يعد يجدي. ماذا تريد يا أيها القومندان؟ - يا لله.
ولأنني ضامن أني سأكون على حق في تساؤلي رفعت صوتي مستغيثا مستعينا بالله من هذا الهول الذي لا أعرفه: إزاي بس يا بيه أنا في عرضك! إزاي؟! - زي الناس. هكذا قالها. - زي الناس إزاي؟! - زي الناس يا ابن ال... ويا بن ال... ماذا تفعل الناس؟ - ولكنها تفعلها مع الناس والإناث الكبار، وهذه نملة! - ولو. اعتبرها ناس، اعتبرها إناث. - حاضر.
قافزا الفلاح الخبيث إلى نجدتي مرة أخرى قلت: حاضر يا بيه.
وعملت أني فعلا أزاول ما أمرني به، وأنا، زيادة في الاندماج، قد رسمت على وجهي ابتسامة سادة. استيقظت منها على صوت نبوت يشرخ، يشرخ الهواء. ويشرخ ظهرا من ظهور «التلامذة» إلى جواري. التفت على الصرخة، أهذه صاعدة من عظام الأقدام لكائن حي إنسان صغير يتألم؟! انفجر قلبي وتدفق منه الدم الفائر غصة ولوعة. - لا تمثل يا بن الكلب، اندمج. أتضحك علي؟ اندمج. أنت خالع الآن ملابسك وهذه أنثى، نملة مش نملة لا يهم. هذه أنثى. اندمج. وسأراقب وجهك وملامحك، وأقسم برحمة أمي إن لم أرك تفعل ما قلته سأشرح تلاميذك وأنت وكلكم معه. وأنت تعرف وكلكم تعرفونني.
وكان واضحا من وجهه المسمر بالجديري القديم أنه لا يهزل، حاولت أن أجد فرجة احتمال أو عشر احتمال للتهاون فلم أجده، هذا إنسان مجنون وقد تقمصته حساسية المجانين للحقيقة، ولن يصدق غيرها ولن أستطيع أبدا خداعه وعلي أن أفعلها. حاولت. ولكني في منتصف المسافة استدركت وطلبت منه العذر.
وجمعت نفسي وبأقصى ما أستطيع من قدرة على أمر النفس أمرتها. أحسست أن شهبا كشهب الجنون تتراءى لعيني، ومن فرط الانضغاط بدأ العقل في مخي يطقطق. مجنون أمر، وأمر مجنون، ولا بد أن أستجيب، ومجنونا لا بد، لكي أستجيب، أن أصبح. أنا فعلا رجل ضخم، وهذه نملة ، وبكل كياني علي أن أصغر نفسي وأستحيل من إنسان إلى حشرة، وعلي التخيل أني ذكر نملة، تستثيرني أنثاي أنثى النملة، وأنام معها. وكلما فشلت، كلما توقفت، كلما غام وعيي بالمشهد وباستحالة التحول. وأحسست التهديد يحوم كغربان البين حول التلامذة الصغار وحول الطابور أتصاغر وأتصاغر ويكسوني العرق وتطقطق عظامي وتتدشدش دون أن تصبح كفي في حجم ساق النملة، وساق النملة لا يكاد يرى ولا بد أن أهوى بوعيي وبإرادتي على كفي وكتفي ولحمي وعظمي ورأسي وبطني وساقي وعنقي وأدق وأصغر كي أستحيل ذكر نملة، أفرز هرموناته، وأجعلها بالقوة القاهرة تستجيب لهرمونات أنثاي القادمة، مستسلمة، في يدي. هكذا، رأيتها، بألف عين دقيقة لي تكونت، قد استجابت، وكفت عن الحركة، ووقفت واضطجعت. لو كانوا قد عذبوني وقطعت الجبل كله، لو ربطوني إلى ذيل حصان جرى بي القطر كله من أقصاه إلى أقصاه، ألف جلدة، لو فعلوا ما هو أكثر وأكثر لما أحسست بربع معشار ما مر علي من عذاب حتى أفلت الزمام ولم أعد أستطيع الكف وجسدي يمضي يتصاغر ليصبح نملة ويستمر نملة ويعيش ويحب ويزاول الحب نملة. وعند لحظة النهاية فقدت الوعي.
قالوا لي إنهم حملوني حملا إلى الليمان.
وإنهم خافوا من صراخي أثناء الليل واستجار الزملاء من عضي وتمزيقي لملابسهم وملابسي، وحملوني إلى مستشفى سجن مصر، ومن هناك إلى هنا. وهمس لي التومرجي الأسمر العجوز وأنا في الطريق إليكم أنهم يفكرون في الإفراج الصحي عني. ولو، ما الفائدة، وقد نمت مع النملة واعترفت، وكان الذي كان؟
ولأن لا أبشع في السجن للمنتظرين المحاكمة من كلمة اعتراف، فقد وقفنا على أطراف تحفزنا أنا وحمزة ونحن نسأله بماذا اعترف ولماذا اعترف.
قال وهو يشيح بيده: وأنا وسط العذاب، في منتصف المسافة بين كوني بشرا وكوني ذكر نمل انكسرت إرادتي ولم أحتمل، وقلت كل ما عندي بأمل أن يتوقف أمر يونس بحري وأن يكف العذاب، ورغم الاعتراف لم يوقف المجرم الأمر، وحتى ولو كان أوقفه فأنا نفسي كنت غير قادر لحظتها أن أوقف عذاب التحول، إرادة أن أكون بشرا أفلتت وصارت لي إرادة نملة لا تقوى أبدا على كتمان. •••
ورغم إعادته إلى المستشفى فقد سمعنا أن حرارته ظلت 41 طول الليل ورغم جسده المتين الضخم، في الصباح التالي مات.
صفحة غير معروفة