ونسيت نفسي وأنا مندفع في أقوالي فلم أتنبه إلى أن التليفون دق مرة أخرى، وبدأ الضابط يتحدث بطريقته الخاصة، وسكت حتى فرغ من الحديث وخيل إلي أنه يتكلم مع شخص كبير؛ لأنه كان يجيب قائلا: حاضر يا فندم! حالا يا فندم!
وعجبت عندما وضع السماعة، ونظر إلى مصطفى قائلا: اذهب أنت الآن وسندعوك إذا احتجنا إليك.
ودهشت لهذا الانقلاب الفجائي، وكدت أقول له: «أريد إذن أن أعرف ماذا تنوي أن تفعل مع صاحب الأشرطة الحمراء، ومع الذين أفسدوا علينا حفلتنا الانتخابية.» ولكني كنت متعبا كارها للبقاء في ذلك المكان الذي تعذبت فيه منذ الصباح، وكان أحب شيء عندي أن أعود إلى بيتي لأستريح من أثر ما عانيت من الآلام والهزات النفسية مع ما كنت فيه من الضعف من آثار المرض.
وقال لي الضابط: «تفضل الآن أيضا إذا شئت، وسأدعوك إذا قضت الضرورة.»
فقمت فاترا وقام الضابط ليحييني باسما، وشكرته بكلمتين مبهمتين، وسرت خارجا أسأل نفسي عن معنى كل هذا، الجحر المظلم والذات الملكية والطبقات ومصطفى عجوة، ثم هذا الانقلاب السريع من التحقيق إلى التحية الباسمة، ولكني كنت في حالة إعياء، وكنت تلوح أمام عيني في كل خطوة أخطوها مناظر أسرة أريد أن أستلقي عليها.
وفتحت باب البيت ودخلت إلى غرفتي آخر الأمر متسللا؛ حتى لا يراني أحد، واستلقيت على السرير بملابسي.
الفصل العاشر
كنت أحسب أن النوم يسعفني لشدة تعبي، ولكني أحسست بأن كل عصب في جسمي مشدود إلى مداه، وأن كل عرق في بدني يرف، وأن هموم الحياة كلها تتجمع في أعماق صدري، فوضعت يدي تحت رأسي ونظرت إلى سقف الغرفة، وأخذت أعد عروق الخشب مرة بعد مرة لعلي أغفل وأغمض عيني، وهي حيلة كنت ألجا إليها لأصطاد النوم إذا شرد عني، ولكني أعدت العد حتى مللت، ورأسي ما يزال مشدودا كأنه يريد أن ينفجر، وجعلت أدقق في العروق القديمة السمراء، وكانت كثيرة العقد، وجلت بنظري في الألواح الغبراء اللون التي تحتها، وقد زالت عنها قطع واسعة من دهانها الجيري القديم، وكانت بعض أنسجة العنكبوت تلتصق في حناياها وزواياها، والعناكب السوداء في داخلها تتربص بفرائسها وتداعب خيوطها بأرجلها الطويلة راضية عن نفسها، ورأيت منها عنكبوتا ضخمة تتحفز لذبابة حمقاء تقترب من بيتها، فقلت في نفسي: «هذا هو!» ولو كانت في تلك العنكبوت شارة حمراء لما شككت في أن الله قد مسخ إليها الجندي الفظ صاحب الأشرطة الحمراء، ورأيت برصا كبيرا له لون أحمر قاتم، وكان واقفا في ركن السقف، فتعجبت كيف لا يهوي إلى الأرض وهو يمشي مقلوبا برجليه إلى أعلى، وكان غليظ الجسم كبير الرأس، وكان وجهه منقطا بآثار تشبه آثار الجدري كأنه وجه مصطفى عجوة، هذه الحشرات القذرة التي تتربص بفرائسها وتلتصق بأقدامها إلى السقف وتدلي رءوسها إلى أسفل!
وكان هناك ثقب في جانب اللوح يصلح أن يختفي فيه البرص ويتدارى عن عيني، ولكنه لم يفعل، حتى الأبراص لا تحب الجحور المظلمة، وأما أنا فإني أسجن في تلك الغرفة الخانقة ويغلق علي الباب، وما تزال قبضة يدي تؤلمني من أثر الخبط وما تزال أنفاسي تضطرب من أثر الغيظ.
ونظرت إلى الساعة التي في يدي، فوجدتها الثانية بعد الظهر، وأرهفت سمعي إلى حركة البيت فلم أسمع حسا، وكان عجيبا أن يكون الهدوء عميقا في يوم الجمعة وأمي وأختي بالمنزل، وشعرت بشيء من الخيبة؛ لأني بقيت في الغرفة وحدي، ولم يسأل أحد عني.
صفحة غير معروفة