الفصل الأول
حياتنا سلسلة من حوادث صغيرة ليس لواحدة منها في ذاتها ما يسترعي انتباهنا في اللحظة التي تمر بها، ولكنا إذا بعدنا في الطريق، وأصبح من المحال أن نعود أدراجنا تبين لنا أن بعضها هو الذي يقرر مصائرنا، ولو كنا نفطن إلى هذه الحوادث الصغيرة الخطيرة في اللحظة الحاسمة لحرصنا على توخي الحكمة وتجنب الأخطاء، ولكنا بشر نكتب بأخطائنا سلسلة القصة البشرية، والحوادث التي تمر بنا تخلف فينا آثارا لا تمحى، بعضها حائل يسنح لنا في ذكريات عابرة، وبعضها عميق يشبه ندوب الجراح بعد التئامها، وهذه الخطوط العميقة هي التي توجه تفكيرنا وتقود مشاعرنا وتحرك إرادتنا. هذا ما بدا لي على الأقل وأنا في غرفتي الصغيرة من سجن الاستئناف أجول بخيالي في عالم الذكرى لأسجل ما أظنه جديرا بالذكر من حوادث حياتي.
لم تكن طفولتي متميزة بشيء يستحق أن أقف عنده طويلا حتى وقع الحادث الأول الذي زلزل وجودي وغير اتجاه حياتي وهو وفاة والدي.
كنت عند ذلك في نحو السابعة عشرة من عمري، وكنت أستعد لامتحان شهادة الثقافة العامة، ووقعت الصدمة علي فجأة، فشعرت كأني أهوي في فراغ لا قرار له. كان أبي والدا وصديقا يملأ كل حياتي، وما كان يخطر لي أنه إنسان زائل قد ينتزع من الوجود في لحظة، فلما عدت من المدرسة ذات يوم ووجدته مسجى في سريره والجميع يبكون من حوله، وقفت أنظر إليه بغير أن أرى وجهه المغطى، وأخذت أتأمل الوجوه الحزينة التي حوله وأنا ذاهل، فما راعني إلا أن الجميع ازدادوا صراخا وعويلا عندما رأوني، فاندفعت نحوه لأرفع عنه الغطاء وأناديه لأوقظه، فبادر من هناك إلي ودفعوني وأخرجوني من الغرفة قسرا. لم تكن في عيني دموع، بل كان قلبي يفيض غيظا؛ لأنهم حالوا بيني وبين أبي، ولم يحاول أحد منهم أن يتمسك به، بل سلموا بأنه قد مات وانتهى بغير مجادلة. ثم رأيته بعد حين يحمل في نعشه ويتجهون به إلى المقبرة كالأموات جميعا، وسرت مع السائرين حتى وقفنا إلى جانب حفرة، ورأيت جثمانه يدلى فيها وكل من هناك جامد في مكانه يبكي بغير أن يحاول أن يتمسك به، فاندفعت كالمجنون وأردت أن أتعلق به، ولكن الناس اجتمعوا حولي وأمسكوا بي قسرا، وجعلوا يواسونني بكلام لم أفهم معناه، فانفجرت باكيا كما لم أبك يوما في حياتي، ولما عدنا آخر الأمر إلى البيت وحدنا شعرت بحزن لا يشبه الحزن، وبلوعة لا تشبه لوعة الصبي في فقد أبيه، بل هي أقرب إلى حسرة المقهور العاجز أمام قوة جبارة تتقاذف به في قسوة، وكانت صورة أبي تتمثل لي لا تفارقني في ساعات اليقظة ولا في مناظر الأحلام، واعتراني شعور يشبه الحقد والعداوة لكل ما يذكرني بفقده؛ ولهذا لم أذهب مرة لزيارة قبره، بل لقد كنت أتحاشى الاقتراب منه أو السير في الطريق المؤدية إليه.
وامتلأ قلبي بوحشة شديدة، فخيل إلي أن الحياة خالية خاوية ليس فيها ظل من فوقي ولا قرار من تحتي، وحببت إلي العزلة ونفرت من كل مجلس حتى لقد لزمت غرفتي في البيت كلما عدت من المدرسة، وكانت أمي تأتي أحيانا لتؤنسني فتجلس إلى جنبي وترقبني في عطف حزين، فلا يزيدني ذلك إلا وحشة وأحس أن الحياة رهيبة.
وشيئا بعد شيء بدأت أضيق بالجو الرهيب الذي خيم علي، فصرت أخرج وحدي إلى الحقول القريبة من البيت أجول فيها بغير قصد سوى السير في الهواء الطلق، ويدور ذهني حول نفسه في أثناء سيري في أفكار غامضة يشوبها حزن غامض، حتى إن الحقول نفسها كانت تبدو في عيني في إطار كئيب مع أنها كانت تتبرج في حلة الربيع، وكنت أحيانا أجلس في مكان منعزل، فأكتب شيئا يشبه الشعر أنفس به عن أفكاري الحزينة الغامضة، فإذا قرأت ما كتبت بادرت بتمزيقه؛ إذ كان يزيدني كآبة لأنه يدور حول معنى واحد؛ معنى زوال الحياة التي تحملنا برغمنا وتقذف بنا حيث تشاء، وكانت أسئلة واحدة تتخلل كل ما أكتب: لم جئت إلى هذه الحياة؟ ولم أبقى فيها؟ وأين نذهب إذا خرجنا منها؟ وما هو قصدها؟ وماذا يستحق فيها أن أجعله غايتي؟ ومما زادني شعورا بالرهبة أني بدأت أرى أمي تعاني في حياتنا ضيقا تحاول أن تخفيه، ولكنه كان يظهر واضحا في كل ما حولنا. صارت لا تعطيني النقود التي تعودت أن أنفقها في «الشبرقة» مع رفاقي بالمدرسة، حتى صرت لا أقدر على مجاراتهم، ولا تشتري لي ولا لأختي الصغيرة ما تعودنا انتظاره من الهدايا الصغيرة، ولما جاء العيد لم تشتر لنا الملابس الجديدة، وشعرت بالذلة عندما رأيت كل زملائي ينظرون إلى بدلتي التي يعرفونها، وأذكر أني ذهبت إلى أمي يوما فسألتها: ماذا تقولين يا أمي في أن أشتغل بعمل أتكسب منه؟
فقالت في دهشة: أي عمل يا سيد؟
فقلت: أي عمل أقدر عليه، كما يعمل أولاد حارتنا.
فقالت: تحب أن تكون مثل حمادة الأصفر مثلا؟
وكان حمادة الأصفر ولدا من صبيان الحارة يعمل مع أبيه البقال في دكانه.
صفحة غير معروفة