207

فضحك قائلا: كلمة جميلة عندما نسمعها بآذاننا فقط.

فقلت جادا: بل نجدها جميلة؛ لأننا نؤمن بها، من الطبيعي أن نحب العافية ونتحاشى الآلام والمتاعب، ولكن من الطبيعي أيضا أن نخوض معركة.

فقال باسما: قل أيضا إنها طبيعة مهنتنا، هذه هي الحجة التي تجعلني ألقي سلاحي، وعلى أية حال لم يصادر عدد اليوم، وهذا دليل على أن القذيفة أصابت هدفها.

وأدهشني من الأستاذ علي مختار أنه بدأ يتحول إلى شيء يشبه حاله الأولى بعد بضعة أيام، ونشط من الفتور الذي طرأ عليه، وعاد مكتبه في كل ليلة منتدى سياسيا يضطرم بالثورة.

ولكنه كان مع ذلك لا يخلو من التوجس؛ ففي كل صباح يبادرني عندما أذهب إليه قائلا: لم يصادر عدد اليوم أيضا.

وشغلتني المعركة العنيفة عن كل شيء حتى عن أمي وأختي وعن منى، وعادت الثورة تخفق في قلبي وتضطرم في كل مكان، وكنا نتوقع أن تندلع في كل صباح، وماذا كان يجعلنا نشفق من الثورة؟ كان اليأس يدفعنا إلى طلب التغيير ولو إلى حريق آخر، وكما يحدث للمقاتل إذا حمي القتال فجعله لا يفكر في شيء غير القتال، جعلتنا المعركة الصحفية لا نفكر في شيء سوى الفضيحة المقبلة؛ فضيحة القطن وفضيحة البورصة وفضيحة تجارة المخدرات وفضيحة الاغتيالات الجهنمية وعشرات أخرى، كل واحدة تثير زوبعة قبل أن تهدأ التي سبقتها، وفي غمار هذه المعمعة كانت منيرة تبعث إلي خطاباتها بغير انقطاع، وكل منها ينتهي بالعبارة المألوفة: «منى تسلم عليك وتسأل عنك.» فأطوي الخطاب في شيء من الحنق، وأضعه في درج مكتبي، وأرسل جوابا قصيرا أرد فيه التحية الجوفاء بمثلها: «أرجو أن تبلغي منى سلامي وسؤالي عنها.»

هكذا مضت الأشهر واحدا بعد واحد حتى أتى إلي خطاب من منيرة، فقرأته مسرعا، وكدت أضعه مع الخطابات الأخرى لولا أني وجدت تغييرا في الخاتمة: «منى تسأل عنك وهي متألمة منك.» فوضعت الخطاب أمامي، ونظرت إلى الفضاء حيث كانت صورة منى. ماذا تنتظرين مني؟ وأينا الذي يغضب ويتألم؟ هكذا قلت في نفسي ونظرت إلى الساعة فوجدتها الحادية عشرة، وقمت لأستأذن في إجازة قصيرة، وأسرعت إلى المحطة لأسافر، وأخذت معي كتابا لأقطع على قراءته الطريق حتى لا أحس طول السفر، وذهبت من تو وصولي إلى دمنهور قاصدا إلى بيت منى، وكانت الساعة الرابعة عندما طرقت الباب، وعرفتني الخادمة ففتحت لي غرفة الاستقبال.

وكان الجو حارا فخلعت طربوشي، ووضعت الكتاب الذي كان معي على منضدة، ومكثت بضع دقائق أنظر حولي إلى ما في الغرفة وأنا أفكر فيما أقول إذا لقيت منى، كانت الغرفة كما تركتها آخر مرة، الصورة الحزينة المجللة بالسواد، والستائر المقلوبة، والأواني المنكسة، وزادها كآبة شيء من الإهمال في الترتيب والتنظيف، وكان قلبي ممتلئا بالإشفاق والحزن عندما جاءت منى مثل زنبقة مشرقة، وملابسها السود تجعل على وجهها مسحة من الصفرة، وكان وجهها الباسم وعيناها الصافيتان تقولان مع لسانها: «مرحبا، الحمد لله على السلامة!» ومددت يدي الاثنتين لآخذ يديها وأضغط بهما على صدري، وأنا لا أدري ماذا فعلت، وكان خفقان قلبي يحول بيني وبين النطق، وقالت منى وهي تجذب يديها: أهكذا لا تأتي إلينا إلا بإنذار؟

فقلت في حرارة: كنت في الانتظار دائما.

وتركت يديها وجلست وقلبي يدق عنيفا.

صفحة غير معروفة