فقال: من أولاد عوكل؟
فقلت: طبعا، أليست معركة دائمة؟ كل طفل يأخذ بثأر أبيه.
فقال: ولكن الثأر انتهى عندي. لم يفعل أولاد عوكل وإخوته كما فعل إخوتي وأعمامي، ترك أولاد عوكل أمرهم للحكومة وانتهى الأمر، وحسبوا أن نوفل انتهى وانقطع ولده.
ولكن الحسين جدي، وزارني في المنام يطالبني بنذره، اصنع الجميل يا عم سيد، واشتر لي شمعتين، الحسين جدي والولد سميته حسين، بودي والله يا عم سيد، بودي لو أطير ساعة واحدة لنجع الساقية وأعود، أوص لي على شمعتين بحق الحسين يا عم سيد.
واضطربت نبرات صوته وهو ينطق بكلماته الأخيرة.
ورفع يده إلى عينيه متأثرا ثم أسرع عني كأنه يهرب مني.
وأتى عبد الحميد بالشمعتين بعد ثلاثة أيام من ذلك اليوم ليهديهما إلى نوفل، وكانتا بيضاوين طويلتين منقوشتين من ذلك النوع الذي يكثر استعماله في الاحتفال بأسبوع الميلاد، وقد عقد لكل منهما رباطا من الحرير في أعلاها، ولكن نوفل المسكين لم يرهما؛ لأن موعد إعدامه كان في اليوم التالي، فلم ينزل إلى طابور النزهة في ذلك المساء.
ولم أبك في حياتي مثل بكائي المر في الليلة التالية، فإن ذلك الشاب الذي كان لا ينقطع عن الضحك والغناء والتهريج، مع علمه بأن حكم الإعدام معلق فوق رأسه كالسيف، قد تبدل فجأة إلى حالة فاجعة من الجزع والثورة منذ علم بأنه رزق ولدا، وقضى الليلة كلها يرسل من غرفته صيحات تشبه زئير الأسد الجريح، وكان في صوته نغمة جزع وحشي تهز أعماق قلبي، وتبعث الدموع من عيني. هو واحد من ألوف وألوف ساقتني المصادفة إلى طريقه أو ساقته المصادفة إلى طريقي، فلمحت منه لمحة من المآسي الإنسانية التي تنطوي عليها أطباق الحياة المظلمة، ولم أشعر يوما كما شعرت في تلك الليلة بأنني لا أعرف من الحياة إلا طرفا ضئيلا، وبأنني أكذب على نفسي وعلى غيري عندما أقول: «أنا الشعب.» لأنني أغضب وأنطق عندما أحس بالغضب، ولكن ألوفا من الألوف لا تستطيع أن تنطق؛ لأنها خرساء، وهناك ألوف من ألوف أخرى من أمثال الطفلين البائسين اللذين وقع بصري عليهما وأنا محجوز في قسم البوليس. هؤلاء ينشئون في العراء، كأنهم أعشاب البر التي لم يبذر أحد بذورها.
هم لا يقدمون للحياة شيئا، بل يسلبونها أشياء، ومع ذلك فالراعي لا يعبأ بقطيعه إلا عندما يشعر بالجوع فيذبح خرافه العجاف واحدا بعد واحد، إنه الراعي الأحمق الذي يستحق مصيره إذا فنى قطيعه وهلك هو بعد ذلك جوعا ... ولكن ما بال القطيع؟ ما بال القطيع ينتظر طويلا على الراعي الأحمق؟
قضيت تلك الليلة أحدث نفسي حانقا حزينا حتى طلع الصباح الذي حدد لتنفيذ الحكم على نوفل المسكين، ورفعت العلم الأسود فوق قلبي، وبقيت في غرفتي كأن ذلك المحكوم عليه بالإعدام أخي من أبي وأمي، واستمرت الدموع تنحدر من عيني برغم كل محاولاتي في التماسك، مع أن المسكين كان قد تخفف من كل أشجانه بالموت.
صفحة غير معروفة