فقلت: ألم تسمعني؟
فقال في صوت خافت: لم أرد إزعاجك بالحديث عن بريد الأحرار.
فصحت: ماذا حدث؟
فقال: هي مغلقة من يوم القبض عليك.
فقلت في دفعة: والأستاذ علي مختار؟
فقال: هو مثلك سجين غير أنه يستعد لعملية جراحية.
فرفعت يدي إلى رأسي بحركة قسرية وهجمت علي موجة شديدة من حزن مختلط بالأسف على ما سبق من سوء ظني بالرجل.
واستمر عبد الحميد قائلا: وأحب أن أقول لك: إن مرتبك وصل إلى الوالدة في أول الشهر، فلا تزعج نفسك بالتفكير في شأنها.
وكنا قد وصلنا عند ذلك إلى قاعة المحكمة، وكانت المقاعد مزدحمة بمن فيها، ولمحت أمي وهي جالسة تمسح دموعها بمنديلها في الصف الثاني، وأما منيرة فكانت تنظر نحوي وهي جالسة إلى جانب أمي وتحاول أن تبتسم ووجهها يتحرك حزينا، وتعمدت أن أظهر طبيعيا فتبسمت لهما وحركت يدي نحوهما ثم أدرت بصري عنهما حتى لا تنفجر دموعي.
ثم أخذ القاضي في نظر قضيتي وهو هادئ، وكنت مشغولا عنه بما في داخل نفسي، ثم بدأت بعد حين مرافعة المحامي، والظاهر أنه لم يجد وقتا في الليلة الماضية ليقرأ دوسيه التحقيق؛ إذ كان دفاعه سقيما مترددا لا روح فيه، وختم مرافعته باعتذار سخيف يزعم فيه أني لم أقصد شيئا من وراء ما كتبت، وأنني أضمر لرجال الحكومة كل تقدير وتبجيل، فكدت أصيح به أن يسكت وشعرت بالدم يتدفق إلى وجهي ورأسي، وما كاد يفرغ من مرافعته حتى اندفعت أكذب ما قاله، وأخذت أبين في وضوح أنني لم أكن هازلا عندما كتبت مقالاتي، وأنني أشعر شعورا عميقا بواجبي في مجاهدة الفساد والانحلال بكل ما أملك من قوة، وهي قوة قلمي. ثم انطلقت أتحدث عما سميته «التفاهات المسكينة» التي أغرق فيها رجال الحكم أنفسهم، وأوشكوا أن يغرقوا فيها البلاد معهم، وختمت دفاعي بصيحة عالية ناديت فيها كل من يقدر الكرامة الوطنية والحرية ومصلحة البلاد أن يعمل على إزالة الحكم الفاسد حتى لا يجد في نفوس الأمة دعامة يستند عليها.
صفحة غير معروفة