وهمست مرة أخرى: لأني صغيرة وهو لا يريد أن أرى الروايات التي تعلم الحب.
وضحكت ضحكة طويلة أخرى.
وتعلقت بذراعي فجأة وهي تقول: خدني معك يا سيد أفندي. سأضع المنديل هكذا حول كتفي، وسألبس الفستان الجديد، بجنيه المتر الواحد، اشتراه لي شهاب أفندي، وأراد أن أذهب معه إلى السينما من وراء أبي، ولكني لم أذهب، سأذهب معك ولن يعلم أبي؛ لأنه في كل ليلة يدخل إلى «المندرة» مع أصحابه ويغلقها، ويمكنني أن أخرج وأعود قبل أن يفتح الباب.
وعادت تضحك ضحكا طويلا.
واندفعت علي فجأة، فطوقت عنقي بذراعيها، ورفعت وجهها نحوي.
وكانت مفاجأة لم أتوقعها فذهلت ورفعت يدي إلى يديها لأبعدهما برفق، ولكنها تمسكت بعنقي ونظرت إلي نظرة التجاء قوية التعبير، فمسحت على رأسها برفق، وملت على وجهها المرفوع فقبلت جبينها قائلا: لا أستطيع أن آخذك هذه المرة يا فطومة، وأعدك أن أذهب بك إلى السينما في ليلة أخرى بعد استئذان والدك.
فحلت يديها في حنق، وصرفت وجهها عني نافرة وهي تقول: طيب خلاص!
ثم انفلتت مسرعة من الغرفة.
ونظرت خلفها وهي خارجة ولمحت صورتها وهي مطبوعة أمام ضوء القمر الذي يغمر السطح، ولأول مرة عرفت أن التي كانت أمامي امرأة لا طفلة، كان قوامها وهي تتحرك مسرعة في غضبها يشبه قوام أنثى من الوحش تنساب في غابة، جسم لدن مليء حسن التقسيم، وملامح يفيض فيها الشباب القوي، ودفعة وحشية تمتاز برشاقة تشبه رشاقة النمور في حركتها، ولا أدري كيف أصف شعوري وأنا واقف في مكاني أنظر في أعقابها؛ فقد كان مزيجا من العطف والنفور والإعجاب والتقزز مع شعور آخر من إدراك ما فيها من محاسن ومن لوم النفس على أني لم أتخذ معها موقفا حاسما، وارتميت على الكرسي الطويل حائرا حزينا مضطربا بين هذه المشاعر المتضاربة لا أدري ماذا ينبغي لي أن أفعل بعد هذا، فهل أصدمها صراحة وأقول لها أننا لا ينبغي أن نستمر في هذه المهزلة، وأننا من عالمين مختلفين لا يستطيعان أن يمتزجا؟ ولكن أتفهم فطومة قصدي إذا قلت لها مثل هذا القول؟ وهل يمكن أن نفهم أن تعلقها برقبتي هكذا مهزلة؟ وكيف يمكنني أن أعرف ما يدور في أعماق نفسها وهي تتعلق برقبتي؟
ولست أخفي أنني كنت في قرارة نفسي أخشى أن أصدمها، فإنها كانت بغير شك تدخل كثيرا من الأنس إلى وحدتي، فكيف تكون الحياة في هذه الغرفة الحقيرة بغير فطومة التي تحمل إلي إفطاري وتثرثر لي وتغني وتجمع ملابسي إذا اتسخت، وتعود بها إلي نظيفة مكوية، وتنظم لي حجرتي في عناية وذوق حتى أصبحت لا أحس بأني غريب عن بيتي. ثم هي فوق ذلك تبعث إلى وحدتي شيئا آخر أخفى من كل هذا على إدراك العقل، فإنها كانت تؤنسني بشخصها، ألم أكن حقا أشجعها على التعلق بي، وإن كانت لا أفطن إلى أني أشجعها؟ ألم أكن أبتسم لها كلما جاءت إلى غرفتي وأحييها وأعطيها شيئا من النقود بين حين وآخر؟
صفحة غير معروفة