وكان الخليفة إذا أراد أن يصرف جلساءه قال لهم: «إذا شئتم.» أو «على بركة الله.» أو غير ذلك حسب الأحوال. ومن انصرف من حضرة الخليفة مشى القهقرى، ووجهه نحو الخليفة حتى يتوارى.
وكان التطيب بأنواع الطيب من دلائل النبل عندهم. ومن أقوالهم: «ثلاثة يحكم لهم بالنبل حتى يدرى من هم: رجل رأيته راكبا، ورجل سمعته يعرب كلامه، ورجل شممت منه طيبا.» وكانوا لاقتباسهم من حضارة الفرس يقلدونهم في الملابس، وبخاصة الملوك والأمراء ورجال الحكومة وأهل الثراء، فلبسوا الأقبية والطيالسة والخفاف والجوارب، مع بقاء العامة على ألبسة العرب. ثم اختصت كل طبقة بزي خاص: فالفقهاء والعلماء كانوا يلبسون عمامة سوداء ومبطنة وطيلسانا أسود، والقضاة يلبسون القلانس الطوال والطيالسة الرقاق. وأما غيرهم من الطبقات فاختلفت ملابسهم باختلاف أحوالهم.
وكانت بغداد في ذلك الزمان عروس الشرق والغرب، وعاصمة الحضارة العربية بما جمعت من علم وأدب وثروة وطرب، وما حوت من فن وافتنان وأنس وجمال، فلا عجب أن يظهر فيها من رجال الدين والدنيا من برزوا في العلوم، ونبغوا في الفنون، وكانوا أئمة خالدين، وقادة مجددين، ونوابغ ثائرين، كالأمير الفنان والثائر الألمعي إبراهيم بن المهدي.
طاهر الطناحي
الفصل الأول
الفنان النبيل
أشرقت الشمس على ربوع بغداد في موكب حافل بالجلال والبهجة والجمال، وكان اليوم باسما حلوا نديا، وكان في روائه وطيبه مونقا صفوا زكيا. كان من أيام الربيع الضاحك الطروب، الرائع في بهاء طلعته، المختال بسحر فتنته، الشادي بأنغام الحياة وألحان الوجود.
وجلس إبراهيم بن المهدي بين مباهج هذا اليوم الوسيم على سرير من الأبنوس في شرفة قصر الذهب - قصر جده المنصور - وعليه قبة فوقها طارمة
1
ديباج أزهر، وهو يتأمل مجالس الطبيعة الحسناء، وينظر في نهر دجلة إلى انسياب الماء في الغضيرة
صفحة غير معروفة