واستطرد قائلا: «ما أشبه الحياة، يا إخوتي المباركين، بالطريق الضيق، تعترضنا فيه عقبات وصخور لا بد لنا من إزاحتها أو تحطيمها لنعبر بسلام، ونأمن شر الذئاب والوحوش المنتشرة في الغابات التي تحدق بالطريق من هنا وهنالك، فإذا كنا غير مسلحين بالصبر لا نبلغ المقر الذي نقصده ونطمع بالاستراحة فيه.» «الرجل الصابر يشبه السندان، فإنه لا يخور
49
ولا يسقط مهما اشتد عليه الضرب. كل شعب تمر عليه أهوال وبلايا، فإذا لم يثبت لها ولم يحتملها، فإنه لا يبلغ يوما يقول فيه: ها أنا استرحت؛ لأني ثبت في وجه العاصفة فلم تقتلعني.» «رأيت في أصابع كثيرين من إخوتنا بالرب خواتم محفورة عليها هذه الكلمة: «يزول». إنهم ينقشون هذه الكلمة على خواتمهم ليتذكروا دائما أننا، نحن البشر، زائلون، بل عابرو سبيل. أما أنا العبد الحقير الخاطي فلهذه الكلمة عندي معنى آخر وهو: اصبر أيها الإنسان، فكل ما يسوءك يزول؛ ولذلك أقول : اصبر أيها الشعب، فالذي يظلمك يزول، إنه يذهب وأنت تبقى إن صبرت.» «قد نرى من رؤسائنا رجال الدين والدنيا أشياء لا تنطبق على الشريعة والناموس، فنظن أن عين الله نائمة، وأنه - سبحانه وتعالى - غافل عن كل ما جرى ويجري، فيشك بعضنا ويلج
50
فيكفر، ويصبر الآخرون منتظرين عمل الله فيكون جزاءهم الفوز والظفر. إن الله يطول الحبل كما نقول في كلامنا، وكما يقول - عز وجل - بلسان نبيه داود: الله فاحص الكلى والقلوب، طويل البال شديد العقاب. فلا تيأسوا يا إخوتي، فمثل هذه الأحوال الشاذة لا تدوم، وما ترك الله شعبه في زمن من الأزمان حتى يترككم أنتم. أليس هو القائل: «من يصبر إلى المنتهى يخلص؟» «لا تشبهوا الروحانيات بالزمنيات لئلا تشكوا وتدخلوا التجارب.» «تذكروا ما مر على رءوس جدودكم من اضطهادات وظلم، وكيف قابلوها بالصبر حتى تغلبوا عليها. إن الصليب يعلمكم التضحية، فتأملوا به دائما، وتذكروا أبدا أن يد الله على قلب الجماعة.»
وكان خوري الضيعة يهز برأسه عند كل جملة، ويلتفت صوب الشعب معلنا استحسانه كلام الحبيس مؤمنا عليه ... ثم ينتفض وكأنه يريد أن يقول للحبيس: «صرح ولا تخف، كلنا معك!»
ولكن عين الحبيس كانت دائما على الخوري.
كان خائفا من إفشائه السر الذي قضت الضرورة أن يعرفه. ولما رأى الحبيس تساقط الخوري تحت حمل السر خاف عليه من الانهيار، وختم عظته بالثناء على القديس المحتفى بعيده، مانحا المؤمنين «البركة»، فخر الخوري إلى لحيته ساجدا لاقتبالها، ثم تذكر أنه لم يصب في عمله، فنهض في الحال متداركا ما بدر منه.
وانتهى القداس على خير، وخرج الناس متخشعين، إلا واحدا يعرفه الناس أنه من المتشردين، ويتهمونه بحوادث كثيرة لم تثبت عليه واحدة منها. فهذا الرجل، وهو الفتى القوال الذي هجا المير، اقترب من خوري الضيعة وقال له: «قل للحبيس أني أريد أن أعترف، إذا كان يتفضل ويسمع اعترافي.»
فتقدم الخوري من الحبيس بخضوع يبديه الكاهن لمن هو فوقه رتبة.
صفحة غير معروفة