قال: «إذا كان أبوك يسيء الظن بي ولا يصدق قولي كما فعلت أنت، فلا فائدة من سماع كلامي.»
فاستغرب ابن الفضل تعريضه به وعلم أنه يشير إلى ذهابه للبحث عن ميمونة في المدائن بعد أن أكد له سعدون أنها خرجت منها، ولكنه تجاهل وقال: ما هذا التعريض والتلميح؟ متى أسأت الظن بك؟»
قال: «أظنك تحملت المشقة في الذهاب إلى المدائن لأنك ما صدقت قولي إنها خرجت منها؟ هل وجدتها هناك؟»
فخجل ابن الفضل وغلب على حجته، ولكنه غير الحديث وقال: «سنعود إلى هذا الشأن في فرصة أخرى، والآن تعال إلى أبي فإنه سيسألك عن أمر مهم يتعلق بالدولة والخلافة.»
ففهم من هذه العبارة على سذاجة قائلها ما يغنيه عن بحث طويل وقال: «إني رهين إشارة الوزير، أين هو الآن؟»
قال: «هو في قاعة صاحب الشرطة بهذا القصر.»
فمشى سعدون إلى نعاله وشدها بقدميه وتأبط كتابه وقبض على عكازه وخرج في أثر الفضل وهو يفكر فيما عساه أن يسمع من الأسئلة، وإن كان قد أدرك أن الغرض الأول هو السؤال عن بهزاد؛ استنتاجا من قرائن الأحوال ومما سمعه من ابن الفضل من أن أباه سيسأله عن أمر يتعلق بالدولة. وكان سلمان يحذر الفضل ويخاف فراسته ودهاءه، ولا سيما بعد أن رآه مطلعا على أمر بهزاد ومجيئه إلى بغداد، وبعد أمره بالقبض عليه وإن فشل في ذلك. فسار في أثر ابن الفضل مطرقا يتمتم. ولم يكن يخاف ابن ماهان صاحب الشرطة لعلمه بضعفه وغروره.
فلما وصلا إلى مجلس صاحب الشرطة دخل ابن الفضل بلا استئذان، وظل الملفان سعدون واقفا حتى ناداه ابن الفضل، فلما دخل رأى الفضل متكئا في صدر القاعة على وسادة كبيرة وقد قطب حاجبيه وظهر الاهتمام في وجهه، وبيده مذبة يذب بها الهواء عن وجهه وكتفيه؛ إذ لم يكن هناك ما يذبه، ولكنه كان يتشاغل بذلك لما تزاحم في خاطره من الأفكار. ووجد ابن ماهان جالسا بجانبه على وسادة وقد أرسل لحيته على صدره وبالغ في صبغها بالحناء فبدت شديدة الحمرة، وكان مع وهن عظمه ما زال يغالب الشيخوخة، فجلس القرفصاء مع أن في وسعه أن يتكئ بين يدي الفضل في غير كلفة، وإنما خاف أن يعد ذلك عجزا وهرما. •••
فلما دخل ابن الفضل لم يتحرك أبوه من متكئه، وإنما وجه بصره إلى سلمان وقال: «هذا هو الملفان سعدون! أظنني رأيته بالأمس هنا؟»
فقال ابنه: «نعم يا أبت، وهو رئيس المنجمين في دار مولانا الأمين.»
صفحة غير معروفة