وكان الفضل أثناء الحديث ينظر إلى الملفان سعدون ويتفرس فيه، وقد دهش لما سمعه وكأنه ارتاب في أمره.
أما الأمين فكان شديد الرغبة في سماع تفصيل الخبر من الفضل، فألقى قضيب الخلافة على السرير بجانبه وتزحزح من مكانه، فأدرك الحضور أنه يريد أن ينصرفوا، فوقفوا وخرجوا، بينما أشار الأمين إلى الفضل أن يبقى. أما سلمان فمشى حتى بلغ مكان بغلته فركبها ومضى إلى القصر المأموني.
إلى المدائن
تركنا القصر المأموني في انتظار عودة سلمان بعد أن ذهب يبحث عن بهزاد. فلما انقضى النهار ولم يعد باتوا على أحر من الجمر، ثم أصبحوا في اليوم التالي وهم يتوقعون قدوم بهزاد أو قدوم سلمان بخبر عنه، فمضى أكثر النهار أيضا ولم يعد أحدهما؛ فأخذ القلق منهم مأخذا عظيما. ومما زاد في قلقهم أن زينب بنت المأمون أصيبت بحمى شديدة صباح هذا اليوم، على أثر ما انتابها من الحزن. ولا تسل عن حال دنانير عند ذلك؛ فقد اشتد بها القلق ورجت منها أن تقبل دعوة أحد أطباء القصر الكثيرين ، وفيهم المهرة من كل طبقة، فلم ترض إلا بهزاد، فأرسلوا الغلمان يستشرفونه من الطرق أو على الشاطئ فطال انتظارهم. وكانت ميمونة أشد قلقا منهم جميعا، وقد حرصت على ألا تظهر ذلك حتى لا تكشف أسرار قلبها.
على أنها لما رأت زينب مريضة هان عليها إظهار قلقها محتجة بالقلق على صحة بنت المأمون، فأخذت تطل ساعة من الشرفات على الطرق وأخرى من الأبواب إلى دجلة، لعلها تراه قادما على فرس أو في قارب. ولما أعياها البحث جلست في غرفة منامها وقد كل دماغها من الاهتمام وبان التعب في محياها فعلاه شحوب وتقطب، فاستلقت على الفراش وهي تحسب لتأخر بهزاد ألف حساب، وتراجع ما دار بينها وبينه في ساعة الفراق فلا تزداد إلا رغبة في لقائه.
وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فأظلمت الدنيا في عينيها وفارقها صبرها؛ فخرجت راجية أن تلقى من يخبرها بقدومه أو تسمع صوته في الدهليز، وإنما توقعت ذلك لأن رغبة الإنسان في الأمر تصور له سهولة الإدراك ولو كان مستحيلا، فكيف ومجيء بهزاد من أقرب الأمور لأنهم على موعد معه؟
ومشت في الدهليز إلى الباب المطل على دجلة، وجعلت تتفرس في السفن الصاعدة والنازلة متمنية أن يكون بهزاد في واحدة منها، وتوهمت غير مرة أنه هناك فلما تكررت خيبتها يئست من مجيئه، ثم جلست إلى مقعد بجانب نافذة تطل على دجلة وأخذت تفكر في أسباب تأخر بهزاد، موزعة النفس بين التفاؤل والتطير؛ فصارت إذا رأت طيرا يسبح في الفضاء قالت في نفسها: «إذا حط هذا الطائر على هذه الشجرة كان بهزاد قادما الليلة، وكذلك إذا تحول الطائر يمينا فإن هذا يكون فألا يبشر بقدومه، فإذا تحول إلى اليسار، فهذا مما يدعو إلى التشاؤم والتطير.»
وقضت في ذلك حينا، فلما أظلمت الدنيا انتبهت، وظنت أنها تسمع خفق نعال على المسناة قرب الباب؛ فخفق قلبها وأطلت فلم تجد أحدا، فنهضت وأسرعت إلى غرفة زينب فرأت جدتها بجانب سرير الفتاة ودنانير جالسة على السرير قربها، وقد توردت وجنتا زينب من شدة الحمى وكلهم سكوت. فلما أطلت ميمونة ابتدرتها دنانير قائلة بصوت مختنق: «أرأيت ما فعله الطبيب؟»
فقالت ميمونة: «إنه أبطأ علينا ولا بد من شاغل شغله عنا.»
فقالت عبادة: «وأغرب من ذلك غياب سلمان بعد أن وعدنا بالبحث عنه. لا إخال بهزاد إلا في المدائن الآن، وكم أنا نادمة على تقاعدي عن الذهاب للبحث عنه منذ الصباح.»
صفحة غير معروفة