قال: «الأمر لك، ولكنني لا أبيت عندك وإنما آتيك غدا إذا شئت.»
قال: «بل تبيت عندي؛ فإن القصر واسع تختار منه مخدعا لا يزعجك فيه أحد، وقد أرسلت إلى صاحب الشرطة أن يوافينا غدا إلى قصر الخلافة في مدينة المنصور؛ لأن دار الخلافة انتقلت بعد مبايعة الأمين من قصر الخلد الذي نعرفه خارج باب خراسان إلى داخل المدينة.» قال ذلك وصفق فدخل غلامه فقال له: «أعد لنا المائدة للعشاء، وقل لقيم الدار أن يعد لنا مخدعا ليبيت فيه الملفان.» قال ذلك مصمما؛ فلما رأى تصميمه خاف أن يخالفه فيفسد عليه تدبيره، فأطاع وبعد هنيهة نهض للعشاء، ثم بات ليلته هناك.
موكب ابن الفضل
في صباح اليوم التالي ركب ابن الفضل في موكبه وعليه الجبة السوداء التي يقابل بها الخلفاء العباسيين، وامتطى سلمان بغلته وهو في قيافته المعهودة، وخرجا من الرصافة غربا نحو الجسر حتى إذا قطعاه جاءا الطريق المؤدي إلى قصر الخلد فتجاوزاه إلى قصر المنصور، المعروف بباب الذهب حيث أقام الأمين بعد البيعة.
وكانت مدينة المنصور مستديرة الشكل حولها سور ضخم طوله عشرون ألف ذراع وعرض أساسه تسعون ذراعا، ثم ينحط حتى يصير في أعلاه خمسا وعشرين ذراعا وارتفاعه ستون ذراعا. وهو السور الأعظم، ويحيط به من الخارج فراغ عرضه مثل عرضه، وحول الفراغ المذكور سور آخر يقال له الفصيل، له أبراج عظام وعليه الشرفات المدورة وخارج الفصيل وحوله، كما يدور مسناة بالآجر والصاروج متقنة محكمة. وخارج المسناة وحولها خندق أجري فيه الماء، ووراء الخندق طرق للمارة والباعة ووراءها الأرباض.
وفي داخل السور الأعظم سور آخر أصغر منه، وبين السورين فراغ فيه أبنية لأهل الأسواق، ينتهى إلى كل من السورين بطريق مرصف بالحجارة، فسور المدينة ثلاثة أسوار أعظمها أوسطها.
وللسور أبواب سميت باسم المدن التي تتجه نحوها، وهي: باب خراسان، وباب الشام، وباب الكوفة، وباب البصرة. وكل منها مؤلف من عدة أبواب عليها الأبراج ولها الشرفات والكوى. ولكل باب أربعة دهاليز عظام طول كل دهليز ثمانون ذراعا كلها معقودة بالآجر والجص. فإذا دخل أحد في الدهليز الذي على الفصيل، أو السور الخارجي، وافى رحبة مفروشة بالصخر، ثم دهليز السور الأعظم وعليه بابان عظيمان من الحديد لا يغلق الواحد منهما إلا جماعة من الرجال، وهما عظيما الارتفاع يدخل الفارس فيهما بالعلم، والرامح بالرمح الطويل من غير أن يميل العلم أو يثني الرمح، فإذا مر الراكب من دهليز السور الأعظم سار في رحبة إلى طاقات معقودة بالآجر والجص فيها كوى رومية مصنوعة صنعا خاصا بحيث تدخل منها أشعة الشمس أو الضوء ولا يدخل منها المطر، وفيها منازل الغلمان.
وفوق كل باب من أبواب السور الأعظم قبة معقودة عظيمة مذهبة، حولها مجالس ومرتفعات يجلس فيها المرء فيشرف على ما دونه. ويصعد إلى هذه القباب على عقود مبنية بعضها بالجص والآجر وبعضها باللبن، وقد جعل بعضها أعلى من بعض، بشكل عجيب رهيب.
فأطل ابن الفضل بموكبه على باب خراسان، وبجانبه الملفان سعدون على بغلته، فلما رآهما الحرس وسعوا إجلالا لابن الوزير، فتقدما وهما راكبان والخدم في ركابهما، فدخلا من الدهليز إلى الفصيل أو السور الخارجي. ثم سمعوا قرقعة حوافر الجياد على الرحبة المفروشة بالصخر المؤدية إلى دهليز السور الأعظم، وكان البوابون لما علموا بقدوم ابن الفضل قد تعاونوا على فتح أحد البابين العظيمين، فسمع لفتحه صرير هائل لثقل حديده وعلوه، فدخلا بموكبهما فيه، حيث بدت العتبة العليا أعلى كثيرا من رءوس الراكبين. وكان سعدون أثناء ذلك ينظر إلى ما وراء تلك الرحبة من الطاقات المعقودة، وإلى شكل كواها الرومية وقد أطل منها الغلمان لمشاهدة الموكب، فلما خرجوا من الباب المذكور إلى الرحبة التي بينه وبين الطاقات، حول سعدون بصره إلى القبة العظمى المعقودة فوق الباب وما يغشاها من الزينة المذهبة ويتعلق بها من المجالس والمرتفعات المشرفة على كل ما حولها، وأخذ يتأمل فيما عليها من المصاعد المبنية بالجص بعضها فوق بعض، وقد امتلأت نفسه إعجابا وعجبا من عظمتها ورهبتها.
تجاوز موكب ابن الفضل تلك الطاقات ودخل إلى باب آخر غير أبواب السور المذكور ورقوا منه إلى الرحبة الكبرى في منتصف المدينة، وكان قصر المنصور في وسط الرحبة، يسمونه قصر الذهب نسبة إلى بابه المذهب، وبجانب القصر المسجد الجامع المعروف بجامع المنصور. ومشى الموكب في الرحبة مسافة كبيرة في خلاء لا بناء فيه حتى أقبل على القصر والجامع وسط الرحبة، وحولهما فناء ليس به من الأبنية غير دار من جهة الشارع المؤدي إلى باب الشام يقيم بها الحراس، وسقيفتين ممتدتين على عمد مبنية بالآجر والجص، يجلس في إحداهما صاحب الشرطة وفي الأخرى صاحب الحرس. وكانت حول الرحبة منازل بناها لأبناء العم الأصاغر ولمن يقربهم من خدمه وعبيده، وأبنية لبيت المال، وخزانة السلاح، وديوان الرسائل، وديوان الخراج، وديوان الخاتم، وديوان الجند، وغيرها. وبين الطاقات مسالك ودروب أعدها المنصور لقواده ومواليه.
صفحة غير معروفة