فقالت دنانير: «إذا كنت مصرة على الرفض فأنا طوع إرادتك، وهذا القصر وأهله في خدمتك، فإذا شئت الإقامة به أقمت على الرحب والسعة. ولا أظن أحدا يجسر على إخراجك منه. وقد أفرحني ما آنسته من ارتياح مولاتي زينب إليك، وأنت تعلمين نفوذها عند أمير المؤمنين الرشيد، فمتى عاد وسطناها لديه وهو لا يرد لها طلبا؛ فانعمي بالا.»
فتنهدت عبادة وسكتت هنيهة ثم قالت: «أخشى يا دنانير أن يكون في إقامتنا هنا بأس على أهل هذا القصر؛ لأن النحس ملازم لنا، فلا أحب أن يلحقكم شيء منه.»
فتأثرت دنانير من قولها وأخذت تخفف عنها.
دنانير وأم جعفر
سمعت دنانير وقع خطوات مسرعة في الدهليز فنهضت إلى الباب وفتحته فرأت أحد الغلمان واقفا بالباب يقول: «جاء الطبيب يا سيدتي.»
فأبرقت أسرتها ولم تتمالك أن قالت: «الطبيب جاء؟ لقد أبطأ، دعه يدخل.» قالت ذلك ورجعت إلى عبادة وهي تبتسم وتقول: «جاء طبيبنا الخراساني الذي ذكرت لك أنه يتردد على المدائن، فعسى أن ينفعنا في معرفة صاحبكم الذي ذكرت أنه واساكم هناك.»
ففرحت عبادة بالبشرى، ولبثت تنتظر مجيء القادم بفارغ الصبر ولم تمض دقائق قليلة حتى سمعتا حركة ووقع أقدام، فرجعت دنانير إلى الباب لتستقبل القادم. فلما رأته مقبلا قالت: «لقد أبطأت علينا أيها الطبيب هذه المرة، جعل الله المانع خيرا.»
وكانت عينا عبادة على الباب وقد أصلحت خمارها، فسمعت الطبيب يقول: «لقد أبطأت عليكم لعذر قاهر، فهل أنتم في حاجة إلي؟» قال ذلك وفي كلامه عجمة، فلما سمعت عبادة صوته خفق قلبها لأنها عرفت فيه صوت جارهم بهزاد. ثم دخل الطبيب، فلما وقعت عيناها عليه تحققت أنه هو بعينه صاحبهم، فقالت: «هذا بهزاد!» أما هو فحالما رآها خلع نعاله وأسرع نحوها فصافحها وتلطف في السلام عليها وقال: «أنت هنا يا خالة؟»
فقالت: «نعم يا سيدي، وقد جئت لزيارة دنانير.» فبغتت دنانير لذلك الاتفاق وقالت: «إذن بهزاد صاحبكم هو طبيبنا؟ ما أجمل هذا الاتفاق. تفضل يا سيدي.» وأشارت إلى كرسي فمشى بهزاد بقدم ثابتة وخطى واسعة حتى جلس عليه، وكان طويل القامة عريض ما بين المنكبين كبير الجمجمة واسع الجبهة أبيض الوجه أسود العينين غائرهما، مع حدة وذكاء، خفيف اللحية صغير الشاربين. وكان في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وقد تزمل بعباءة سوداء، وعلى رأسه قلنسوة قصيرة ليس حولها عمامة. وكان لطوله وعرض منكبيه إذا مشى تقلع كأنه ينحط من صبب، وإذا أقبل عليك حسبته من الجبابرة الذين يتحدثون بعظم هاماتهم، ورأيت في عينيه رقة ونفوذا يدلان على قوة الإرادة وصدق الطوية. وكان لا يرى إلا مقطبا والاهتمام باد في محياه، في غير جفاء أو خشونة. ويندر أن يضحك، كما أنه قليل الكلام كثير التفكير، يستأنس به جليسه ولكنه يهابه ويشعر بقوة سلطانه عليه.
فلما جلس ابتدرته دنانير قائلة: «لقد كنا نتحدث عنك ساعة الغروب ثم ذكرناك في عرض حديث جرى لي مع سيدتي أم جعفر. وأنا أحسبك غير بهزاد الذي ذكرته لي؛ لأني لا أعرفك بهذا الاسم. فأحمد الله على أنك أنت صاحب الجميل عليها!»
صفحة غير معروفة