فخجلت الفتاة وتوردت وجنتاها وتلألأت عيناها الدعجاوان وظهر فيهما الدمع وأطرقت، فاغتنمت دنانير هذه الفرصة وقالت: «كنت منذ دخولك علينا أفكر في هذه الفتاة الجميلة وأتفرس فيها فلم أعرفها.»
قالت: «إنها بنت الشقاء ونتاج المصائب، وليس في بغداد من يعرف حقيقتها غيري، وقد كتمت أمرها عن كل إنسان خوفا على حياتها، وإنما أردت البقاء على قيد الحياة لأجلها. وهذه أول مرة أبوح باسمها فهل أقول ذلك وعلي الأمان؟»
فقالت دنانير: «لم يبق داع للحذر بعد ما شاهدته من انعطاف سيدتي الحبيبة إليك، ومن ذا يسمع حديثك ولا يشعر بشعورك؟ قولي لا تخافي واطلبي ما تحتاجين إليه فإنك نائلة ما تريدين.»
فتنهدت وهي تصلح نقابها على رأسها وقالت: «إن هذه الفتاة ربيبة التعاسة، إنها بنت الوزير المقتول ... ابني جعفر.»
فبغتت دنانير وأعادت نظرها إلى الفتاة لعلها تتذكرها، ثم قالت: «لا أذكر أني أعرفها.»
فقالت: «نعم، إنك لا تعرفينها؛ لأنها ولدت بعد خروجك من بيتنا إلى بيت مولانا المأمون. وكان هذا من حسن حظك؛ لأن البيت الذي كان مقصد السائلين ومقر الوافدين وملاذ الخائفين أصبح بلاء على أهله؛ فغدا ذكرهم تعسا على الأقرباء والمريدين.» وغلب عليها البكاء فسكتت ريثما تسترجع رشدها، ثم قالت: «إن حفيدتي هذه ولدت بعد خروجك، ولما نكب أبوها كانت لا تزال صغيرة، واتفق أنها كانت قد خرجت ذلك اليوم مع إحدى الجواري إلى بعض ضياعنا في ضواحي بغداد، فلما صادر الرشيد ضياعنا فرت بها جاريتها إلى قرية بعيدة عن أعين الرقباء، وظلت هناك حتى علمت بأمرها فاحتضنتها وخرجت بها هائمة على وجهي بعيدا عن بغداد، وأقمنا بالمدائن عند جماعة لا يعرفوننا وإنما آوونا إكراما لوجه الله؛ فقضيت هناك عدة أعوام في مأمن من وشاية الواشين. وسخر لنا الله رجلا لا نعرفه، فكان أحن علينا من الوالد وأشفق من الأخ، وكان يقيم ببيت مجاور لمنزلنا في المدائن. وهو غريب لا نعرف أصله ولا فصله، ولكن العناية ساقته إلينا من حيث لا ندري، فكان يتردد علينا ينظر حوائجنا ويأتينا بما نحتاج إليه عفوا لا يلتمس على ذلك أجرا ولا شكورا. وقضى هذه الأعوام في إعالتنا ونحن لا نعرف من هو؛ فخيل إلينا أنه رسول من السماء بعثه الله رحمة منه بنا.»
وكانت دنانير في أثناء الحديث ترمي ببصرها إلى الفتاة إعجابا بجمالها، فلما بلغت جدتها إلى ذكر ذلك الرجل تشاغلت الفتاة بإصلاح خمارها لتخفي ما كاد يبدو في محياها من الاحمرار. ولو انتبهت دنانير إلى تورد وجنتيها لأدركت ما تكنه جوارحها وتحاول إخفاءه، ولكنها كانت في شاغل عنها بغرابة الحديث.
فلما بلغت في حديثها إلى ذكر ذلك الغريب غلب الإعجاب به على دنانير فقالت: «إن الدنيا لا تخلو من المحسنين، وقد سمعنا عن مثل هذه الشمائل في البرامكة ولم نعهد مثلها في سواهم. ألم تعرفي من هو ذلك المحسن؟»
قالت: «لم نعرف من هو، ولكن يظهر أنه فارسي الأصل، وقد جاء المدائن منذ بضعة أعوام وهو يتكتم أمره، فإذا دخل أغلق بابه وقضى يوما أو بضعة أيام لا يراه أحد، حتى كثرت أحاديث الناس بشأنه؛ فمن قائل إنه يشتغل بالكيمياء، وقائل إنه ساحر، وزعم آخرون أنه من كبار أهل الثروة وقد جمع ثروته من كنز عثر عليه في منزله؛ لأنه يقيم ببيت مبني على أنقاض إيوان سابور الذي كان الخليفة المنصور يقيم به قبل بناء بغداد.»
فقالت دنانير: «وما اسمه؟»
صفحة غير معروفة