فلما تحققت أنه غير مجيبي نهضت وأنا أقول له: «قد وهبته وجعلتك في حل منه.» وخرجت ونسيت مصيبتي وجففت دمعتي، وأنت ترين دمعي الآن وكيف أني أكاد أختنق به ، أما في ذلك اليوم فلم تسقط لي دمعة.»
ولما فرغت أم جعفر من حديثها أقفلت الحق على ما فيه وجعلته في جيبها وقالت: «لم يبق لي مأرب الآن في الرجاء؛ فإن الذي كنت ألتمس رضى الرشيد عنه ارتاح من شقاء هذه الحياة فمات في حبسه، ومات بعده ابني الفضل بالأمس في سجنه بالرقة.» وصمتت هنيهة وهي تمسح عينيها، وأطرقت ثم قالت: «ولكن موته لا بد أن يعقبه أمر عظيم؛ لأني كثيرا ما كنت أسمعه يقول: «إن أمري قريب من أمر الرشيد.» ولكنني أطلب من الله أن يطيل عمر أمير المؤمنين.»
فخفق قلب زينب خوفا على جدها، ولكنها استحسنت استدراك أم جعفر بالدعاء له بطول البقاء، وعادت إلى التفكير في غرابة حديثها. •••
كانت عبادة أم جعفر تقص حكايتها بلهفة وفصاحة، وأم حبيبة مقبلة عليها بكل جوارحها وعيناها شاخصتان تراعي حركات شفتيها، وغلب عليها التأثر غير مرة وأحست كأنها تجهش بالبكاء. ولما أتت أم جعفر على آخر الحديث انقلب إشفاقها إلى إعجاب وإكبار، لما عاينته من أنفتها وعزة نفسها. وأحست بانعطاف إليها وشاركتها تألمها بما أصابها من الثكل والفشل، وإن كان مثلها لا يدرك كنه المصائب، ولكنها كانت كبيرة العقل والقلب تفهم وتحس أكثر مما تقتضيه سنها.
وكانت قد نسيت لهفتها لمعرفة رفيقة أم جعفر لاشتغالها بسماع الحديث، فلما انتهى أجالت نظرها في الفتاة وجعلت تتفرس فيها والحشمة تمنعها من الاستفهام، فأدركت دنانير ذلك وهي أشد لهفة منها لاستطلاع أمرها، وكانت أثناء الحديث تسترق اللحظ إلى الفتاة لعلها تستطلع شيئا من أمرها فلم تستطع، فصبرت نفسها إلى آخر الحديث. وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فأمرت الخدم أن يضيئوا الشموع القائمة على المنابر في جوانب القاعة، وهي شموع ضخمة كانوا يتأنقون في اصطناعها ويمزجونها بالعود، فإذا أضيئت فاحت رائحة العود وتضوع المكان بها. وعادت دنانير إلى التفكير في الغرض الذي جاءت أم جعفر لأجله ذلك اليوم بعد طول احتجابها، فأرادت أن تسوقها إلى التصريح بذلك عفوا فقالت لها: «إن حكايتك يا مولاتي غريبة، وأغرب منها احتجابك عنا كل هذه السنين والناس لا يعرفون مقرك؛ فأين كنت تقيمين؟»
فتنهدت وقالت: «كنت محتجبة لأن مثلي خليقة أن تدفن نفسها حية، ويا ليتني مت منذ عشر سنوات ولم أكابد ما كابدته من مرارة القهر والذل، أنت تعلمين يا دنانير حالي في بيت جعفر.» وغصت بريقها وأطرقت، فتناولت دنانير الحديث نيابة عنها وقالت لزينب: «نعم يا سيدتي، إني أعلم الناس بما كانت عليه في أيام عزها، وأذكر في عيد النحر من بعض السنين أن مولاتي عبادة هذه كانت في بيت ابنها الوزير وعلى رأسها 400 جارية!»
فقطعت عبادة كلامها قائلة: «وكنت مع ذلك أعد ولدي عاقا، وقد مرت علي في محنتي هذه أيام لا أجد جلدي شاتين أفترش واحدا وألتحف الآخر، على أني لم أكترث لهذا كله اكتراثي للأمر الذي جئتكم لأجله الليلة، وأظنني ثقلت على مولاتي أم حبيبة.»
وكانت زينب قد أحبت عبادة واحترمتها، ونسيت ما يكسوها من الأثواب البالية - على عادة الناس في الحكم على جلسائهم لأول وهلة، فإنهم يقدرونهم أولا بما يظهر من لباسهم وحلاهم، فإذا اختبروهم قدروهم بمواهبهم وقواهم - فخاطبتها باحترام وقالت لها: «معاذ الله يا سيدتي، فإنك تنزلين عندنا على الرحب والسعة ولك كل ما تحتاجين إليه.» ثم التفتت إلى دنانير وقالت: «أعطيها كل ما تحتاج إليه!»
فوقفت عبادة وقبلت رأس زينب وقالت: «شكرا لك على إحسانك يا سيدتي، ولكن الأمر الذي جئت به إليك أهم عندي مما تفضلت به وإن كنت لا أستحق هذا ولا ذاك.» فبادرت إليها دنانير قائلة: «قولي فإن لك كل ما تريدين، هذا ما أمرت به مولاتنا حفظها الله.»
قالت: «سألتني يا دنانير عن احتجابي كل هذه السنين عن بغداد ... كيف أقيم في مدينة أرى فيها جثة ولدي معلقة على جسورها وقد شطروا الجثة شطرين، صلبوا شطرا على أحد الجسور والشطر الآخر على الجسر الثاني وعلقوا الرأس على الجسر الثالث ليراها المارة صباح مساء، ألم تبق جثة جعفر معلقة على هذه الجسور سنتين وبعض السنة حتى عاد الرشيد من الري سنة 189ه فأمر بإحراقها؟ وكأنه شعر بفظاعة الأمر فهجر بغداد من يومه وسكن الرقة وما زال فيها حتى خرج هذا العام إلى خراسان، وهبي أني رضيت المقام، فعيون الرقباء ساهرة وأمر الخليفة مشدد بالنقمة على كل من يذكر البرامكة بخير، فكيف لو عرفوا بوجودي، ألا يسرعون إلى تقطيعي إربا إربا. وما أنا بخائفة من الموت فإنه أيسر ما أقاسيه، ولكنني رغبت في الحياة من أجل هذه الفتاة.» وأشارت إلى رفيقتها وتحولت الأنظار إليها.
صفحة غير معروفة