ثم سمع الأمين يصيح قائلا: «أين مقرطتي؟ أين ذهبت؟ من أخذها؟ يا سعيد، يا جوهر، يا كوثر، يا ... تعالوا، أظنها وقعت في البركة، ابحثوا عنها، ألقوا الشباك.»
فلما سمع كلامه تذكر ما سمعه من الهرش، وعرف ما يعنيه؛ فقد كانت هذه الضجة كلها لأن الأمين أضاع مقرطته، وهي سمكة كانت قد صيدت له صغيرة فقرطها حلقتين من ذهب فيهما حبتا در، وكثيرا ما كان يلهو بها، فاتفق أن تفقدها في هذه الساعة فلم يجدها، وشغل أهل القصر بالتفتيش عنها. فلما رأى سعدون ذلك تنحى جانبا حتى يفرغ الأمين من لهوه أو يجد مقرطته، وقال في نفسه: «كيف تستقيم أمور دولة هذا شأن خليفتها؛ فلا عجب إذا فاز أخوه الساهر على أمره، ومعه جند يتفانون في نصرته؟ وهذا إنما يحيط به المتملقون طمعا في رفده.»
وفيما هو كذلك رأى الأمين ينظر إليه وقد تحول مجونه وتهتكه إلى جد واهتمام، وأشار إليه أن يتبعه؛ فمشى سعدون في أثره حتى اجتاز باب القصر الداخلي واتصل منه إلى دهليز ينتهي بقبة يسمونها «طارمة» مصنوعة من خشب الصندل والعود، مساحتها عشر أذرع في مثلها، اتخذ لها فراشا مبطنا بأنواع الحرير والديباج المنسوج بالذهب الأحمر وغير ذلك من أنواع الإبريسم، ورأى رجالا وقوفا ببابها عليهم سيماء الوجاهة، وقد وسعوا للأمين عند دخوله، ومنهم: إبراهيم بن المهدي عم الخليفة، وسليمان بن جعفر المنصور من شيوخ بني هاشم. فلما دخل الأمين أشار إلى سعدون بالدخول وصرف الباقين، فترك سعدون عكازه ونعاله بالباب ودخل. فجلس الأمين على دكة في صدر القبة وأشار إليه أن يقعد، فقعد وهو يعجب لتغير حاله. ووقع نظره على آثار لمجلس شراب وغناء كان منعقدا هناك قبل مجيئه، فرأى الأقداح مبعثرة والأباريق متفرقة بين فارغ ومملوء وأطباق الفاكهة مصفوفة، ورأى بين يدي الأمين قدحا من بلور يسع شرابا يزن خمسة أرطال وقد قلب وانكسر. ورأى قدحين مثله بين وسادتين كان عليهما اثنان من خاصة الجلاس لعلهما سليمان بن المنصور وإبراهيم بن المهدي، وهما أرفع مقاما من سائر جلاسه.
فأدرك سعدون أن الأمين كان في مجلس طرب وعلم بضياع مقرطته فأسرع للبحث عنها، ولكنه استغرب انقلابه من اللهو إلى الاهتمام، فلبث ساكتا حتى يبدأ الأمين بالكلام. أما هذا فإنه أزاح بقايا القدح المكسور بين يديه ونظر إلى سعدون وتنهد وقال: «لم يبق لي صديق أودعه سرى إلاك؛ فرجالي تفرقوا عني ولم أجد بينهم مخلصا؛ لأنهم إنما يطلبون مالي، أما أنت فقد أعجبت بعلمك واطلاعك على الخفايا فأحببت أن أستشيرك، ويسوءني أنك جئتني ورأيت اشتغالي بعبث الغلمان، ثم دخلت هذا المجلس ورأيت ما فيه من آثار الندمان، على ما نحن فيه من أسباب القلق وبواعث الاهتمام.» ثم تنهد تنهدا عميقا وقال: «ولكنني أفعل ذلك لأذهب ما بي من اليأس، فبعثت إلى بعض أعمامي، فجاءوا إلي بالمغنيات والشراب فشربنا وسمعنا، ولم يذهب شيء مما في نفسي، بل زدت يأسا وكدرا لما سمعت الجواري ينشدن من أبيات الشؤم، ولا أدري أفعلن ذلك عمدا أم اتفاقا كقول إحداهن:
وهم قتلوه كي يكونوا مكانه
كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
وإني لأخشى ممن حولي وهم مثل مرازبة كسرى ليس فيهم من يهمه أمري، حتى الفضل وزيري تخلى عني وتركني واختفى، وزادني تشاؤما أن إحدى المغنيات قامت لحاجة لها فعثرت بهذا القدح فكسرته، وهو قدحي ما برحت أشرب به منذ أعوام لم يصبه عطب. فهل ألام إذا تطيرت؟» قال ذلك وصوته يكاد يختنق.
فقال سعدون: «لا بأس عليك يا مولاي.»
فقطع الأمين كلامه قائلا: «حتى أنت لم تصدقني هذه المرة أو أن تنجيمك لم يصدق.»
قال: «وكيف ذلك؟»
صفحة غير معروفة