أمين الريحاني: ناشر فلسفة الشرق في بلاد الغرب

توفيق سعيد الرافعي ت. 1400 هجري
153

أمين الريحاني: ناشر فلسفة الشرق في بلاد الغرب

تصانيف

لنعد إذن إلى هباسيا؛ فقد وصلنا إلى ما يثير الأحزان من أمرها، فإن هذه العالمة الحكيمة، التي كان يكرمها الإسكندريون الراقون، ويستفتيها العلماء العاملون، ويستشيرها في أمور السياسة الحكام، لم تنج من كره المتعصبين من المسيحيين؛ فبعد أن خدمت العلم والفلسفة أربعين سنة خدمات جليلة، ماتت موت الشهداء على أفظع طريقة وأنكرها، كما ستعلمين. (8-3) البطريق كيرللوس

لم تكن الإسكندرية في ذاك الزمن مهد العلوم المادية فقط، بل كانت عش الكلام أيضا والسفسطة؛ وبينا كان نستوروس وكيرللوس يتنازعان في عقيدة عبادة العذراء، وأثاناثيوس وآريوس يتناقشان في عقيدة المشيئة الواحدة والمشيئتين، كان علماء الإسكندرية يشتغلون هادئين باكتشافاتهم واختراعاتهم. ومن آباء الكنيسة الذين اشتهروا بالفصاحة والعلم، والتعصب والدهاء، والمعاندة والمكابرة: كيرللوس، الذي كان بطريق الإسكندرية على زمن هباسيا، فبينا هي كانت تلقي دروسها في العلوم والفلسفة على الألوف من الطلبة، كان كيرللوس يثير من على منبره خواطر النصارى على اليهود، ولما ارتقى إلى المنصة البطريقية في الإسكندرية كانت هباسيا في أوج شهرتها، وقد تجاوزت الخمسين من عمرها، ومنذ ذاك الحين إلى أن قتلت لم يطب للبطريق عيش، ولم يسغ له شراب. وإن أمره في التعصب والحقد والاستبداد مشهور لدى المؤرخين؛ فحينما ذهب إلى أفسس ليناقش نستوروس في عقيدة العذراء استصحب زمرة من رعاع الإسكندرية، حتى إذا ضاقت به أبواب الجدل هاجهم على عدوه، وعندما تبوأ كرسي السيادة طرد اليهود من الإسكندرية، وبعث بعسكر على معابدهم وبيوتهم فنهبوها ودمروها، وارتكبوا من الفظائع فيها ما تقشعر لهوله الأبدان.

ولا يخفى عليك، سيدتي، أن البطريق في تلك الأيام كانت له قوة الحاكم المدني، فإن فرقة من الجنود كانت دائما موقوفة لخدمته لتنفيذ أوامره، على أن محافظ البلد أورستيس لم يستطع صبرا وسكوتا على هذه الفظائع التي ارتكبها كيرللوس باسم الدين، فناهضه برهة - وكانت هباسيا في هذا الخصام نصيرة المحافظ، بل نصيرة الحق - واستمر هذا النزاع إلى أن حدث الحادث الهائل الذي أودى بحياة ابنة ثيون العالمة الجميلة. ولا تظني، سيدتي، أن هذا هو السبب الوحيد الذي أثار خاطر كيرللوس على هباسيا، فإن رأس الخلاف بينهما لأبعد من هذا. أجل، إنما هو نزاع بين العلم والخرافة، بين التعصب والفلسفة، بين الحرية والاستبداد، بل هو نزاع بين عذراء وثنية أقامت على فضائل الدين المسيحي دون أن تعتنقه، وبين بطريرك استخدم الدين واسطة لإشفاء غليله ونيل مآربه، وفاز بذلك فوزا مبينا، حتى إن المحافظ أورستيس أشفق على منصبه وحياته من تعصب البطريرك وتغيظه، ولكن ذنب المحافظ ذنب سياسي فقط، وذنب هباسيا سياسي علمي ديني؛ لذلك اختارها كيرللوس هدفا لحقده وغضبه. وسأنقل إليك حادثة قتلها كما رواها واتفق في روايتها المؤرخون.

عندما كانت هباسيا عائدة في عربتها من المتحف الملكي قاصدة بيتها، تصدى لها جمهور من رعاع المسيحيين وفيهم الرهبان، وفي مقدمتهم بطرس الشماس الذي كانت له في الجريمة المنكرة اليد الطولى، فأسقطوها من العربة، وجروها إلى السيزاريوم - وقد كانت في ذاك الزمان كنيسة للنصارى - ونزعوا عنها كل ثيابها، ومزقوا جسدها تمزيقا بصدف المحار - وقيل بشقف من القرميد والفخار - ثم قطعوها إربا إربا، وذهبوا بها إلى خارج المدينة وحرقوها هناك. وكان ذلك في آذار سنة 415، في عهد الملك تيودوسيوس الثاني. فقدس كيرللوس في صباح اليوم التالي على عادته، وأكل جسد الرب، ولكنه لم يستطع أن يقول ما قاله بيلاطوس قبله بأربعة قرون: «أنا بريء من دم هذا الصديق.»

لا، فإن البطريرك مسئول عن قتل هباسيا على هذه الطريقة الفظيعة الشنعاء، وقد يتطرف المؤرخون ويعتدلون - بحسب نزعاتهم السياسية وصبغاتهم الدينية - ولكن ما من واحد منهم يرتاب في أن البطريرك كيرللوس هو العامل الخفي على قتل هباسيا.

وقد قال ثيودزوت - وهو من آباء الكنيسة المشهورين: إن لكيرللوس يدا خفية في هذه الجريمة.

وقال أحد المؤرخين المعتدلين: إن لم تقتل هباسيا بأمر صريح واضح من البطريرك، فقد قتلت بعلمه وإرادته.

وقد أدهشني عنوان طويل لكتاب، طبع في إنكلترا سنة 1720، في هذا الموضوع، قال المؤلف: إن هذا «تاريخ امرأة عظيمة في علمها وفضلها وفصاحتها وأخلاقها وجمالها، قتلها إكليروس الإسكندرية ومزقوها إربا إربا إكراما لخاطر بطريركهم الذي يدعى بلا استحقاق القديس كيرللوس».

وفي قتلها أقفل باب المتحف العظيم الذي شيده رفيق الإسكندر، في قتلها كانت نهاية العلم والفلسفة في المغرب، في قتلها تم للتعصب النصر على الحرية والتهذيب، فأقفل باب النور الذي فتحه بطليموس في الإسكندرية - كما أقفله بوستنيانوس في أثينا، فكان سميليسيوس آخر الفلاسفة في بلاد اليونان - وكانت هباسيا خاتمة الفلاسفة في بلاد مصر. ومنذ هاتين الحادثتين المنكرتين تبتدئ ما يدعى في التاريخ «العصور المظلمة»، وتستمر في أوروبا أحد عشر قرنا.

هذي هي سيرة هباسيا «العظيمة في علمها وفضلها وجمالها»، بل هذه قصة النزاع بين الدين والفلسفة في ذلك الزمان. ومهما قيل في البطريرك كيرللوس، فمن المقرر، سيدتي، أن الرجل الذي يعمل ما عمله في اليهود، الرجل الذي يهيج رعاعه على نستوروس في مجمع أفسس، الرجل الذي يستخدم القوة العسكرية لإثبات عقيدة لاهوتية وتعزيزها، لا يتردد في أمر امرأة عملت على هدم صروح الخرافة والأوهام، فقولي إذن: رحم الله أمثال كيرللوس من البطاركة، وجعل أمثال هباسيا من المقربين المكرمين.

صفحة غير معروفة