هذا وقد أخذنا حظنا من هذه المدينة وطال الاغتراب، فحسبنا أن نرجع بزميلنا تلقاء ديارنا، على شريطة أن تكون أوبتنا على طريق من آثارنا؛ فنمر «بسهل الأندلس» الفيحاء، فنسمعه هناك شعر النابغين من العرب العرباء، ونذرف دمعة أمام مجد الآباء الضائع، وتراث الأجداد الفقيد. ولعل أحسن تأسية لنا ولزميلنا أن نتعظ بذلك الدرس الحكيم، الذي هو «كبذور الزارعين»، ونعرف أن من زرع وردا جنى منه وليد بذره، ومن بذر حنظلا لا يجني منه آسا وياسمين.
ومن هنا يحسن بنا أن نعود بزميلنا إلى مدينة الإسكندرية «نيويورك البلاد المصرية» بعزم ثابت، ملاحظين أن المسافر هدف المشقة، وانتياب الجوع، ولكن الرجل لا يضيره جوع ساعات أو تحمل المشقات في سبيل أوبته إلى وطنه، فعساه بعد ذلك يعرف قدر نعمة السعة فيحن للبائس المسكين، ويرحم الجائع والفقير، ولعل زميلنا بوصوله ثغر الإسكندرية، واستنشاق هواء بلاده قد نسي مشقة التعب، وارتاح من وعثاء السفر وألم الجوع، غير أننا لا ندعه حتى نقص عليه قصص «هباسيا» المصرية، ابنة الفيلسوف ليون، فيعلم أن ما رأى من حضارة، وما شاهد من عمران في رحلته هذه، زاهد يسير بنسبته إلى ماضي مدنيته المصرية، ثم ننشده بعد ذلك - ونحن في طريق أوبتنا إلى القاهرة - شيئا من الشعر المنثور، أو الشعر الحر. وهو آخر ما اتصل إليه الارتقاء الشعري عند الأميركيين .
فمن شاء من القراء مشاطرة زميلنا ما رأى وما سمع في رحلته هذه؛ فليطرق باب المختارات.
باب المختارات
المختارات النثرية (1) وصف بيروت
أيها البيروتيون:
أقمت في هذه البلاد - بلادنا - ست سنوات، ولم أستطع قبل الآن أن أقول في بيروت كلمة حق يرضاها قلب شغف بحب بلاده، ولا ينكرها عقل شغف بحب الحقيقة. نظرت إلى هذه المدينة بعين رأت مدن أوروبا وأميركا، فاستصغرتها وندبت حظها، ثم نظرت إليها بعين شاهدت غيرها من مدن سوريا، فأحببتها وأكبرت شأنها. وأنا الآن ناظر إليها بالعينين فأصفها وأنصفها.
بيروت أم البلاد السورية وأمة البلاد السورية، أميرة المدن الآسيوية، وأجيرة المدن الآسيوية، بيروت حسنة من حسنات التمدن، وآفة من آفاته.
بيروت لؤلؤة شرقية في صيغة من النحاس غربية. هي خلخال في رجل سلطانة المشرق عند الصباح، وأسوار في معصم ربة المغرب عند الغروب. هي ذرة في أوحال تئن فوقها الكهرباء، هي مرجانة على ساحل اختلط تبره برماله، ولجينه بأوحاله.
ساحل النغولة مهد أم المدن السورية وعرشها.
صفحة غير معروفة